الكُتّاب العرب في ألمانيا وإنجازاتهم الثقافية

شتيفان فايدنر

 

غدت ألمانيا، منذ سبعينيات القرن العشرين، هدفاً يستقطب المهاجرين العرب بنحو متزايد. وجاء العرب إلى ألمانيا لغرض الدارسة، أو لأسباب سياسية، لأسباب كانت، في كثير من الأحيان، طلباً للنجاة من ويلات الحروب، ومن وحشية المطاردة والاضطهاد. وكان الكثير منهم، قد فضلوا الإقامة الدائمة في ألمانيا، واختاروا المساهمة في الحياة الثقافية الألمانية والعربية، وقاموا، في كثير من الأحيان، بدور الوسيط بين الثقافتين. وفيما يؤلف الكثير منهم باللغتين، العربية والألمانية، اختار آخرون التأليف بالألمانية، وفضل آخرون التأليف بالعربية. وفي حين جاء أغلب المهاجرين العرب، من سورية والعراق، جاء عدد معتبر، من المهاجرين العرب، من مصر ولبنان وفلسطين وشمال إفريقيا أيضاً. وتهدف محاضرة رئيس تحرير مجلة «فكر وفن» شتيفان فايدنر إلى تقديم عرض عام لأهم الشخصيات الفاعلة في الحياة الثقافية العربية في ألمانيا، ولما قدمت هذه الشخصيات من إنتاج وما خلفت من آثار.

سيداتي سادتي الأفاضل: أود، بادئ ذي بدء، أن أشكركم على دعوتي لزيارة الكويت وعلى كرم ضيافتكم. وإنه ليسعدني ويشرفني أن أكون بين ظهرانيكم. كما أود تهنئتكم على ما اخترتم من موضوع لهذا المؤتمر. فاختياركم كان موفقاً فعلاً، فموضوع المؤتمر يتسم بأهمية بينة لا حاجة لي لتوضيحها. وإنه ليسعدني كثيراً، أن تتاح لي الفرصة، لأن أعرض الموضوع، من وجهة النظر الألمانية، أو لنقل، أن أعرض الموضوع من وجهة نظر ألمانية عربية، فعلاقاتي الوطيدة، وصلاتي المكثفة، مع الكثير من الأصدقاء العرب، صقلت رؤيتي، وجعلتني لا أنظر للأمور من منظور ألماني صرف. وتأسيساً على هذه الحقيقة فأني آمل أن يكون لدي شيء من حق التحدث إليكم، نيابة عن العرب القاطنين في ألمانيا.

والمهم، هو أن الإنجازات الثقافية التي قدمها العرب في ألمانيا، لا يمكن تقديرها حق قدرها، إلا إذا تحدثنا، ولو بشيء من الاختصار، عن الظروف التاريخية والاجتماعية، التي حفزت البعض من العرب، على الهجرة إلى ألمانيا. وكما تعلمون، سيداتي سادتي الأفاضل، فإن ألمانيا لم تكن، من الدول الاستعمارية، ذات الشأن الكبير. من هنا، وخلافاً للوضع السائد في فرنسا وبريطانيا، فإن من حقائق الأمور، هو أن المهاجرين إلى ألمانيا، لا ينزحون من مناطق كانت، في سابق الزمن، مستعمرات ألمانية، وأن الألمانية لغة يجري التحدث بها في مناطق تقع في أواسط أوربا على وجه التحديد: في ألمانيا والنمسا وسويسرا. وبالمقارنة، فإن أغلب العرب المقيمين في فرنسا، تعلموا الفرنسية في وطنهم الأم (دول شمال إفريقيا) منذ الصغر، أي منذ السنوات المدرسية الأولى، وبالتالي فإنهم، يتحدثون بها بطلاقة، وبلا عناء. ويختلف الأمر بالنسبة للعرب، المهاجرين إلى ألمانيا، فهؤلاء يتعلمون الألمانية في سن متقدمة نسبياً، أي أنهم يتعلمونها بصعوبة ملحوظة، ويعانون التحدث بها، ما لا يعانيه، عادة، العرب القادمون إلى فرنسا شمال إفريقيا. أضف إلى هذا أن الألمانية، لغةٌ لا يتعلمها المرءُ، بالسهولة التي يتعلم فيها اللغة الفرنسية أو الإنجليزية. على صعيد آخر، فإن الدول الناطقة بالألمانية ليست مناطق تقليدية في مسألة استقبال المهاجرين، أعني ليست دولاً، اعتادت على فتح حدودها الوطنية، لاستقبال الراغبين بالهجرة إليها، على غرار ما هو سائد في الولايات المتحدة الأمريكية أو كندا أو أستراليا. ورغم هذه الحقيقة، فإن ألمانيا ما انفكت، منذ سبعينيات القرن العشرين، تسجل ارتفاعاً متواصلاً في عدد المهاجرين العرب.

ولكن، من أين يأتي القوم يا ترى؟ وما الأسباب التي تدفعهم للتوجه إلى ألمانيا؟

عقب الحرب العالمية الثانية، جاء العرب الأولون إلى ألمانيا لغرض الدراسة والتحصيل العلمي في المقام الأول. وحتى اليوم الراهن، لا تزال ألمانيا محط الأنظار بالنسبة للراغبين في إكمال الدارسات الجامعية، ولاسيما أن الدارسة الجامعية معفاة من الرسوم في ألمانيا. ولا يفوتنا في هذا السياق الإشارة إلى تقسيم ألمانيا عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، فالكثير من العرب لم يدرسوا في ألمانيا الغربية، بل في الشق الشرقي، في الشق الشيوعي، من ألمانيا، أي فيما كان يسمى جمهورية ألمانيا الديمقراطية (DDR). وتنطبق هذه الحقيقة، على أولئك الطلبة الذين كانوا قد تحدروا من الدول العربية التي كانت، هي أيضاً، تعتنق الاشتراكية (بالمفهوم البعثي أو الناصري في أغلب الأحيان)، أي من سورية والعراق في المقام الأول. وبوسعي أن أذكر، هنا، اسم كاتبين مرموقين، ينوبان، بنحو جيد، عن الكثير من الأسماء الأخرى: الأول هو الكاتب السوري عادل قراشولي (من مواليد عام 1936). فهو ذهب في عام 1961 إلى لايبزيغ في ألمانيا الشرقية للدارسة في جامعتها. علماً بأنه لا يزال، حتى يومنا الراهن، يقيم في هذه المدينة. وذاعت شهرته في ألمانيا، أولاً وقبل كل شيء، بفضل قصائده الشعرية، هذه القصائد التي دأب قراشولي على تدبيجها باللغتين العربية والألمانية. كما ترجم إلى الألمانية قصائد من شعر أدونيس ومحمود درويش.

أما الكاتب الثاني، فإنه فاضل العزاوي، الأديب العراقي الذي يعرفه الكثير من المشاركين في هذا المؤتمر. وكان العزاوي، المولود عام 1940، قد ذهب عام 1977، إلى لايبزغ في ألمانيا الشرقية أيضاً، وذلك بسبب تعرضه للاضطهاد السياسي، ولرغبته في الدراسة بجامعتها. وهو يقيم حالياً في الضاحية الشرقية من برلين. وكان قد ترجم، هو وقرينته السيدة سليمة صالح، أعمالاً أدبية ألمانية إلى العربية (نذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر، رواية روبرت موزيل «الرجل الذي لا خصال له»).

وذهب مثقفون آخرون، من الجيل نفسه، إلى ألمانيا الغربية للدارسة في جامعاتها. فعلى سبيل المثال، جاء من مصر ناجي نجيب (1931-1987)، الأديب الذي لم يكن من أوائل الأدباء الذين قاموا بترجمة نصوص من الأدب العربي الحديث فحسب، بل وأسس، أيضاً، في برلين، دار أورينت للنشر (Edition Orient)، وذلك لكي تتولى نشر هذه الترجمات. علماً بأن دار النشر هذه لا تزال تقدم خدمات جليلة للمؤلفين العرب. وجاء من لبنان الشاعر فؤاد رفقة (1930-2011)، الذي درس الفلسفة في جامعة هايدلبرغ وقدم أطروحة دكتوراه تناول فيها فلسفة مارتين هايديغر. وترجم فؤاد رفقة إلى العربية قصائد العديد من الشعراء الألمان. واللافت للنظر هو أن فؤاد رفقة قد عاد إلى لبنان فيما بعدُ ليقيم فيه بنحو نهائي. وتنطبق هذه الظاهرة على الكثير من العرب، من أبناء هذا الجيل، ممن كانوا قد جاءوا، وقتذاك، إلى ألمانيا لغرض الدارسة في جامعاتها. فحينما كانت الظروف السياسية في أواطنهم الأم تدعو للاطمئنان، كان هؤلاء العرب، يعودون إلى أواطنهم، للإقامة هناك بنحو دائم، وللتدليل على هذه الحقيقة، أختار من سورية، المترجم نبيل حفار والفيلسوف طيب تيزيني، فقد عاد الاثنان إلى وطنهما، بعد إنهائهما دراستهما الجامعية في ألمانيا الشرقية، وأختار من مصر الأديب

عبد الغفار المكاوي (المولود عام 1930) ومن لبنان المثقف الإسلامي رضوان السيد، فقد أتما تحصيلهما العلمي في ألمانيا الغربية واستقر، من ثم، كل منهما في وطنه الأم بشكل دائم.

ومن خلال إمعان النظر، في هذا الجيل من العرب، الذين جاءوا إلى ألمانيا في وقت مبكر نسبياً، تبان لنا ثلاث خصائص مميزة لسيرة حياتهم:

هناك أولاً: أولئك الذين قضوا ردحاً من الزمن في ألمانيا، لغرض الدارسة الجامعية في أغلب الأحيان، وعادوا، من ثم، إلى أوطانهم، وقاموا بنقل الثقافة الألمانية أو كتبوا مؤلفاتهم متأثرين بالثقافة الألمانية.

وهناك ثانياً: أولئك الذين أقاموا في ألمانيا بنحو دائم وصاروا:

أ‌) يؤلفون بالألمانية، في المقام الأول، وينقلون مؤلفات أدبية عربية إلى الألمانية.

ب‌) أو يؤلفون بالعربية، بالدرجة الأولى، وينقلون مؤلفات أدبية ألمانية إلى العربية.

ونعثر على هذه الخصائص لدى الأجيال التالية، علماً بأن الأمر اللافت للنظر، هو أن ثمة تنامياً ملحوظاً، في عدد أولئك، الذين يختارون الإقامة الدائمة في ألمانيا، والتأليف باللغة الألمانية. علاوة على هذا، ينمو، بشكل مطرد، عدد أولئك، الذين لا يأتون إلى ألمانيا بنحو طوعي، بل لأسباب سياسية: طلباً للنجاة من وحشية المطاردة والاضطهاد، ومن ويلات الحروب (الأهلية).

وغني عن البيان، أن جيل، أولئك الذين هم من مواليد الأربعينيات والخمسينيات، قد عانى بنحو مكثف ومتميز، ويلات الأزمات السياسية، التي عصفت بالعالم العربي في السبعينيات: الحرب الأهلية في لبنان، واستيلاء حافظ الأسد وصدام حسين على مقاليد الحكم في سورية والعراق، والحرب العراقية - الإيرانية. وكمثال على ما نقول، يمكننا الاستشهاد، ها هنا، بالسوريين سليمان توفيق ورفيق شامي. فتوفيق، المولود عام 1953، جاء إلى ألمانيا لغرض الدارسة الجامعة وهو لا يزال في السابعة عشرة من عمره. ويدبج توفيق القصائد الشعرية، ويكتب الروايات ويترجم من العربية (بما في ذلك قصائد من تدبيج أدونيس) ويعمل صحفياً متخصصاً بالموسيقى العربية بنحو مخصوص. وهو يقطن، حالياً، في مدينة تقع بالقرب من مدينة كولون. أما رفيق شامي (هذا هو الاسم المستعار الذي اختاره لنفسه سهيل فاضل) فإنه من مواليد عام 1946، وكان قد ذهب إلى ألمانيا في عام 1971 وذلك لدارسة الكيمياء. لكنه سرعان ما عكف على التأليف بالألمانية. ويُعتبر رفيق شامي، في يومنا الحاضر، واحداً من أنجح وأشهر المؤلفين باللغة الألمانية. فهو تفوق على أغلب الكتاب الألمان، من حيث عدد نسخ مؤلفاته، المبيعة في الأسواق. هذا، وسأتطرق، في نهاية محاضرتي هذه، ثانية وبشيء من الإسهاب، إلى الخصائص البارزة في إنتاجه الأدبي.

ومن العراق، أتى في السبعينيات، بضعة أدباء، أعني، على سبيل المثال وليس الحصر، حسين الموزاني، المولود عام 1954، الذي ألف بالعربية في بادئ الأمر، لكنه تحول، من ثم، صوب التأليف بالعربية والألمانية، وصار ينشر مؤلفاته في باللغتين أيضاً. بالإضافة إلى هذا، فإنه ينقل نصوصاً من الأدب الألماني إلى العربية، كان من بينها رواية «الطبل الصفيح» لغونتر غراس، الأديب الحائز جائزة نوبل للأدب العام 1999. ومن العراق أيضاً، جاء خالد المعالي ونجم والي. بيد أن الاثنين لا يزالان يكتبان إنتاجهما الأدبي بالعربية. وكان خالد المعالي (المولود عام 1956) قد جاء إلى ألمانيا بصفته لاجئاً سياسياً. وأسس المعالي، في ألمانيا، داراً للنشر باسم «منشورات الجمل»، وعكف على كتابة الشعر بالعربية وأخذ أيضاً، وبالاشتراك مع أصدقاء ألمان، كنتُ أنا شخصياً واحداً منهم، يُترجم إلى الألمانية قصائد من الشعر العربي، كان من جملتها قصائد لمحمود درويش وسركون بولص وبدر شاكر السياب. بيد أن المعالي اختار، قبل بضع سنوات، الإقامة بنحو دائم في العالم العربي، واتخذ من بيروت مقراً لدار الناشر التي كان قد أسسها في ألمانيا. وتتميز دار النشر هذه بأن برنامجها قد بز، حالياً، كافة الناشرين الآخرين، من حيث تركيزه على ترجمة الأدب الألماني إلى العربية. ومن هذا المثال، يتبين لنا بجلاء، أن العرب، المقيمين حالياً، أو الذين أقاموا، في سابق الزمن، في ألمانيا، لهم فضل كبير في تعزيز أواصر التبادل الثقافي بين الألمان والعرب. وكان نجم والي، المولود عام 1956، قد هرب، أيضاً، من العراق، وجاء إلى ألمانيا عام 1980 وأتم تحصيله الجامعي في مدينة هامبورغ. وهو يقيم، حالياً، في برلين، ويكتب باللغة العربية، رغم إتقانه اللغة الألمانية بنحو جيد. وكيفما كانت الحال، فإن رواياته تُترجم إلى الألمانية ويستحسنها النقد الأدبي الألماني.

وأود، أخيراً وليس آخراً، التحدث عن جيل أحدث عهداً، عن جيل يتميز فيه ثلاثة كتاب في ألمانيا في يومنا الحاضر. فمن ناحية، هناك حامد عبد الصمد، الكاتب المولود في مصر عام 1972، الذي كان قد جاء إلى ألمانيا عام 1995. وكان هذا الكاتب قد عمل في المجال الأكاديمي. وذاعت شهرته من خلال كتاب ضمنه سيرته الذاتية، ونقداً ذاتياً (وآراء تنتقد الإسلام أيضاً). وكان قد نشر هذا الكتاب بالعربية والألمانية (علماً بأن النسخة العربية نشرتها دار ميريت، وأن عنوان النسخة الألمانية هو (Mein Abschied vom Himmel) «وداعاً أيتها السماء»)، أي أنه يطابق عنوان النسخة العربية!! . بالإضافة إلى هذا، نشر عبد الصمد كتابين يبحثان في الإسلام والثورات العربية الراهنة. وبفضل مشاركته في العديد من المناظرات والمقابلات التلفزيونية، يتمتع عبد الصمد بشهرة واسعة في ألمانيا. من ناحية أخرى، يمكن الإشارة إلى عباس خضر، كمثال آخر، على خصائص الجيل، الذي نحن في سياق الحديث عنه، أعني الجيل الأحدث عهداً. وولد عباس خضر في بغداد عام 1973، وجاء إلى ألمانيا عام 2000 طلباً للجوء السياسي. ومع أنه درج على كتابة شعره بالعربية، إلا أنه صار، منذ عام 2008، يكتب رواياته بالألمانية. وحظيت رواياته بتثمين النقد الأدبي، الألماني على وجهة الخصوص. وفي السياق نفسه، لا يجوز لنا البتة، نسيان شيركو فتاح، الكاتب الكردي، العراقي الأصل، الذي يتقن التحدث والكتابة بالألمانية إتقانه للغته الأم، والذي استقبل النقد الأدبي الألماني مؤلفاته، بحفاوة كبيرة، وإطراء قوي. وكان شيركو فتاح قد ولد في برلين الشرقية عام 1964، وهو ينتمي، بنحو ما، إلى ما يسمى بجيل المهاجرين.

ولكن، ما محتوى ما يكتبه المؤلفون الذين تحدثنا عنهم في السطور السابقة؟ وما الآثار، التي تخلفها الحياة في المنفى، على إنتاجهم؟ وإلى أي مدى يزيد هؤلاء الكتاب، من ثراء الأدب الألماني، أو العربي؟

في بادئ الأمر، إن الأمر اللافت للنظر، هو أن أعمال أغلب هؤلاء الكتاب، لا تدور حول ألمانيا، بل حول العالم العربي ومشاكله، أولاً وقبل كل شيء، وحول ما ترسب في أذهانهم، من أحداث وذكريات، مستقاة من وطنهم الأم. ولا يشط المرء كثيراً، إذا زعم أن هؤلاء الكتاب لم يتأقلموا، بعد، مع ألمانيا من حيث الموضوعات التي يتمحور حولها إنتاجهم الأدبي. بيد أن هذه الحقيقة لا تنفي وجود حالات استثنائية. فالبعض من هؤلاء المؤلفين، وأولئك المؤلفين على وجه الخصوص، الذين يكتبون بالألمانية، يكتبون، أيضاً، عن هروبهم من وطنهم، أو عن المشاكل التي كابدوها، في سياق تأقلمهم مع الحياة في ألمانيا، أو مع الذهنية الألمانية (بنحو ينطوي على الدعابة كما هو في كتابات رفيق شامي مثلاً، أو بأسلوب يركز على غرائب الأمور، كما هي الحال عند حسين الموزاني، على سبيل المثال). وأود الإشارة هنا إلى أني، لا أرى عيباً، أو قصوراً، حين يظل أغلب المؤلفين بالألمانية من العرب، المقيمين في ألمانيا، على ارتباط متين بوطنهم الأم، عند اختيارهم، الموضوعات التي تتمحور حولها كتاباتهم. فهذا التوجه، ينطوي، بالنسبة للقراء الألمان، على ميزة بينة، وإغراء كبير، للتعرف على عوالم وقصص وسير غريبة عن محيطهم الثقافي. وحتى إن أخذنا بالاعتبار، أن عرض هذه الموضوعات تتخلله، أحياناً، وبين موضع وآخر، لهجةٌ تتسمُ بشيء من الضحالة والابتذال، عند رسم صورة لغرائب الأمور. إلا أن الأمر الذي لا شك فيه، هو أن القراء يتعرفون أيضاً، من خلال ما يعرض أمامهم من صور غريبة عن محيطهم، على مكون حقيقي، من مكونات الحياة العربية. على صعيد آخر، لابد من الإشارة هنا، إلى أن الكتاب العرب، المقيمين في ألمانيا، كثيراً ما يُطلب منهم، إبداء الرأي، بشأن الموضوعات السياسية الآنية. وهكذا، فإنهم، بمساهماتهم هذه، قد صاروا صوت العالم العربي في ألمانيا (نقول هذا، وإن كان الواجب يفرض علينا الإشارة، إلى أن تصورات الكتاب العرب المقيمين في ألمانيا، لا تمثل تصورات العرب كافة ، أو تصورات عموم الكتاب العرب. ولعل من نافلة القول الإشارة هنا، إلى أن الكتاب العرب المقيمين في ألمانيا، لا يدعون لأنفسهم هذا الحق أصلاً).

وبالنسبة لما نحن في صدى الحديث عنه هاهنا، فإن البحث في المسائل المتعلقة باللغة الدارجة والأسلوب الطاغي في مؤلفات الكتاب العرب المقيمين في ألمانيا، من الموضوعات، الجديرة بالاهتمام بكل تأكيد. بيد أن علينا أن نسأل عن: ماهية اللغة التي يكتب بها المؤلف؟ وخاصية جمهور القراء؟ وعموماً يمكن القول: إن أكثرية العرب، الذين يكتبون بالألمانية، يتقنون الألمانية جيداً، ولكن ليس بنحو تام. ومعنى هذه الحقيقة، هو أنهم لا يمتلكون، في الحالات العامة، ناصية الألمانية امتلاك المثقف الألماني لناصية لغته الأم. وغني عن البيان، أن هذا القصور نادراً ما ينطوي على غبن. فأولاً: لا تخلو دور النشر من شخص مكلف بمراجعة النصوص المراد نشرها لتنقيتها من الأخطاء اللغوية. وثانياً: لأن المؤلفين يكتبون، والحالة هذه، بلغة سلسة، عادة، أي يكتبون بلغة، يفهمها القارئ العادي بلا عناء، ولا يعتريها التعقيد في الحالات العامة. ومعنى هذه الحقيقة، هو أن مؤلفاتهم لا يقرأها المتعلمون والمثقفون فقط، بل يقرأها، أيضاً، جمهور عريض من الأفراد (أي أن مؤلفاتهم، على شبه كبير، بمؤلفات علاء الأسواني، من حيث سلاستها اللغوية).

ومن نافلة القول، الإشارة إلى أن هذه الخاصية اللغوية، لا وجود لها، لدى أولئك المؤلفين، الذين يفضلون الكتابة بلغتهم الأم، أي الذين يتعين، بالتالي، ترجمة أعمالهم إلى الألمانية. ولكن، ورغم هذه الحقيقة، فإن هذه الكتب تحقق، في ألمانيا، نجاحاً كبيراً في كثير من الأحيان، وذلك لسبب آخر، (لسبب يسري على المؤلفات العربية أيضاً، المكتوبة بالألمانية): فالكثير من المؤلفين العرب شغوفون بالكتابة السردية، شغوفون بالمبالغة، وبسرد القصص الفاجرة والحكايات الداعرة. ومع أن البعض منا، يمكن أن يرى، في ما نقوله هنا، تعميماً غير واقعي، إلا أن من حقنا، أن نرى في هذا الشغف، صيغة من صيغ «تأثير شهرزاد». (علماً بأني لا أريد، بأي حال من الأحوال، الزعم أن هذا التأثير موجود فعلاً، أن العرب شغوفون، بنحو متميز فعلاً، بسرد الأقاصيص والحكايات – إن كل ما في الأمر هو أني أود الإشارة هنا إلى أن شعوراً من هذا القبيل يشوب، فعلاً، تصورات القراء والنقاد). وهكذا، وعلى سبيل المثال، وليس الحصر، قارن النقادُ الألمانُ أسلوبَ نجم والي (الكاتب الذي تُترجم مؤلفاتُه إلى الألمانية) بأسلوب غابرييل غراسيا ماركيز. من ناحية أخرى، يكمن أحد أسباب شغف القراء برفيق شامي، الكاتب الذي يؤلف، خلافاً لنجم والي، بالألمانية، في أن أسلوبه في الكتابة، يكاد أن يكون سرداً شفوياً. إن مؤلفاته تُذكر القارئ، بحكواتي المقاهي العامة. وتتجلى هذه الخاصية، المميزة لرفيق شامي، في قراءاته أمام الجمهور: فرفيق شامي لا يقرأ، أمام جمهوره، شيئاً من قصص وحكايات تضمنتها مؤلفاته، بل هو يقف أمام جمهوره ويأخذ بسرد حكاياته ارتجالاً. وبهذا المعنى، فإننا لا نجافي الحقيقة كثيراً، إذا قلنا، إن شامي يكاد أن يكون فناناً مسرحياً يؤدي العرض أو الحوار بنحو فردي ومن غير تصميم أو تدوين سابقين. وغني عن البيان، أن هذا الأسلوب ينطوي، إلى حد بعيد، على ظاهرة جديدة، بالنسبة للقراء الألمان، وعلى ظاهرة جديدة في الأدب الألماني أيضاً.

ومن خلال الخصائص، التي أبرزناها ها هنا، يحرز الأدب العربي، سواء كان مترجماً أو مكتوباً بالألمانية، ميزة يفتقر إليها الأدب الألماني، هذا الأدب الذي يُكتب، عادة، بأسلوب يتسم بكثير من التحفظ والتواضع، وبقدر كبير من الألمعية الفكرية والذكاء الذهني، وبشغف محدود بسرد الأقاصيص والحكايات. وبهذا المعنى، فإن الألمان يحصلون من الكتاب العرب، المقيمين في ألمانيا، على نفع ملحوظ، ليس من حيث الموضوعات فقط، التي يميل المؤلفون العرب إلى الكتابة فيها بشغف بين، بل، أيضاً، من حيث ما يستخدم هؤلاء المؤلفون، من أسلوب في الكتابة، وطريقة في السرد.

وبعد هذه الملاحظات، لا ريب في أن من حق المرء أن يطرح السؤال بصورة معكوسة: عن ماهية النفع، الذي يجنيه الأدب العربي، من المؤلفين العرب المقيمين في ألمانيا؟ وعن مدى تأثر العالم العربي بالتجارب والخبرات، التي اكتسبها هؤلاء المؤلفون من إقامتهم في ألمانيا؟ وبما أن أكثرية المؤلفين العرب، لم تتأقلم مع الوضع السائد في ألمانيا، من حيث الموضوعات التي تختار الكتابة فيها، لذا يحق لنا هنا تجاهل الخوض في النفع، الذي يجنيه الأدب العربي من الموضوعات، التي تتناولها مؤلفات الكتاب العرب المقيمين في ألمانيا. (وما خلا بضعة من المؤلفين العرب، أعني ما خلا مؤلفين هم على شاكلة حسين الموزاني) يمكن القول إن هؤلاء المؤلفين لا يرسمون للقراء العرب، الصورة، التي يستطيعون، من خلالها التعرف على طرائق الحياة في ألمانيا، وعلى خصائص الحياة مع الألمان. وإذا صدق ما يكتبه النقاد الألمان، أعني تأكيدهم على أن المؤلفين العرب يكتبون بأسلوب هو «من أخص أساليب العرب»، أي أنهم مولعون بالكتابة السردية، وبالمبالغة، فلا غرو عندئذ، ألا يعثر القراء العرب، في هذه المؤلفات، على أساليب مثيرة للانتباه أو مؤثرات جديدة - دعنا نسميها ألمانية الطابع. ومن ناحيتي، أود الإشارة إلى أني، شخصياً، لا أستطيع البت بنحو جازم بصواب أو زيف ما يكتبه النقاد الألمان في هذا الشأن. فحتى الآن، لا توجد، وللأسف، دراسات علمية بخصوص هذا الموضوع. من هنا، لا مندوحة للمرء من أن يطرح السؤال على القراء العرب أنفسهم.

إن تأثير المؤلفين العرب المقيمين في ألمانيا، على العالم العربي، يكمن، بحسب تصوراتي الشخصية، في مجالات أخرى غير مجالات الأدب الروائي. إنه يكمن، أولاً، في قيام هؤلاء الكتاب بالترجمة من الألمانية إلى العربية، وأود أن أشير هنا، على سبيل المثال، إلى خالد المعالي وحسين الموزاني وفاضل العزاوي. ويكمن ثانياً: في كتابة القصيد. ويمكننا التدليل على هذه الحقيقة من خلال ما قدمه في هذا المجال فاضل العزاوي، وفؤاد رفقة وعادل قراشولي وخالد المعالي. فكل هؤلاء المؤلفين يتميزون بأنهم يدبجون شعراً لا يحاكي التعبيرات والأساليب البلاغية التقليدية الدارجة في القصيد العربي عادة. إنهم يدبجون شعراً يتصف بالبساطة والوضوح والإيجاز. إنها مدرسة غوته وهولدرلن وبنّ وريلكه وبرشت وسيلان. ومن حق المرء أن يتحدث ها هنا عن وجود امتزاج حقيقي بين الشعر العربي والألماني.

وأعتقد، أخيراً، أن التأثير الألماني هو، وفي المقام الأول، ذو طابع فلسفي وسياسي. ويلاحظ المرء التأثر الذي تمارسه الثقافة السياسية والفلسفية السائدة في ألمانيا على المثقفين العرب المقيمين هنا، على سبيل المثال، من حقيقة أن جل الكتاب العرب في ألمانيا يتخذون موقفاً قوياً في نقدهم لما هو سائد في وطنهم الأم من تدين وتقاليد وأعراف اجتماعية؛ وأنهم قد تشبعوا، بشكل مكثف، بأفكار فلسفة الأنوار (كانت وهيغل ونيتشه) وفلسفة الحريات السياسية، التي ننعم بها، حالياً، في ألمانيا. كما يلاحظ المرء تأثرهم هذا، من حقيقة، أن هذه الفلسفة، قد تغلغلت في صلب وجهات النظر السياسية، التي يتبناها هؤلاء المؤلفون العرب، في ما يكتبون من مقالات ودراسات، وفي ما يصرحون به علانية. وليس بخاف، أن وجهات نظرهم هذه قد أمست، من ناحيتها، تؤثر على وطنهم العربي، أعني مثلاً، حين تُترجم مؤلفات حامد عبد الصمد، وحين يقوم هذا المؤلف بدعم الثوار في مصر. أو حين ينتقد رفيق شامي نظام الحكم في سورية؛ أو حين ينشر خالد المعالي، في مؤسسته المسماة «منشورات الجمل»، مؤلفات هابرماس وكانت أو دراسات غربية حول الإسلام.

ومن هذا كله يتبين لنا: أن التبادل الثقافي العربي الألماني قد بلغ من الكثافة مستوى لم يعرفه التاريخ أبداً. ولكن، وإذا أردنا فهم هذا التبادل الثقافي على حقيقته، لا مندوحة لنا من أن ننظر إليه من مناحي مختلفة: تارة، من وجهة النظر المختلفة، التي ينطلق منها القراء الألمان من ناحية، والقراء العرب من ناحية أخرى. وتارة ثانية، على ضوء سياق فلسفي وسياسي أوسع مدى. وحينما نأخذ هذه الحقيقة مأخذ الجد، عندئذ فقط، ندرك مدى الخصب الذي ينطوي عليه، هذا التبادل الثقافي حقاً وحقيقة.

في الختام.. لكم مني جزيل الشكر على إصغائكم لمحاضرتي.

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك