قراءة التاريخ
«التاريخ» كلمة تستخدم كثيراً على ألسنة الناس جميعاً، علماء وعامة، طلاباً وأساتذة، وفنانين، ولكل من هذه الفئات وغيرها استخدام لكلمة «التاريخ» يختلف عن استخدام الآخرين. فكلمة «تاريخ « قد تعني تحديد الموقع الزمني : تاريخ الميلاد، أو الوفاة، وقد تعني نظاماً دراسياً مثل الحديث عن مواد التاريخ في مرحلة الدراسة الثانوية أو الجامعية، ومثل الحديث عن أقسام التاريخ وأساتذة التاريخ. وقد تعني مجمل التجربة الإنسانية في هذا الكوكب عند قولنا «تاريخ البشرية» أو التاريخ الإنساني، وربما يكون المقصود بها ماضي الجماعة الإنسانية والمجرى العام لتطور الإنسان، كذلك فإن الكلمة قد تعني أحياناً دراسة وتحليل ماضي المجرى العام لتطور البشرية. وقد تكون الكلمة دالة على لحظات مهمة وفارقة في حياة أحد المجتمعات، وهو المعنى الذي يستخدمه السياسيون كثيراً لدرجة امتهانه عندما يصفون مناسبة ما، أو حدثاً ما، بأنه حدث «تاريخي». وهناك معان حديثة تفرعت من المعاني القديمة للكلمة تدل على «تاريخ التاريخ» نفسه، أي دراسة التطورات التي مرت بها الدراسات التاريخية منذ عصر الأسطورة إلى عصر النظام الأكاديمي الذي تتم فيه دراسة التطورات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، والوقائع والأحداث العسكرية والسياسية في فترة زمنية بعينها، وفي مكان محدد من العالم، وهو المعنى الدال على الدراسة العلمية للتاريخ. هذه المعاني الكثيرة المتوالدة من كلمة «تاريخ» تدلنا على حقيقة هذا النوع من الدراسات الإنسانية ومدى مرونة المصطلح المستمدة من طبيعة العلم التاريخي نفسه. وربما يكون هذا هو السبب في القول بأن المؤرخين غير واثقين تماماً من قدرتهم على تحديد ماهية «التاريخ» بشكل دقيق. ويعنى هذا ببساطة أن التاريخ مركب ومتغير ومحير تماماً مثل الناس الذين يسجل حياتهم وأفعالهم، فالتاريخ، مثل الفن والفلسفة والأدب، طريقة للنظر إلى التجربة الإنسانية- سواء كانت النظرة إلى الجماعة وحياتها التي تشكل مجمل التاريخ، أو إلى الأفراد الذين يشكلون جزئيات هذا التاريخ، فالتاريخ، بوصفه علماً ونظاماً دراسياً، يتناول الإنسان في حياته الاجتماعية عبر العصور. ويمثل الإنسان والزمان الجناحين المتغيرين في الظاهرة التاريخية، وهو ما يعني أن مادة التاريخ وموضوعه شديدا التركيب والتعقيد من ناحية، ودائما التغير من ناحية أخرى. وهذا، في ظني، سبب تعدد المعاني والمدلولات التي تحملها «التاريخ». ومن جهة أخرى، انعكست هذه الحقيقة على «قراءة التاريخ»، وتفصيل ذلك أن الحدث التاريخي يقع مرة واحدة ويستحيل إعادة إنتاجه بطبيعة الحال. ومن البديهي أن أحداً لا يمكن أن يؤلف تاريخاً، وإنما يقوم المؤرخون بـ «قراءة التاريخ» وليس كتابته كما يبدو للوهلة الأولى. ولا بد أن نفهم، بداية، أن «قراءة التاريخ» استجابة لرغبة الإنسان الخالدة في أن يعرف عن نفسه وعن الآخر. ولهذا السبب، فإن هذه «القراءة» دراسة إنسانية في الأساس: إذ إنها تؤكد على أهمية الناس وخياراتهم الفردية، والقيم التي يتمسكون بها، وزوايا الرؤية التي نظروا بها إلى أنفسهم وإلى العالم من حولهم، وهذا الاهتمام الواضح بالإنسانية يمثل الحلقة الحيوية التي تربط ما بين التاريخ والدراسات الإنسانية الأخرى اتلي يشاركها أدواتها وأهدافها. ولكن الفرق بين التاريخ وغيره من الدراسات الإنسانية يتمثل في أن التاريخ يتعامل مع الإنسان في رحلته عبر الزمان أساساً، ولذا يطرح طريقة للنظر إلى التجربة الإنسانية لا تقدمها الدراسات الأخرى، فالتاريخ هو وحده الذي يضيف المنظور الزمني لدراسة الإنسان في الماضي بحيث يكشف عن مدى عمق التجربة الإنسانية في الماضي وحتمية تغير هذه التجربة من آن لآخر. ولأن التاريخ يتعامل مع فيض من الأحداث والوقائع والشخصيات والظواهر، فإنه يكشف بلا مواربة عن حقيقة بسيطة مؤداها أن لا شيء يبقى على حاله، كما يوضح أن التجربة الإنسانية حركية ومستمرة، كما يجعلنا نعرف أنه إذا كان ما يحدث في العالم الآن يكتسي أهمية ما، فإن الناس الذين عاشوا قبلنا كانت لهم مشكلاتهم، وعرفوا كيف يتعايشون معها حتى تنتهي واستمروا في الحياة بعدها. وهي حقيقة مؤداها أن حياة الجماعة الإنسانية تخضع للتغير المستمر، وأن الحقيقة الوحيدة الثابتة هي أن كل شيء خاضع للتغير. وأهمية «قراءة التاريخ» في هذا السياق أنها تساعد «القارئ» - أي المؤرخ- على وضع الحاضر في مكانه الصحيح. ذلك أن التاريخ يهتم بالأسباب، ومن ثم فإنه يوسع من مدى إدراكنا للعملية التاريخية، وإذ «قرأناه» بوعي، نظرنا إلى المشكلات التي تعكر صفو الحاضر برؤية أكثر تنظيما، لأن معرفة كيفية عمل المجتمع في الماضي- من خلال قراءة التاريخ- قد تفتح عيوننا على الإمكانات والبدائل الكامنة في الحاضر، وليس معنى هذا أن التاريخ يمكن أن يجعلنا نتنبأ بالمستقبل بشكل ساذج وبسيط مثل قراءة الطالع، وبالتالي لا يمكن أن يرشد الناس عن الكيفية التي يجب أن يتصرفوا بها في حاضرهم، ولكنه قد يساعدهم على أن يتجنبوا تكرار أخطائهم. ويمكن لمجتمع اليوم أن يأخذ من ماضيه شيئاً ربما يفيد في توجيهـه وإرشاده لأن التاريخ يحمل في داخله نوعاً من الإنذار المبكر لمن يعرفون كيف ينصتون إليه أو يحسنون قراءته. وقراءة التاريخ، بهذا المعنى، تتم عدة مرات ومن زوايا عديدة، فبينما تهتم الدراسات الإنسانية كافة بأن تحفظ التجربة الإنسانية، وتنقلها وتفسرها في الحاضر، يلتزم التاريخ أساساً بأن يستدعي الماضي، ثم يعيد بناءه بمنهجه الاستردادي، كما يعيد قراءته (أو تفسيره) بحيث يخلق صلة بينه وبين الحاضر ويترجمه إلى صيغة يستطيع الجيل الحاضر أن يستخدمهـا لصالحه. ولذلك اختلفت قراءة التاريخ من عصر إلى عصر آخر بحثاً عن تلك الصيغة المناسبة لصالح الجماعة في حاضرها ومستقبلها. وسبب ذلك راجع في جوهره إلى حقيقة التغير الدائم الذي تخضع له الجماعة الإنسانية وفي حياتها كل تغير جديد في الجماعة الإنسانية وفي حياتها الاجتماعية يحمل رؤية جديدة لنفسها ولماضيها، فتعيد «قراءة» هذا الماضي بحثاً عن عناصر كامنة تربط هذا الماضي بحاضر الجماعة. ففي الزمن القديم، كانت الغاية من « قراءة التاريخ» تبرير الظواهر الاجتماعية والطبيعية التي لا يعرف الجيل « الحاضر» لها تفسيراً، ولهذا اتخذت القراءة سمة أسطورية لكي تبرر للناس حياتهم الحاضرة، ولكي تبرر خضوعهم للنظام السياسي ومنظومة القيم والعادات والأخلاق السائدة في مجتمعهم. ثم جاءت القراءة الدينية للماضي محاولة للتفسير. وللتلقين الأخلاقي والديني من خلال استخدام الماضي استخداماً عمليا وتعليمياً، وهو ما يفسر لنا وجود المادة التاريخية في الكتب المقدسة للديانات الإنسانية الكبرى. ومن ناحية أخرى، كانت «القراءة الدينية» للتاريخ محاولة لصباغة رؤية الجماعة الدينية لذاتها والآخر. فالقراءة اليهودية ركزت على فكرة الاختيار والأرض الموعودة، على حين ركزت القراءة المسيحية على فكرة الخلاص، أما القراءة الإسلامية، فقد ركزت على أخوة بني الإنسان من ناحية، وفكرة خلافة الإنسان في الكون لإعماره من ناحية أخرى. وهناك «قراءات « أخرى للتاريخ تجلت في «تاريخ التاريخ «، منها القراءة العنصرية التي بررت التحركات الاستعمارية (رسالة الرجل الأبيض) وبررت دعاوى التفوق العرقي وقد ازدهرت في ظل النظم النازية والفاشية، ومنهـا القراءة الاشتراكية التي بررت القبضة الشيوعية على التجمعات التي خضعت لهذا النمط من الحكم. وفي ظل التطورات الديمقراطية، ظهرت قراءات أخرى للتاريخ لعل أبرزها يتمثل في القراءة الشعبية التي تبرز دور الناس العاديين في صنع التاريخ، وقد أفرز هذا الواقع حقائق جديدة على مستوى الدراسات التاريخية، إذ إن «قراءة التاريخ « قد اختلفت من عصر إلى آخر، ومن مجتمع إلى مجتمع غيره، وليس معنى هذا أن «التاريخ» بوقائعه وأحداثه يخضع لإعادة صياغة دائمة لأن ذلك يعد نوعاً من «تأليف التاريخ « الذي هو في التحليل الأخير «تزييف للتاريخ «، وإنما يعني هذا أن كل عصر، وكل جيل في المجتمع، يبحث عن العناصر التاريخية التي تفيد في توضيح الحاضر واستشراف آفاق المستقبل. ويتعامل المؤرخون، في قراءتهم للماضي الإنساني بطبيعة الحال، مع الحقائق في ماض حقيقي، وهي حقائق ترتبط بالواقع ارتباطاً راسخاً. ويتأكد المؤرخون من طبيعتها من خلال التواريخ التي تدعمها الوثائق، ولكنهم مع هذا، لا يتعاملون مع الحقائق فقط، وإنما يتعاملون أيضاً مع المشاعر والأحاسيس والدوافع والأسباب التي أفرزت تلك الحقائق، ويحاول المؤرخون الفاهمون وضع تلك الحقائق التاريخية في سياق الحياة الاجتماعية التي أفرزتها وتفهم معناها وإيقاعها. وهذا ما يسميه المؤرخون «التحليل التاريخي»، أي المقابلة والاستنباط ومحاولة فهم ما لا تقوله سطور المصادر التاريخية التقليدية. فالحقائق لا تتحدث بنفسها، وإنما يمكن أن تنطق بشيء ما في حالة واحدة لا تتوافر إلا عندما يتم ترتيب هذه الحقائق التاريخية المجردة التي ليست تاريخا بحد ذاتها، ومن هنا، تأتي أهمية «قراءة التاريخ» ذلك أن التاريخ يمتاز عن الفلسفة والفن والأدب (على الرغم من اشتراكه معها في كونه طريقة للنظر إلى التجربة الإنسانية) بأنه يختار من التجربة الإنسانية ويصدر أحكامه. فهو يقلب التجربة التاريخية الإنسانية مرات ومرات بحيث يجد، في كل مرة، علاقات جديدة في تجربة كان الجيل الأسبق قد استبعدها أو أسقطها، وقد ينحي جانباً بعض العناصر التي يرى أنها فقدت جدواها، ولكن جيلاً جديداً يأتي في المستقبل ربما يرى- من خلال البحث التاريخي- معنى جديداً فيما أهمله الجيل الحالي، فالأجيال تعيد قراءة التاريخ مرات ومرات بحيث توظف الحقائق التاريخية، والعلاقات التي تربط فيما بين هذه الحقائق، لصالحها ولخدمة أغراضها، وما قد يسقطه جيل سابق قد يجد فيه جيل لاحق بعض المعنى والفائدة فيعيد قراءة التاريخ على أساسه. وواجب المؤرخ أن يصل الماضي بالحاضر بطريقة إبداعية خلاقة، ومن ثم فإن هدف المؤرخ لا يمكن أن يكون مجرد عرض حقائق التجربة الإنسانية وفهمها فحسب، وإنما بعثها بإعطائها القيم والمثل الحافزة والبناءة والمرتبطة بعصره، وهذا هو السبب في أن التاريخ لا يكتب فقط وإنما تعاد قراءته مرات ومرات عبر رحلة الإنسان التي لم تتم، بعد، عبر الزمان. وغالباً ما يقال إن كل عصر يكتب تاريخه الخاص، لأن كل عصر سوف يحاول تقديم تقييمه الخاص لما هو «مهم « في ماضيه وسوف يميل إلى رؤية الماضي في ضوء اهتماماته وانحيازاته. هذه حقيقة يمكن تلخيصها في العبارة المدهشة « التاريخ حوار بين الحاضر والماضي «، وفي تصوري أن معنى هذا أن التاريخ يتأثر بالمادة والظروف الأخلاقية السائدة في المجتمع وفي العصر الذي تتم قراءته فيه، وقراءة التاريخ هنا ليست شذوذا عن كل الأنشطة الفكرية التي لابد أن تتأثر بالبيئة والظروف والعصر. فكل نشاط فكري أو علمي لابد أن تكون له وظيفة ثقافية- اجتماعية في خدمة الجماعة الإنسانية في عصرها، أي أن هذه الوظيفة الثقافية- الاجتماعية تتغير من جيل إلى جيل آخر، ومن عصر إلى عصر غيره، ومن هنا تأتي اختلافات «قراءة التاريخ « من عصر إلى عصر آخر. وإذا كانت دراسة التاريخ عبارة عن إعادة قراءة وإعادة تفسير مستمرة، فهي أيضاً تطور تراكمي بمعنى أنها تضيف مزيداً إلى رصيدنا المعرفي باستمرار، إذ إننا حين نرى أسلافنا قد جابهتهـم مشكلات عصرهم لسبب ما، ربما يمكننا تجنب الأسباب المشابهة التي تؤدي إلى خلق مشكلات مشابهة، وهذا هو بالضبط هدف قراءة التاريخ الذي لم يتحقق على نحو فعال حتى الآن، ولآن التاريخ علم ينتمي إلى الماضي من حيث موضوعه، ولكنه مرتبط بالحاضر والمستقبل من حيث هدفه ووظيفته الاجتماعية، فإن إعادة قراءة التاريخ في كل عصر بحثاً عن العناصر التي تفسر الحاضر وترشد إلى المستقبل تبدو «حقيقة تاريخية ثابتة» بحد ذاتها، ولهذا السبب اختلفت وظيفة التاريخ في خدمة الجماعة الإنسانية من عصر إلى آخر. هذه النظرة النفعية للتاريخ قد تكون محل اعتراض من جانب المؤرخين المثاليين الذين يبحثون في التاريخ عن العظة والعبرة، على الرغم من أن التاريخ نفسه يعلمنا أن العظة والعبرة الوحيدة في التاريخ هي أن أحداً لا يتعظ من «قراءة التاريخ «. ولهذا فإن الهـدف ينبغي أن يكون موجهاً نحو فهم العناصر المكونة للحاضر من خلال تحليل الماضي وتفسيره، وتركيز الضوء على العناصر الحافزة في هذا الماضي، فعندما نقرأ التاريخ، نبدأ في إدراك أن الحياة متغيرة، وأن لكل جزء فيها مكوناته الذاتية الخاصة، ومهما تكن جاذبية التشابهات بين الماضي والحاضر، فإننا سرعان ما نتعلم أن الماضي لا يمكن أن يتكرر، وقراءة التاريخ لا يمكن أن يكون هدفها تكرار الماضي، وإنما تفسير الماضي، في صيغة تربطه بالحاضر في ذلك الحوار الذي أشرنا إليه في السطور السابقة. وهذا مرة أخرى هو السبب في تعدد « قراءات» التاريخ، ففي كل مرة تتم فيها قراءة التاريخ لا يكون الهدف «تكرار» الماضي، وإنما يكون الهدف البحث عن رؤية جديدة لهذا الماضي تناسب الحاضر. خلاصة القول، إن التاريخ « يحدث « والمؤرخين «يقرأونه» في كل مرة يحاولون فيها «كتابته»، وقد مرت هذه القراءات بتطورات كثيرة عبر التاريخ الطويل لتاريخ الفكر التاريخي نفسه. ومن ثم تغيرت مهمة المؤرخ بالضرورة. ففي الزمن القديم، كانت غاية «قراءة التاريخ» حكاية ما حدث وتسجيله، وكانت مهمة المؤرخ أن يحكي «ماذا» حدث، ولذلك ظهرت «قراءة» المؤرخين القدامى للتاريخ نوعاً من التدوين والتسجيل، ولكنه كان في الحقيقة «قراءة» تعكس وجهة نظر المؤرخ من ناحية، وقراءة عصره للتاريخ من ناحية أخرى. ولأن وسائل حفظ المعلومات وتدوينها تطورت بشكل مذهل، فإن مهمة المؤرخ المسجل والحافظ والراوي لم تعد لها ضرورة بتغير وظيفة المعرفة التاريخية في المجتمع الإنساني. فلم تعد مهمة المؤرخ أن يحكي « ماذا» حدث. أو يسجل، وإنما صارت مهمته أن يفسر لنا «لماذا» حدث ما حدث،. وهو، يعني في التحليل الأخير أن «قراءة التاريخ» صارت تبدأ بكلمة «لماذا»، ولم تعد تقع بالحكاية والتسجيل الذي يجيب عن السؤال الذي يبدأ بكلمة «ماذا». |
المصدر: http://www.alarabimag.com/Book/Article.asp?ART=359&ID=18