التسامح.. المعنى والمغزى
قاسم عبده قاسم
التسامح مصطلح مربك ومحير ولكن متابعة رحلته في الثقافة والسياسة والتاريخ قد تخفف من الحيرة.
«التسامح» مصطلح تردد بشكل لافت للنظر في الأدبيات السياسية خلال السنوات الأخيرة. وقد كثر استخدامه في مجال الحديث عن الجوانب الدينية بشكل خاص, وربما استخدم على استحياء في الحديث عن «الحوار», والتعامل مع «الآخر» والقبول بالتعددية السياسية والثقافية والاجتماعية أيضًا.
و«التسامح» في اللغة يعني أن تتغاضى عن خطأ ارتكبه آخر, أو التساهل في حق, أو الصبر على إساءة ما. بيد أن المصطلح اتخذ أبعادًا غير الأبعاد اللغوية وصار يعبر عن موقف ثقافي/اجتماعي. وفكرة «التسامح» نفسها تبدو نابعة من ثقافة «غير متسامحة» في جوهرها. كيف?!
تبدو المفارقة واضحة من حيث إن هذا المصطلح ينطوي بالضرورة على مفهوم يقول إن هناك «خطأ» أو «خطيئة» ينبغي التسامح إزاءها. وهو ما يشي بدوره إلى أن من ينادون «بالتسامح» ينطلقون من موقف منحاز يرى أصحابه أنهم على حق, «والآخر» على باطل, ولكن الضرورة تفرض عليهم التسامح إزاء هذا الآخر لسبب أو لآخر. ويقودها بالضرورة إلى التفكير في أصول هذا المصطلح, أي مصطلح, ومنابعه وأبعاده الثقافية والنفسية والاجتماعية, إذ إن المصطلح ليس مجرد كلمة تحمل معنى ما, وإنما هو تعبير عن موقف ثقافي / اجتماعي يرى الذات والآخر من منظور استعلائي, «ويتسامح» إزاء اختلاف هذا «الآخر» وغيرته. وهو ما يشي بأصول ثقافية / اجتماعية غير متسامحة أصلاً.
والناظر في تراث الثقافة العربية الإسلامية بوجه عام, وفي الأدبيات السياسية والاجتماعية بوجه خاص, لن يجد هذا المصطلح مستخدمًا, وإنما سيجد حديثًا عن الحقوق والواجبات. وفي الإدارة المالية والضرائبية سنجد مصطلحًا مشابهًا هو «المسامحة» بمعنى إسقاط الضرائب المستحقة للدولة نتيجة ظروف طارئة. ولم يدخل المصطلح حياتنا الثقافية إلا في العقود الأخيرة متسربًا من ترجمات الأعمال الأوربية والأمريكية لينضم إلى قائمة المصطلحات والمفاهيم التي تنتجهاالثقافة الغربية ونستهلكها دونما وعي!
لقد قامت العلاقة بين «الأنا» و«الآخر», في الحضارة العربية الإسلامية, على أساس أخوة الجنس البشري كله من ناحية, وعلى أساس حق «الآخر» في الوجود والاختلاف من ناحية أخرى. فمن حق الناس جميعًا أن يعيشوا كما يشاءون, وأن يعتنقوا ما يؤمنون به من عقائد, بشروط أهمها مراعاة حقوق الآخرين وواجباتهم إزاء هؤلاء الآخرين. والحضارة الوحيدة في تاريخ البشرية التي سمحت «للآخر» أن يعيش في رحابها ويبدع ويصل إلى مراتب عليا في الإدارة الحكومية, أو في الحياة العلمية والثقافية والاقتصادية, هي الحضارة العربية الإسلامية. فالعلاقة بين «الأنا» و«الآخر» في هذه الحضارة علاقة تمايز واختلاف, وليست علاقة تميّز واستعلاء.
وتكمن المفارقة الواضحة في أن الحضارة الغربية التي أفرزت مصطلح «التسامح» ليست حضارة «متسامحة» إزاء الآخر بأي حال من الأحوال! فهي حضارة تقوم على فكرة استعلائية مستمدة دينيًا من فكرة «الشعب المختار» التي ورثتها المسيحية الغربية «بشقيها الأوربي والأمريكي, أو الكاثوليكي والبروتستانتي», عن العهد القديم في الكتاب المقدس, والذي يتحدث عن بني إسرائيل القدماء الذين يزعمون أن الرب اختارهم وميَّزهم على سائر البشر. فقد قالت الكنيسة إن اليهود نقضوا ميثاقهم مع الرب حين آذوا المسيح عليه السلام وأنكروه, فصار أتباع المسيح هم شعب الله المختار الجديد. ثم حدثت تطورات تاريخية (يرويها الفصل الثالث من هذه الدراسة) جعلت فكرة الاختيار مُسخرة في خدمة المطامع الاستعمارية بشكل أو بآخر, ولاسيما في تاريخ بريطانيا العظمى والولايات المتحدة الأمريكية. ويمكن تفسير ذلك من خلال دراسة تاريخ تطور المفاهيم الثقافية الغربية حتى أيامنا هذه.
على أي حال, فإن الحضارة الغربية الكاثوليكية (ثم الكاثوليكية البروتستانتية فيما بعد) قد صاغت مفهوم «التسامح» لحل مشكلات ثقافية/اجتماعية أوربية في أواخر العصور الوسطى, وفي بداية عصر النهضة, بعد أن تفاقمت أزمة الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية نتيجة الصراع بين الكنيسة الكاثوليكية (التي كانت تتحكم في الحياة الثقافية والفكرية منذ بداية العصور الوسطى في القرن الخامس الميلادي, وحتى القرن الخامس عشر على الأقل), وبين الذين تمردوا على مفاهيم الكنيسة الضيقة في مختلف الجوانب العلمية والثقافية والاجتماعية. وقد أدى تزايد نجاح معارضي الكنيسة وفشل سياسة محاكم التفتيش إلى تراجع الكنيسة ورفع شعار «التسامح» لحل هذه المشكلات.
ثم خرج مفهوم «التسامح» من هذا الجلد الديني الضيق إلى رحابة الحوار الثقافي والسياسي الذي نجم عن التطورات التاريخية الموضوعية التي جرت على بلدان أوربا الغربية (ومن المهم أن نلاحظ أن هذه التطورات لم تكن تسير على خطوط متوازية في كل المجالات, أو بالنسبة لكل بلاد أوربا) وصار «التسامح» من شعارات الحياة الفكرية في بعض البلاد, ولم يعد ممارسة مقبولة في كل هذه البلاد إلا في القرن العشرين. بيد أن أوربا مارست «التسامح» داخل بعض بلدانها فقط, ولم تمارسه تجاه «الآخر» غير الأوربي, وكذلك فعلت الولايات المتحدة الأمريكية منذ انغماسها في الشئون الدولية بعد الحرب العالمية الثانية.
وأخيرًا, مع بداية التسعينيات من القرن العشرين, صار الشعار مطروحًا بقوة بعدما أثيرت مسألة «صدام الحضارات», ومسألة «حوار الحضارات» التي تشكل القطب المواجه لها. فبعد سقوط الاتحاد السوفييتي وجدت الرأسمالية العالمية نفسها بحاجة إلى «اختراع» عدو جديد بدلاً من العدو الأحمر الذي سقط. وفي فترة ما بعد الحرب الباردة تعالت أصوات في أمريكا وأوربا تقول زاعمة «المسلمون قادمون... المسلمون قادمون». وتظن قطاعات بارزة في الغرب الأوربي والأمريكي أن الإسلام خطر على الحضارة الغربية. ويبدو أحيانًا أن موقف الغرب تجاه الشيوعية قد تم نسخه تجاه الإسلام. ووفقًا لما يراه محللون غربيون كثيرون فإن الإسلام والغرب يسيران على طريق الصدام, وغالبًا ما يتم تصوير المواجهة على أنها صدام حضارات. وقد تزعّم هذا التيار «برنارد لويس» الذي كتب محاضرة «نشرت منقحة سنة 1990م» بعنوان «الأصولية الإسلامية». ثم عدّل العنوان وجعله «جذور الهياج الإسلامي». وقد روّجت وسائل الإعلام الغربية لهذه المقالة التي نشرت في مجلة «أتلانتيك مونثلي». وكان لهذه المقالة التي كتبها هذا المؤرخ اليهودي الشهير تأثير بالغ على فهم الغرب للإسلام والمسلمين المعاصرين.
وأهم ما يقوله برنارد لويس هو أن الصراع بين الإسلام والغرب استمر أربعة عشر قرنًا من الزمان منذ ظهور الإسلام حتى الآن, ويصوّر المسلمين على أنهم عدوانيون دائمًا, والغرب دفاعي دائمًا, وهو موقف من «الآخر» ينطلق من أسس منحازة غير متسامحة ويبرر العدوان على هذا الآخر.
ومن ناحية أخرى, يتجاهل باحثون آخرون التراث الاستعماري في البلاد العربية والإسلامية, ويختزلون التحوّل في المواقف الإسلامية تجاه الغرب, من الإعجاب والتقليد إلى العداوة والرفض, إلى مجرد صدام بين حضارتين منفصلتين ومختلفتين ترفض كل منهما الأخرى. وأوضح الأمثلة على هذا وأكثرها استفزازًا يرد في كتاب صمويل هنتنجتون «صدام الحضارات» الذي يعلن أنه بعد انتهاء الحرب الباردة «...سيحكم الصدام بين الحضارات الشئون السياسية العالمية، وستكون الخطوط الفارقة بين الحضارات هي خطوط القتال في المستقبل, والحرب العالمية القادمة, إذا نشبت ستكون حربًا بين الحضارات...».
هذه الآراء التي راجت مع بداية تسعينيات القرن العشرين كانت ضد فكرة «التسامح» تمامًا. وقد عبر فوكوياما عن ذلك التعصب «وعدم التسامح» عندما أعلن فكرته عن نهاية التاريخ لأن الرأسمالية انتصرت على الشيوعية ويجب أن تسود العالم. ولم يكن الحديث عن تشكيل النظام العالمي الجديد تحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية بعيدًا عن هذا السياق.
وجاءت أحداث الهجوم على برجي نيويورك ومبنى البنتاجون في سبتمبر 2001م لتسهم في المزيد من «هياج» القوى المتشددة التي لا تؤمن «بالتسامح», فقد كانت تلك هي المرة الأولى التي تتوجّع فيها أمريكا من ضربات عنيفة على أرضها في تاريخها القصير. وكان «العدو» جاهزًا ومُعلّبًا «المسلمون». وعكست الأحداث التي جرت على أرض الواقع كل ما هو مناقض لمفهوم «التسامح». وصار العرب والمسلمون جميعًا ضحية للتعصّب «وعدم التسامح» الأمريكي والأوربي. وقد رأى أنصار نظرية صدام الحضارات فيما جرى دليلاً على صحة رأيهم وصدق نظريتهم. وقالوا إن حديث «الحوار», و«التسامح» حديث لا محل له. ونادوا بشن الحرب على «الآخر» وتدميره. وربما كان حديث الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش عن «محور الشر» مجرد صياغة أخرى لأفكار صمويل هنتنجتون عن الخطر الإسلامي/الكونفوشيوسي الذي يتهدد الحضارة الغربية على حد زعمه. إذ إن الدول التي يضمها «محور الشر» المزعوم تضم دولتين إسلاميتين ودولة كونفوشيوسية.
على الجانب الآخر أخذ أصحاب فكرة الحوار بين الحضارات, وعلى رأسهم جون أسبوزيتو الباحث الأمريكي الشهير, يدافعون عن وجهة نظرهم من منطلق أن فهم «الآخر» و«التسامح» مع اختلافه وغيريته, يمكن أن يخلق نوعًا من الحوار والاعتماد المتبادل الذي يحول دون وقوع مثل هذه الأعمال العنيفة. وتقوم فكرة جون اسبوزيتو الأساسية في كتابه «التهديد الإسلامي: خرافة أم حقيقة؟» على أساس أن الإسلام يمثل تحديًا أمام الغرب ولكنه لا يشكّل تهديدًا. ولما كان العرب والمسلمون قد وجدوا أنفسهم فجأة في موقف المتهم العاجز عن الدفاع عن نفسه دونما جريمة ارتكبها, ولأنهم كانوا ضحايا ردود أفعال عصبية ومتعصبة من حضارة زعم أنها تنادي بالتسامح بعدما جرى في ذلك اليوم من سبتمبر, فإنهم استخدموا في أدبياتهم مصطلح «التسامح» ضمن مفردات أخرى في خطابهم الذي اتسم بالعجز والضعف.
وقد أريقت كميات هائلة من الحبر, وسُوّدت أطنان من الورق, وعقدت ندوات وحوارات, وجرت مناظرات ومقابلات في شتى صنوف وسائل الإعلام العربية والإسلامية حول موضوعات «الحوار», و«الآخر», و«التسامح»... وما إلى ذلك في السنوات الأخيرة. وكانت كلها تستجدي الحوار والتسامح والفهم من الغرب عامة ومن الولايات المتحدة على نحو خاص, وتسابقت الحكومات في غسل أيديها من أي علاقة بجماعات الإسلام السياسي, وربما ودّ البعض لو غسلوا أيديهم من الإسلام نفسه. وسادت أجهزة الإعلام الحكومية نغمة ساذجة تدعو إلى «التسامح» والحوار مع الغرب الغاضب المتربص.
بيد أن هناك مفارقة تدعو إلى الأسى بشأن التسامح والحوار الذي تسعى إليه «الحكومات», إذ إن هذه الحكومات نفسها, في العالم الإسلامي وفي الجزء العربي منه خاصة, لا «تتسامح» على الإطلاق إزاء القوى السياسية «الأخرى» داخل بلادها. كما أنها تنكر ببساطة وجود «الآخر», سواء على المستوى السياسي أو الثقافي, وتعامله معاملة الخونة والمجرمين. ويمكن تفسير ذلك, بطبيعة الحال, من خلال الحقائق التي تحكم علاقات هذه الحكومات بشعوبها من ناحية, وعلاقاتها بالولايات المتحدة الأمريكية والغرب من ناحية أخرى, فهي علاقة استبداد وتسلّط في الداخل, وعلاقة تبعية واستجداء مع أمريكا.
ومن خلال ما عرضناه في الصفحات السابقة نجد أنفسنا أمام موقف فكري صعب, ذلك أننا وجدنا في السطور السابقة أن معنى مصطلح «التسامح» كان عرضة لتقلبات عدة ناتجة عن السياقات التي جاء فيها. وهكذا, نجد أنفسنا أمام مصطلح يصعب التعامل معه من منظور أحادي, فالتسامح ليس مصطلحًا دالاً على المفاهيم الدينية وحدها, كما أنه ليس مصطلحًا مقصورا على الممارسة الساسية دون غيرها, فضلاً عن أنه ليس محصورًا في نطاق الحوار الثقافي أو التفاعل الاجتماعي فقط, إنه مصطلح مُحيّر ومربك شأنه في ذلك شأن العلاقات الإنسانية التي يتناولها في مستوياتها المختلفة. ولسنا هنا بصدد البحث عن تعريف «جامع مانع» - على رأي أهل الفلسفة - وإنما نحاول رصد أهم ما يحمله هذا المصطلح من دلالات ومفاهيم, هذا الموقف من جانبنا يستمدّ شرعيته العلمية من حقيقتين:
أولاهما: أنه من العبث إضاعة الجهد والوقت لنحت تعريف جامع مانع لمصطلح كانت نشأته الأصلية في سياق ثقافة مختلفة وظروف تاريخية مباينة, ولأسباب اجتماعية وثقافية لم تمر بها كل المجتمعات الإنسانية, وتم نقله إلى مناطق ثقافية مغايرة حكمتها ظروف تاريخية مختلفة, كما أن هذا المصطلح لا يحمل المعنى نفسه بالنسبة لكل المجتمعات الإنسانية. وعلى الرغم من أن المصطلح «التسامح» قد دخل الثقافات الأخرى, ومن بينها المناطق الثقافية العربية الإسلامية, فإنه حمل دلالات جديدة فرضتها الممارسات الفكرية المختلفة, وهو ما يعني بعبارة أخرى, أن المصطلح يحمل دلالات ومفاهيم متعددة بحسب تعدد الجماعات أو المجتمعات الإنسانية التي تستخدمه, وبحسب تنوع الأهداف والغايات التي يتغياها من يستخدمون هذا المصطلح.
ثانيتهما: أن محاولة فهم السياق الثقافي الذي يستخدم فيه المصطلح, بعيدًا عن محاولة صياغة التعريف الجامع المانع, يمكن أن يؤدي بنا إلى فهم المزيد من حقائق العلاقات بين المناطق الثقافية المختلفة بشكل تاريخي موضوعي دون الانزلاق في مهاوي النظريات والانحيازات المسبقة.
المصدر: http://www.alarabimag.com/Book/Article.asp?ART=359&ID=18