الرحيل إلى أوربا.. النهضة العربية ومشروع الحداثة

 

الحبيب الجنحاني

إن الدارس لرحلات رواد النهضة العربية إلى أوربا في القرن التاسع عشر يلمس في يسر أنها تنقسم إلى صنفين:

رحلات وصفية تتحدث عن الحياة اليومية لسكان البلدان الأوربية يومئذ فتصف عاداتهم, ومظاهر العمران في مدنهم, وما لاحظوه فيها من نظام وازدهار, كما تتحدث عن شتى مظاهر الحياة الاجتماعية, ولكن دون أن تولي عناية للنظام السياسي, وللمؤسسات الدستورية, التي تقوم عليها الدولة, وعلاقة ذلك بما وقفوا عليه من تمدن.

أما الصنف الثاني, فقد هدف عن وعي إلى إبراز كثير من الجوانب السياسية, فأسهب في الحديث عن المؤسسات الدستورية, وعن البرلمان ومراقبته لأعمال الحكومة, وأنه يستطيع سحب الثقة منها, وربط ذلك بالعدل السياسي, وبالحريات باعتبارهما دعامتين أساسيتين لإرساء أسس الدولة المدنية الحديثة.

وقصدوا من ذلك نشر الوعي في بلدانهم ليقارن الناس بين نظم الحكم المطلق التي يرزحون تحت نيرها والنظم الدستورية التي عرفتها كثير من بلدان أوربا الغربية, وبخاصة فرنسا وإنجلترا, بل ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك لما ربط بين التخلف الذي عليه المجتمع العربي الإسلامي ونظام الحكم المطلق من جهة, والنظم البرلمانية السائدة في الغرب من جهة أخرى.

إن الرحلات التي لفتت انتباهنا تندرج ضمن الصنف الثاني, ومن هنا جاء تركيزنا عليها في هذا البحث لما كان لها من تأثير بعيد المدى في الفكر السياسي لبوادر النهضة العربية, وتأتي رحلة الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873), (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) في طليعة هذه النصوص, وكذلك (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك) لخير الدين التونسي, (1804-1874) في كتابه الشهير (إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان), ولا ننسى في هذا الصدد الإشارة إلى رحلة رائد بارز من رواد الفكر التنويري العربي هو أحمد فارس الشدياق (804-1887) (كشف المخبا في فنون أوربا).

إننا نميل إلى الاعتقاد بأن نصوص الفئة الثانية من الرحلات قد كتبها أصحابها عن وعي, هادفين إلى إبراز ما حققه الآخر من تقدم, وما ينعم به من حريات مقابل صورة الأنا المتخلفة, وما تعانيه من ويلات حكم مطلق استبدادي يقف عائقا أمام كل محاولات الإصلاح والتحديث. إن النهضويين العرب قد نظروا إلى التمدن في الغرب من زوايا مختلفة, دون ريب, ولكنهم قد تأثروا من قريب, أو من بعيد بحداثة عصر الأنوار, ويعد هذا في نظري من أبرز مكاسب الفكر التنويري العربي, وأثمن ما تضمنه, هذا الصنف من الرحلات, فقد قدم الطهطاوي في رحلته (تخليص الإبريز) فكر البورجوازية الفرنسية الديمقراطي, وترجم فيه دستورها, ووصف ثورة الشعب الفرنسي سنة 1830, وتعاطف معها, كما أدخل كثيرا من المفاهيم الجديدة إلى اللغة العربية, إذ إنه استعمل في مرحلة مبكرة مفهوم (الجمعية) بمعنى المجتمع, واستعمل مفهوم (الجمعية التأنسية) بمعنى (المجتمع الإنساني), إذ إننا نقرأ في كتابه (المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين), وهو نص بمنزلة وصيته الفكرية (نشر عام 1872, أي قبل سنة من وفاته) ما يلي:

(إنه (يعني العدل) أساس الجمعية التأنسية, والعمران, والتمدن, فهو أصل عمارة الممالك التي لا يتم حسن تدبيرها إلا به, وجميع ما عدا العدل من الفضائل متفرع عنه, وكالصفة من صفاته), واستعمل مفهوم (التمدن) بمعنى (progrہs), ولكنه استعمل في كتابه (مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية), مفهوم (التقدمية), وأميل إلى الاعتقاد بأنه يعني ما نسميه اليوم الحداثة, واستعمل مفهوم (الحقوق المدنية), وهي تعني عنده التحرر من ربقة العبودية, والتمتع بالحرية, ويشير في فقرة أخرى من الكتاب إلى ارتباط المصلحة الفردية بمصالح المجتمع المدني وقواه لما قال:

إن الأهالي يجب أن يدركوا أن مصالحهم الخصوصية الشخصية لا تتم ولا تنجز إلا بتحقيق المصلحة العمومية.

عاد الطهطاوي إلى مجتمعه حاملاً مصباح الغرب ليضيء به دروب التقدم, فقد كتب الشيخ عبدالكريم سليمان رئيس تفتيش المحاكم الشرعية بنظارة الحقانية بمناسبة صدور الطبعة الثانية سنة 1912 من كتاب (مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية), يقول عن الطهطاوي: (وأنه الرجل الذي ألقى بالبلاد الغربية عصى التسيار أعواما طوالا وقف فيها على أسباب التقدم وأسرار الارتقاء, ثم عاد ومصباح الغرب بإحدى يديه, ومفتاح الشرق باليد الأخرى).

ويقول الشدياق في (كشف المخبا في فنون أوربا):

يعلم الله أني مع كثرة ما شاهدت في تلك البلاد من الغرائب, وأدركت فيها من العجائب, كنت أبدا منغص العيش, لما أنني كنت دائم التفكير في خلو بلادنا عمّا عندهم من التمدن والبراعة والتفنن).

ويغتنم أحمد بن أبي الضياف فرصة حضوره إلى باريس, رفقة سيده المشير أحمد باي مسرحية فرنسية ليشيد بالحرية فينقل لنا في رحلته فقرة من الحوار الذي دار على خشبة المسرح: (واتفق أن كان في هذه الليلة حكاية قصة, ولا أظنها إلا مقصودة, ومحصلها إجمالا أن بكرا من بنات الأكابر بالنسب, مات أبوها وبقيت مع أمها, وهي بالغ, فمالت نفسها إلى التزوج برجل من أفراد الجنس, وصار يأتيها ويحادثها, وتنكر أمها قدومه, ولما يخرج تعاتب البنت على السرور بقدوم الرجل, فتقول لها البنت: (ألهذا الرجل قادح في عرضه ومروءته?), فتقول لها الأم: (إنه ليس من أكفائك في النسب, وفي الرجال من له قدرة على استمالة القلوب بالمحادثة وليس له وفاء, فهو في الحقيقة متحيل), فتستحي البنت وتسكت, إلى أن قالت لبنتها, بعد خروج الرجل: (كأنك تريدين التزوج بهذا الرجل?), فقالت لها البنت: (وما يمنعني من ذلك?), فقالت لها: (إن نسبه ليس كنسبك), فقالت لها البنت: (إذا كملت النفس (بالحسب) غطت نقصان النسب). فقالت لها (إن أنظارك من الأكابر لا يريدون ذلك, وإن السلطان لا يريد ذلك ويمنعك من الرضى به), فصاحت البنت في ذلك المجمع (الحافل): (بأي شرع يتصرف السلطان في أرواحنا بالقهر ونحن أحرار?), وأقسمت أن تتزوج بالرجل, إظهارًا لحريتها, وخرجت فورًا إلى الكنيسة.

بل بلغ الأمر بالشيخ الزيتوني المعمم أن يعتبر أن الوطن الحقيقي ليس الوطن الجغرافي, بل الوطن الذي يستنشق فيه الإنسان نسائم الحرية, فنقل لنا هذا الحوار الذي دار بينه وبين أحمد باي, وهما يتجولان عام 1846 في شارع الشانزلزيه:

فقال لي: (ما أشوقني للدخول من باب عليوة, واشتم رائحة الزيت من حانوت الفطايري داخله), فقلت له مداعبا, وأنا أتنفس في هواء الحرية وأرد من مائها وقدماي بأرضها): (يحق لك ذلك, لأنك إن دخلت من هذا الباب تفعل ما تشاء, أما الآن فأنت رجل من الناس), فقال لي: (لا سامحك الله, لم لا تحملني على حب الوطن لذاته وعلى أي حالاته?), فقلت له: إن هذا البلد ينسي الوطن والأهل كما قال الشاعر:

ولا عيب فيهم غير أن نزيلهم   يعاب بنسيان الأحبة والأهل
 
 

وعندما نعود إلى علاقة الإصلاحيين في المجتمع العربي الإسلامي بالحداثة نلمس في يسر أن جلهم قد أدركوا منذ القرن التاسع عشر أن حداثة عصر الأنوار قد أصبحت حداثة كونية, فما هي يا ترى أبرز سمات هذه الحداثة التي حاول الرواد اقتفاء آثارها?

يمكن تلخيص ذلك في أربع مقولات:

- مقولة (لا سلطان على العقل إلا العقل نفسه).

- المقولة الثانية تدمج العقل في ثالوث يقوم على العقلانية, الحرية, والعدل السياسي الاجتماعي.

- المقولة الثالثة: تحرير التاريخ والإنسان من أسطورة الحتمية.

- المقولة الرابعة: تتعلق بشرعية السلطة, فلم تنشأ حركة الأنوار باعتبارها تيارًا فلسفيًا, أو فكريًا مجردا, بل ولدت, وشقت طريقها في خضم صراع مع الواقع المعقد, وهو واقع سيطرت عليه قوتان رجعيتان: قوة الكهنوت الكنيسي, وقوة النظم السياسية الاستبدادية, فليس من الصدفة إذن أن يكون أخطر سؤال طرحه مفكرو قرن الأنوار, وأبلغه أثرًا في الأحداث التاريخية التي عرفها القرنان الثامن عشر والتاسع عشر هو: من أين تستمد السلطة السياسية شرعيتها لتتحكم في رقاب الناس, ومصالح المجتمع? وجاء الجواب فيما طرحه روسو من نظريات في (العقد الاجتماعي) فليس من الصدفة أن يوليه أحد رواد النهضة العربية الحديثة رفاعة الطهطاوي عناية خاصة, فمن المعروف أن إيمانويل كانت (1724-1804) لم يقر أي تناقض بين الإيمان والعقل في فلسفته, وفي حياته, ولكنه يقول عن مؤسسات الكهنوت الديني, وعن السلطة الاستبدادية أنها مؤسسات (تدوس بأرجلها حقوق البشر المقدسة).

ونعود لنؤكد أن هذه المقولات قد انعكست بدرجات متفاوتة في كتابات المفكرين العرب ابتداء من الطهطاوي إلى فرح أنطون, وأديب اسحق (1856-1885), وسلامة موسى (1887-1958) وأحمد لطفي السيد (1871-1963), وطه حسين (1889-1973), فالحداثة التي تأثر بها التنويريون هي حداثة عصر الأنوار التي دشنت عصر حرية الإنسان, وحررت إرادته ليعي أنه صانع تاريخه, وبالتالي فهو مسئول عن اختياره, وهي التي أزالت طابع القداسة عن الحكم بعد أن افترى زبانيته على الشعوب قرونا طويلة, زاعمين أنهم يستمدونها من السماء عبر الكهنوت, فالسلطة شأن إنساني دنيوي لا علاقة له بالسماء, فالإنسان وحده, وعبر نضاله الطويل له الحق في اختيار أفضل أنماط الحكم لتسيير شئونه, وله وحده الحق في تغييرها, إذا لم تستجب لمصالحه, والحداثة المطلة من عباءة فلسفة الأنوار تعني العلاقة الوثيقة التي لا انفصال لها بين مفهومين: العقلانية والتحرر, فالعقلانية لا معنى لها دون أن تكون في خدمة التحرر, ويضحي التحرر, وما يقترن به من حريات, وحقوق, وديمقراطية دون عقلانية مستحيلا.

وهكذا أصبحت ممارسات الفكر العقلاني هي المحك, وحجر الزاوية, وبرزت وظيفته النبيلة في قيادة التقدم والتحرّر, فلا حداثة دون تحرير الإنسان من كل المسلمات والبديهيات, والميتافيزيقيات, والأساطير, وتحرير التاريخ من مقولة الحتميّة.

وقد حرصت على التذكير بأبرز مقولات حداثة عصر الأنوار, إذ إنها تمثل تحوّلا جذريا في وعي المثقف برسالته في المجتمع, وما يرتبط بها من حوار مع قوى المجتمع المدني من جهة, ومع السلطة من جهة أخرى.

حاول رواد الحركات الإصلاحية بأن يتخذوا حداثة عصر الأنوار نموذجا يحتذى سيسهم في الخروج من التخلف الذي يشكو منه المجتمع العربي الإسلامي, وسيسهم بصفة أخص في التحرر من نظم الحكم المطلق, وإرساء أسس الدولة المدنية يوما ما, وهكذا يطرح نفسه السؤال التالي:

أولا: لماذا لم تنجح حركات التنوير العربية في مختلف مراحلها التاريخية في إرساء أسس الدولة المدنية, وبقيت النظرية بعيدة عن التطبيق منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى مطلع القرن الواحد والعشرين?

ولماذا بقي جل حاملي لواء الفكر التنويري العربي منذ عصر الشيخ رفاعة حتى اليوم يركضون وراء الركب السلطاني, ويسبحون أناء الليل وأطراف النهار بحمد (وليّ النعم), كما اعتاد أن يطلق الطهطاوي على حاكم مصر بأمره يومئذ محمد علي (1805-1848)?

من أهداف هذا النص محاولة الإجابة عن هذا التساؤل.

ثانيا: إن إشكالية علاقة المثقف بالسلطة في المجتمع العربي الإسلامي مرتبطة ووثيقة الارتباط بتاريخ تيارات الفكر التنويري العربي الإسلامي, وهي إشكالية مطروحة اليوم بحدة.

لعلاقة المثقف بالسلطة سمات عامة, ولكنها تتميز بميزات خاصة في البلدان العربية, وهذه الميزات نفسها تختلف وتتغير من بلد إلى آخر, ومن مرحلة تاريخية إلى أخرى.

وأميل إلى الاعتقاد أنه لا يمكن فهم كثير من معطيات حركة الاستنارة العربية إذا لم تحظ هذه القضية بما تستحقه من عناية وتمحيص, وأكتفي بالإلماع هنا إلى أننا نجد فئتين أساسيتين ضمن زمرة رواد الحركة التنويرية العربية:

  • فئة أولئك الذين كانوا في عصرهم دعامة أساسية من دعائم الحكم المطلق الاستبدادي مثل الطهطاوي, وخير الدين, وعلي باشا مبارك (1827-1893), ومدحت باشا (1822-1883), فهل اعتقدوا أنهم قادرون عبر نشر أفكارهم الإصلاحية على إصلاح النظام من داخل السلطة? ذلك ما سنراه في ملاحظة لاحقة.
  • فئة ثانية كانت معارضة للسلطة, وأصابها بسبب مواقفها الإصلاحية التحررية عنت شديد مثل الأفغاني (1849-1902), وولي الدين يكن (1873-1921), وسليم سركيس (1867-1926).

ثالثًا: أرى أنه لا يتأتى فهم الحركات الإصلاحية العربية, فهما شاملا ودقيقا إلا إذا أنزلت في ظروفها الموضوعية مكانا وزمانا, وتشغل السياسة حيزا بارزا ضمن هذه الظروف الموضوعية, وهنا تتنوع المواقف, بل قد تتباين, فقد رأينا فئة من رواد الاستنارة حاولت الإصلاح من داخل السلطة عندما قدمت في مؤلفاتها نموذجا للسلطة السياسية في ديار الآخر المتقدم (الغرب) من جهة, وعندما سعت إلى تأسيس نظام تعليمي عصري قصد تخريج جيل جديد من المتعلمين المستنيرين من جهة أخرى. وهناك الفئة الثانية التي أدركت أنه لا أمل في الإصلاح, ولا في التحديث الحقيقي دون البداية بالإصلاح السياسي الهادف أساسا إلى القضاء على الحكم المطلق الاستبدادي, وتأسيس نظم دستورية جديدة, وتحويل نظم (الملك المطلق) إلى (ملك مقيد بقانون) حسب تعبير ابن أبي الضياف على غرار النظم الملكية الدستورية التي عرفتها البلدان الأوربية في القرن التاسع عشر, وبخاصة فرنسا, بل ذهب بعض أنصار هذا التيار إلى ضرورة الثورة ضد هذه النظم إن لزم الأمر, كما عبرت عن ذلك الرؤية السياسية الفكرية للثورة العرابية.

وأود الإشارة في هذا الصدد إلى فئة أخرى فرت من السياسة بعدما اكتوت بنارها, وركزت على التوعية عبر نشر التعليم والمعرفة, ويعد الشيخ محمد عبده من أبرز ممثلي هذه الفئة, فقد لعن فعل (ساس) و(يسوس), وقد أصبح من المعروف أن موقف الشيخ هذا كان من أبرز أسباب الفرقة بينه وبين أستاذه الأفغاني.

السؤال الكبير الذي يطرح نفسه في هذا الصدد هو: هل كان أنصار الفئة الثانية مدركين أنه لا يمكن أن يتحقق التقدم, وأن تؤتي إصلاحات ذات طابع تحديثي أكلها في ظل نظم سلطوية استبدادية, وأن الحل يبدأ بالإصلاح السياسي, كما تفطن إلى ذلك خير الدين (حكيم السياسة), كما يسميه الشيخ رفاعة. القضية طرحها روّاد الاستنارة العربية بالأمس, ومطروحة على النخبة الفكرية والسياسة العربية اليوم.

أدرك الطهطاوي أهمية العامل السياسي, دون ريب, لتحقيق التقدم في العلوم والصناعات بوجود تنظيمات مؤسسة على العدل السياسي, فلا تكفي - إذن - تنظيمات, ومؤسسات دستورية صورية, فلابد أن تكون ممثلة تمثيلا حقيقيا, وأن تكون لها رقابة على السلطة التنفيذية, ويستعمل خير الدين في هذا السياق مفهوم (الاحتساب على الدولة), وهي وظيفة البرلمان, ويسميه مجلس الوكلاء, و(مجلس الوكلاء المركب ممن ينتخبهم الأهالي للمناضلة عن حقوقهم, والاحتساب على الدولة), ولابد من أن تكون الحكومة مسئولة أمام البرلمان, وله حق سحب الثقة من أعضائها, و(لا يمكنهم البقاء في الخدمة إلا إذا كان غالب أعضاء مجلس الوكلاء موافقا على سياستهم).

فقد أدرك صاحب (أقوم المسالك), ومعه زمرة من رجال الإصلاح في النصف الثاني من القرن التاسع عشر, أن الأوضاع لا يمكن أن تتغير, وأن يخطو المجتمع العربي الإسلامي خطوات ثابتة فوق درب الحداثة الحقيقية دون تغيير الأوضاع السياسية, وبعث مؤسسات دستورية قائمة على العدل السياسي والحرية, فليس من الصدفة أن يقف خير الدين وقفة طويلة عند مفهوم الحرية, ودورها فيما حققه المجتمع الأوربي من تقدم, ولا غرو في ذلك, وهو الذي لمس عن كثب ويلات الحكم المطلق الاستبدادي وآثاره الوخيمة, مؤكدا (أن الحرية هي منشأ سعة نطاق العرفان والتمدن بالممالك الأوروباوية), فتحدث عن الحرية الشخصية, وعن الحرية السياسية, وعن حرية النشر والتعبير, وعن علاقة الحرية بالاقتصاد, مستنجدا بابن خلدون في المقدمة في إبراز علاقة الحكم الاستبدادي بخراب العمران.

ونتساءل اليوم, ونحن في مطلع القرن الواحد والعشرين: أحاملو لواء خطاب الحداثة واعون لخطورة العامل السياسي في تحقيق مشروع التحديث العربي, أو فشله?

كثير منهم واعون ذلك, دون ريب, ولكن من الغريب أن نجد اليوم في أدبيات فكر فئات من المثقفين العرب غياب هذا العامل عندما يتحدثون عن معوقات مشروعات التحديث العربية.

إن جميع التجارب العربية والدولية قد برهنت بوضوح أن جميع مشروعات الحداثة التي لم يتزامن فيها التحديث السياسي, أي تحول الدولة من دولة استبدادية قامعة إلى ليبرالية ديمقراطية هي مشروعات مشوهة ومجهضة, ومن الطبيعي أن تسقط طال الزمن أو قصر.

وهكذا يمكن القول إن مؤلفات الطهطاوي, وخير الدين, وابن أبي الضياف, وبيرم الخامس, والأفغاني, وفرح أنطون, والشيخ عبده قد أسست بدرجات متفاوتة, وبالإفادة مرة من أدبيات الفكر السياسي في التراث العربي الإسلامي, ومرة من أدبيات الفكر السياسي الأوربي الحديث لمفهوم الحداثة السياسية في تاريخ الفكر النهضوي العربي الحديث, فإذا كان الطهطاوي لم يستعمل مفهوم (العدل السياسي) كما جاء في (أقوم المسالك) لخير الدين, ولكن مفهوم العدل الذي استعمله يعني في نهاية المطاف العدل السياسي, فما كتبه عن العدل في آخر مصنفاته, وحرصه على نشره سنة قبل وفاته كان بمنزلة وصيته الفكرية, إذ إننا نقرأ في كتابه (المرشد الأمين للبنات والبنين) ما يلي:

(إنه (يعني العدل) أساس الجمعية التأنسية والعمران والتمدن, فهو أصل عمارة الممالك التي لا يتم حسن تدبيرها إلا به, جميع ما عدا العدل من الفضائل متفرع عنه, وكالصفة من صفاته, وإنما يسمى باسم خاص الشفقة والمروءة, والتقوى, ومحبة الوطن, وخلوص القلب, وصفاء الباطن والكرم, وتهذيب الأخلاق والتواضع, وما ماثل ذلك, فهذه كلها نتائج العدل...ففي حسنه الشرع والطبع).

وأود في نهاية هذه الملاحظة الإشارة إلى النقاط التالية:

  • إن حديث خير الدين عن (العدل السياسي), وعن مراقبة برلمان منتخب لأعمال الحكومة, واحتسابه على الدولة, وكذلك حديثه عن الحريات العامة يسقط نظرية (المستبد العادل), ومن المعروف أن كلا من الطهطاوي, والشيخ عبده من أنصار هذه النظرية, وهي متناقضة تماما مع مفهوم الحداثة السياسية باعتبارها الأس المتين للدولة المدنية.

بالرغم مما تبدو عليه مقولة (المستبد العادل) من تجديد عصرئذ, فإنها تبقى مشدودة إلى الماضي, وإلى تراث الفكر السياسي للدولة السلطانية.

  • إن أنصار التيار التنويري الذي يمثله الطهطاوي ثم من بعده الشيخ عبده, وقد قادا معركة التجديد في مجالين خطيرين: المجال الديني والسياسي قد وجدوا أنفسهم بين المطرقة والسندان, مطرقة سلطة سياسة استبدادية متخلفة, وسندان المحافظين من شيوخ النقل الببغائي, أو بتعبير عبدالرحمن الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد): مطرقة العلماء الغفل الأغبياء وسندان الرؤساء القساة الجهلاء. وما أشبه الليلة بالبارحة بالرغم من الفاصل الزمني الطويل, فإن أنصار الحداثة والتقدم في الوطن العربي يجدون أنفسهم اليوم في كثير من الحالات بين مطرقة نظم سياسية قامعة ومتخلفة, وسندان موجة الردة والرداءة, ورغم التناقض الأساسي بين القوتين في جل الحالات, فإن تأثيرهما السلبي يصب في نهاية المطاف في مجرى واحد: مجرى التخلف, ومعاداة الدولة المدنية الحديثة بمؤسساتها الدستورية الحقيقية, وقيمها الحداثية, وقد برهنت جميع التجارب العربية المعاصرة أنه لا تقدم دون إقامة هذه الدولة.

تفطن الكواكبي قبل قرن بالضبط إلى العداوة بين المعرفة وأهلها من جهة, والنظم الاستبدادية من جهة أخرى, فالحرب بينهما دائمة ومستمرة, ذلك أن أصحاب الفكر يسعون إلى نشر المعرفة وترسيخ أسس الفكر العقلاني التنويري, ويجتهد الجلاوزة إلى إطفاء نوره لما قال: (والغالب أن رجال الاستبداد يطاردون رجال العلم, وينكلون بهم, فالسعيد منهم من يتمكن من مهاجرة دياره, وهذا سبب أن كل الأنبياء العظام عليهم الصلاة والسلام, وأكثر العلماء الأعلام, والأدباء النبلاء, تقلبوا في البلاد, وماتوا غرباء).

وأود القول في هذا الصدد, ونحن نحاول فهم أسباب انتكاس التنوير: إن الأخطر في راهن كثير من المجتمعات العربية ليس الانهيار, وإنما تمويه الانهيار, وتجد السلطة في صفوف (المثقفين), من يتحدث عن التحديث والتقدم في مناخ تسيطر عليه الرداءة, والردة الفكرية والسياسية, ولاشك أن فقهاء الأحكام السلطانية الذين برروا الخلافة الوراثية, ونظروا للإقطاع العسكري, وللنظم الاستبدادية أكثر حذرا, وأشد حياء من هذه الفئة من (المثقفين) اللاهثين وراء الركب السلطاني.

ظنت النخب السياسية والفكرية التي خاضت معارك التحرر العربي أن الدولة الوطنية التي ستقوم غداة الاستقلال ستحقق حلم أجيال من التنويريين العرب في بناء الدولة المدنية الحديثة التي تسندها قوى مجتمع مدني ليبرالي حر, ولكن سرعان ما خاب الأمل, وتحولت إلى دولة مملوكية قامعة, وخاصة بعد أن مسكت بأزمتها في حالات متعددة المؤسسة العسكرية, ونظم الحزب الواحد الشمولي, وبرز شعار (شر معروف أفضل من خير مظنون), وتحول الركود إلى استقرار, أو ما أسماه زعماء النهضة بالأمس (بالجمود على الموجود), وإذا كان ضرر الجمود في القرن التاسع عشر محدودا, فإن الركود يعني في عصر العولمة التقهقر والتهميش.

رابعا - يخطئ الدارس منهجيا عندما يحشر النهضويين العرب في القرن التاسع عشر في زمرة واحدة متجانسة, إذ إنهم يمثلون تيارات سياسية مختلفة, ورؤى فكرية متنباينة, ويمكن أن نتحدث عن التيارات التالية:

- التيار الديني التجديدي, وأبرز حاملي لوائه: الطهطاوي, والأفغاني, وعبده, وعبدالرحمن الكواكبي.

- التيار الليبرالي, ونجد ضمنه ممثلي مشروعات متعددة: المشروع العلمي, ويمثله شبلي الشميل (1850 - 1917), ويعقوب صروف (1851 - 1927), وفارس نمر (1856 - 1951), والمشروع السياسي الاجتماعي الثوري, ويمثله المنظرون للثورة العرابية, ثم ولي الدين يكن, وسليم سركيس, والمشروع الاشتراكي العلماني المنادي بفصل الدين عن الدولة, وأبرز حاملي لوائه فرح أنطون, ولا مناص من الإشارة في هذا الصدد إلى أن نجد فروقا في رؤى ممثلي التيار الواحد حول مسائل متعددة, وبخاصة المحرمة منها يومئذ مثل الدين, والمرأة والجنس, والثورة الاجتماعية, ومن الصعب في بعض الحالات تصنيف بعض الرواد ضمن هذه الفئة, أو تلك لما اتسمت به مواقفهم من تقلب, ولعل أبرز مثال على ذلك رائد معاصر للطهطاوي أطلق عليه بعض الباحثين العرب اسم (صعلوك النهضويين العرب), وهو أحمد فارس الشدياق (1804 - 1887), فهو صاحب مواقف جريئة حول تلك المسائل المحرمة, كان سباقا في معالجتها بكل جرأة في كتابه (الساق على الساق في ما هو الفرياق), فقد وصف الفقراء والفلاحين في المجتمعين الشرقي والغربي (إن رأس الفقير ليس بأضيق, ولا أصغر من رأس الأمير, وإن يكن هذا أكبر عمامة منه, وأغلظ قذالا, كما ندد بظلم الولاة, وذوي السلطة: (وعندي أن أعظم أسباب الشيب في الأصل هو الهم والخوف من ظلم الولاة, وذوي الإمارة).

لم أعرف من نادى بحرية المعتقد, وحرية الجسد بين النهضويين العرب في القرن التاسع عشر غير الشدياق, وقد راد في موضوع المرأة كذلك لما قال: (لا نهضة للشرق إلا بنهضة المرأة).

وأبادر إلى القول هنا: إنه بالرغم من تعدد التيارات, ومن الرؤى المختلفة داخل التيار الواحد فإننا نستطيع أن نؤكد أن هذه التيارات تتفق على الأسس النهضوية التالية:

السعي إلى تغيير الأوضاع التي كان عليها المجتمع العربي الإسلامي, وتحقيق التمدن وقد شاهدوا معالمه عن كثب بعد الاتصال بالحضارة الأوربية, ونظر التنويريون إلى التمدن الغربي من زوايا مختلفة, فقد عنون الطهطاوي أحد فصوله في كتابه الوصية الفكرية (المرشد الأمين..) بعنوان ذي دلالة عميقة (في تمدن الوطن) تكسب آراءه الجديدة بعدا آخر قال فيه (من أسباب التمدن في الدنيا التمسك بالشرع, وممارسة العلوم والمعارف) وهي تعني دون ريب العلوم والمعارف الحديثة التي شاهدها في الغرب, وتحدث عنها في رحلته, فهي دعامة التمدن, وليست المعارف المتخلفة الشائعة في المجتمع العربي الإسلامي يومئذ, فهي بعيدة كل البعد عن التمدن, بل هي في كثير من الأحيان معادية له.

أما الشدياق فهو يربط التمدن بقيمة العمل والصنائع, فإنه يرى في غياب قيمة العمل والصناعة العقبة الأبرز في وجه من يريد بلوغ التمدن إذ (يكون التمدن عند الذين ليس عندهم صنائع أنكر وأضر وأدهى وأمر), أما التمدن عند فرح أنطون فهو القائم على دعامتين العلم والعلمانية.

  • مقاومة نظام الحكم المطلق, والمطالبة بدساتير تحول الملك من (ملك مطلق) إلى (ملك مقيد بقانون) (الملكية الدستورية), فما هي أساليب تحقيق هذا التحول?

هنا تختلف المواقف في صفوف التنويريين, فمنهم من آمن برسالة نشر التعليم, وبث الوعي عن طريق الطباعة والصحافة, وفئة ثانية رأت ضرورة العمل السياسي , وهنالك من ذهب بعيدا فآمن بالثورة الاجتماعية, وتبني المبادئ الاشتراكية, ولا ننسى أن بعض الرواد قد عاشوا أحداث ثلاث ثورات في فرنسا ثورة 1830, وثورة 1848, وثورة كومونة باريس 1871.

  • ضرورة التجديد الديني والفكري
  • ضرورة التوفيق بين الشريعة والاقتباس من الحضارة الغربية, وهنا تمت محاولة الإفادة من الجوانب المضيئة في التراث العربي الإسلامي, وهكذا برزت مسألة التوفيق بين الحداثة والإسلام, ودشنوا بذلك مقولة الثنائيات في الفكر العربي المعاصر: التقدم والتأخر, النقل والعقل, الأصالة والمعاصرة, التجديد والتراث, الأنا والآخر, ثم المجتمع المدني والجماعة, السلفية والعلمانية, الشورى والديمقراطية, الدولة الحديثة والقبلية, الدولة الحديثة والطائفة, ثم العولمة والهوية, والعولمة والعولمة المضادة, والعولمة والعالمية الإسلامية, وغيرها من الثنائيات التي مازال يشكو من عبئها الفكر الحداثي العربي حتى اليوم.

فقد نفهم ضرورة التوفيق عصرئذ, لكن الظاهرة استمرت, بل استفحلت خلال العقدين الأخيرين, وبعد مرور قرن ونصف القرن على بروزها, فهل يستحيل تجاوزها في الظروف الموضوعية التي يمر بها المجتمع العربي اليوم?

إن ظاهرة السعي إلى التوفيق, أو الاستنجاد بالتراث لم تنحصر في أوساط المحافظين, أو المجددين بصفة عامة, بل نجدها بارزة كذلك ضمن التيار الليبرالي المتحرر, وقد تصنف بعض فئاته ضمن التيار العلماني, فهي تبدأ مع فرح أنطون في كتابه عن ابن رشد, وتتواصل في فترة ما بين الحربين مع طه حسين في دراساته الإسلامية, وخاصة في الفتنة الكبرى, ومع علي عبدالرازق في الإسلام وأصول الحكم لتبلغ كتابا معاصرين نجد بينهم كتاب اليسار العربي, بل قل سدنة الفكر الماركسي الأرثوذكسي فتم الاستنجاد بأبي ذر الغفاري في فترة معينة باعتباره أول اشتراكي في الإسلام, ووقع تقصي النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية, ونظر أخيرا للحداثة من خلال المقولات الرشدية.

يلاحظ المتتبع للمصادر التراثية التي حاول مفكرو التنوير الإفادة منها لتبرير الاقتباس من الحضارة الغربية أنها تمثل الجوانب المشرقة في التراث العربي الإسلامي, وقد تم توظيفها حسب الهدف الأساسي لهذا المفكر النهضوي, أو ذاك, فقد هدف كل من الشيخ رفاعة, وخير الدين, وابن أبي الضياف, والإمام محمد عبده إلى الحد من ظاهرة الحكم المطلق أساسا, ولذا نجدهم قد أولوا مقدمة ابن خلدون عناية خاصة, ولاسيما (فصل في أن الظلم مؤذن بخراب العمران), أما الفكرة المحورية التي شغلت بال فرح أنطون فقد كانت ضرورة فصل الدين عن الدولة باعتباره يمثل الخطوة الضرورية لتأسيس الدولة المدنية, ويبدأ ذلك بدعم أسس العقلانية, وتأويل النص الديني الذي ظاهره يخالف البرهان والعقل, لذا فقد سعى إلى إحياء الرشدية, مفيدا بصفة أساسية من كتاب (فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال), مبرزا مقولة ابن رشد الشهيرة (فإن الحق لا يضاد الحق, بل يوافقه, ويشهد له), مضيفا في (الجامعة) ونحن نقطع أن كل ما أدى إليه البرهان, وخالفه ظاهر الشرع أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي).

إنني حريص, والحديث هنا عن إفادة النهضويين العرب في القرن التاسع عشر من جوانب معينة في التراث, على إبراز الملاحظات الثلاث التالية:

الأولى - إنهم قد أولوا القدامى, فأول الشيخ عبده أقوال المتكلمين, وأول خير الدين, والكواكبي نص ابن خلدون في المقدمة, وأول فرح أنطون كلام ابن رشد, ونحن عندما ندرس اليوم نصوص مفكري الاستنارة في القرن التاسع فإننا نئول أيضا, بل قد نقوم بتأويل التأويل, وتبقى مشكلة عويصة مطروحة: ماذا نئول, وبأي منهجية? ولاشك أن تأويل التأويل يخضع اليوم لرؤانا الفكرية, ونزعاتها الأيديولوجية المختلفة, كما خضع التأويل بالأمس إلى رؤاهم المتنوعة.

الثانية - إن أنصار التيار التنويري يستنجدون اليوم في مواجهة موجة الردة والرداءة السياسية والفكرية بالطهطاوي, وخير الدين, والأفغاني, وعبده, وفرح أنطون, والكواكبي, كما استنجدوا في زمانهم بابن خلدون, وابن رشد, والمعتزلة, فهل سيأتي يوم تنتفي فيه الضرورة إلى هذا النوع من الاستنجاد? إن جميع المؤشرات تنبئ أنه سيكون يوما بعيدا, فقد حلم فرح أنطون قبل قرن كامل لما نشر كتابه عن ابن رشد عام 1903 بأن يأتي يوم لا يبقى فوق هذه الأرض من يحتاج إلى موضوعه, قال في أواخره: (متى يصل الناس إلى زمن يقرأون فيه كتابا كهذا الكتاب بضجر وملالة لأنه بمنزلة تاريخ قديم لم يبق في الأرض احتياج لموضوعه).

وبعد مرور قرن كامل على كلام فرح أنطون يجد نفسه الفكر العربي اليوم مضطرا إلى الاستنجاد بابن رشد ليس لدعم النزعة العقلية, وضرورة إخضاع النص الديني للتأويل العقلاني, ذلك أن الحق لا يضاد الحق, بل يوافقه, ويشهد له, بل لتبرير الأخذ بأسباب الحداثة!

الثالثة: أرى من الضرورة طرح السؤال التالي: ما العلاقة التي نستطيع رصدها بين إرث الفكر التنويري العربي الإسلامي في القرن التاسع عشر وبين الراهن العربي?

لاتزال - دون ريب - علاقة متينة, فهل يمكن اليوم الاستغناء عن مواقفه الجريئة ضد نظم الحكم المطلق على سبيل المثال, ونقوله: إنه عهد قد ولى وأدبر, وأصبح إرث النهضويين حول هذه المسألة تراثا يدرسه أهل الاختصاص?

الراهن العربي الذي نعيشه يؤكد ضرورة الإفادة من الإرث التنويري الثري, ذلك أن المسألة لاتزال مطروحة بحدة, بل تطورت أساليب الحكم المطلق مع تطور الأساليب التقنية لقهر الإنسان, وإخضاعه لأنواع من العنت والعذاب لم تعرفها أساليب الماضي.

لا نملك اليوم إلا أن نجدد الحلم الذي حلم به فرح أنطون قبل قرن فنقول: نأمل أن يتحول إرث الفكر العربي التنويري العربي في مطلع القرن الثاني والعشرين حول قضايا الحكم المطلق, والعدل السياسي, وبناء الدولة المدنية الحديثة, وفصل الدولة عن السياسة, والحكم الديمقراطي البرلماني, والحقوق الطبيعية, والحريات العامة إلى تراث يدرسه المؤرخون, وأن يعالج الفكر السياسي العربي المعاصر يومئذ هذه المسائل حسب جدلية الواقع العربي, وقيم الحداثة الكونية دون الحاجة إلى الاستنجاد بابن رشد, أو المعتزلة لنشر الفكر العقلاني المستنير, أو التنظير للديمقراطية انطلاقا من الشوري في الإسلام.

لا أريد إنهاء هذه الفترة عن أسس الفكر التنويري العربي الإسلامي في القرن التاسع عشر دون مناقشة المسائل التالية:

1 - يقول عبدالله العروي في نص عن (إرث النهضة وأزمة الراهن): (لا تستطيع أن نلتمس خصوصيات الفكر النهضوي, في هذا البلد أو ذاك, إذا لم نقبل أنه اختفى مع الاحتلال الأجنبي, اختفى بمعنى تبدل وتغير, وكذلك بمعنى عجز وأخفق. لو نجح إصلاح النهضة لما تم الاحتلال).

هذا القول يثير الاستغراب, ذلك أن احتلال الأقطار العربية مرتبط بظاهرة تاريخية عالمية, هي ظاهرة الاستعمار, وقد بلغت أوجها في القرن التاسع عشر عندما دخلت الرأسمالية مرحلتها الإمبريالية, ثم متى كانت نهضة إصلاحية ذات طابع ديني وفكري قادرة على دحض احتلال عسكري كما حدث في الجزائر, وتونس, ومصر, والسودان في القرن التاسع عشر, فمن أوهام بعض زعماء الإصلاح الاعتقاد بأنهم يستطيعون الحد من تدخل القوى الأوربية في شئون بلادهم, ومنع الاستعمار المباشر بتنفيذ إصلاحات هشة, كما حاول ذلك خير الدين في تونس قبيل الاحتلال الفرنسي, أما الوهم الأكبر الذي يلمسه الدارس للمشروعات النهضوية في القرن التاسع مثل مشروع الطهطاوي, في مصر, ومشروع مدحت باشا في الدولة العثمانية, ومشروع خير الدين في تونس فإنه يتمثل في إيمانهم بإمكانية تحقيق مشروعاتهم في ظل نظم سلطوية استبدادية.

إن حركات التنوير العربية في القرن التاسع عشر محكوم عليها منذ البداية بالفشل سياسيا للسبب المذكور, ولكنها نجحت فكريا وثقافيا, فقد ولدت في أحضانها حركات التحرر العربي, وغرست بذور الثقافة العربية الحديثة.

حقا تميز الرواد التنويريون بالجرأة الفكرية, ولكن هذه الجرأة لم تختف تحت الاحتلال الأجنبي, كما يذهب إلى ذلك عبدالله العروي, فقد استمرت كما يثبت الصراع الفكري الذي خاضته الصحافة العربية ضد المحتل الأجنبي, وضد القوى المتحالفة معه, وكذلك اتهام عدد من رواد الإصلاح في القرن العشرين وملاحقتهم. حدث ذلك للشيخ عبدالعزيز الثعالبي, والطاهر الحداد في تونس, وطه حسين, وعلي عبدالرازق في مصر.

ومما يدعو إلى العجب قول العروي متحدثا عن الاحتلال الأوربي للأقطار العربية: (ذنبه الكبير أنه يجرد الفرد المستعمر (بفتح الميم) من روح المبادرة, ويكرس في نفسه عادات التبعية والتوكل, لقد اعتمدت هذه الفكرة أصلا ثابتا في كل ما كتبت, وعليها ينبني أيضا مقالي هذا.

كيف يتصور النهضة, أو الإصلاح من أضاع القدرة على المبادرة والابتكار).

إن هذا الكلام يتجاهل عشرات الانتفاضات العربية المسلحة ضد الاحتلال الأجنبي, ومئات المحاكمات لرجال النخبة السياسية والفكرية العربية, وعددا لا يحصى من الجمعيات السرية التي أسست لمقاومة الاحتلال, ويتجاهل آلاف الشهداء العرب في سبيل الحرية والاستقلال.

وتستمر دهشتنا حين نقرأ للعروي في المقال ذاته ما يلي: (عندما نقرأ اليوم مؤلفات عهد النهضة نلاحظ في الحين كل ما ينقصنا من دقة وتثبت, نسجل أنها تكتفي في الغالب بتلخيص مقالات ميسرة, وكتب شعبية مبسطة, ندرك أنها تهتم بجوانب تافهة في الحضارة الغربية, وتهمل أخرى أساسية ثابتة). فهذه أحكام تتسم بالتعميم, وعدم الدقة, فهذا الشيخ الأزهري رفاعة الطهطاوي يسعى جاهدا في دار الهجرة لتعلم الفرنسية, ثم ينكب على دراسة مصنفات (بور لماكي) لتأسيس مفهوم (الحقوق الطبيعية) في المجتمع العربي, ويتعمق في فهم مؤلفات روسو, ومونتسكيو, وفولتير, وينقل بعضها إلى العربية قصد غرس مفاهيم جديدة في التربة العربية, وهدف واعيا أن تكون هذه المفاهيم ذات صلة بالفكر السياسي والاجتماعي, وبالحقوق الطبيعية, وقد كان لها أثر بعيد المدى في تطور الفكر السياسي الأوربي والعالمي منذ القرن الثامن عشر, وأصبحت مادة عامة في برامج المدارس منذ الثورة الفرنسية, كما تأثر بفكر السان السيمونيين, وهذا فرح أنطون يتفحص مؤلفات فرنسيس بيكون, وأوغست كونت وداروين, ونيتشه, وماركس, وتولستوي, وأرنست رينان, وقرأ الشدياق ماركس وكتب عن ثورة كومونة باريس, ونشر في الثقافة العربية الحديثة لأول مرة مفهوم (الاشتراكية), و(الاشتراكيين), ولا نغفل عن التذكير هنا بالاطلاع الواسع لأصحاب المشروع العلمي على تطور العلوم الأوربية, وأسسوا مجلات للتعريف بها (المقتطف).

إن كثيرا من التنويريين كانوا واعين بضرورة التعمق في دراسة معارف أوربا الناهضة, أوربا التي مثلت العلم الجديد, والفكر الجديد, وحاول (النبت الجديد في الشرق), كما يسميه فرح أنطون أن يتمثل روح الوعي والفكر الأوربي ليواكب النهضة الحديثة.

2 - سبق أن ألمحنا إلى التيار العلماني, وقد كان له شأن بارز بين تيارات الاستنارة العربية, وبالرغم من أنه لم يكن هو التيار الأساسي, وينعت بأنه تيار نخبوي فقد كان له تأثير عميق في إثراء الحوار الديني والفكري (من الأمثلة الجدل الثري الذي دار بين فرح أنطون, والشيخ عبده في مطلع القرن الماضي) من جهة, وفي التنظير لمفاهيم جديدة وتقدمية في تاريخ الفكر السياسي والاجتماعي العربي الحديث من جهة أخرى. اتهم فرح أنطون بأن أحلامه طوبوية, وبحث عن (الفردوس الأرضي) للإنسانية الجديدة, ولكن أحداث قرن كامل عاشها العالم العربي - كان فيها للنزعة الدينية الأصولية, وللنعرة الطائفية دور سلبي بعيد الأثر - قد برهنت على بعد نظرته لما طالب بالفصل بين السلطتين المدنية والدينية, معللا ذلك بخمسة أسباب كبرى هي:

1 - إطلاق الفكر الإنساني من كل قيد خدمة لمستقبل الإنسانية.

2 - الرغبة في المساواة بين أبناء الأمة مساواة مطلقة بقطع النظر عن معتقداتهم ومذاهبهم.

3 - أنه ليس من شئون السلطة الدينية التدخل في الأمور الدنيوية لأن الأديان شرعت لتدبير الآخرة لا لتدبير الدنيا.

4 - ضعف الأمة واستمرار الضعف فيها إلى ما شاء الله مادامت جامعة بين السلطة المدنية والدينية.

5 - استحالة الوحدة الدينية, وهذا أمر من أهم الأمور, وهو أكبر الأسباب التي دعت إلى الفتن والاضطرابات في الإسلام والمسيحية, وإلى هذا السبب تنسب كل الحوادث الدموية التي حصلت فيهما.

6 - تطرح أمينة غصن في دراستها عن فرح أنطون السؤال التالي: (هل التفت العرب في القرن الماضي إلى الأصول الشرقية في حضارات وادي الرافدين, والفراعنة, والمسيحية الشرقية والإسلام, وفي إبداعات بني العباس, ومناهل الإغريق ليؤلفوا نهضة ذات خصوصية عربية, ويطعموها بأمصال الغرب لتمنح نسغهم النماء والقوة والأصالة)?

إنه سؤال غريب لم يطرحه مفكرو التنوير في القرن التاسع عشر, فماذا سيستفيدون من الحضارات الشرقية القديمة?

من أبرز إنجازاتهم أنهم اكتشفوا الهوة السحيقة التي تفصل المجتمع العربي الإسلامي عن ركب الحضارة الغربية, ورأوا أن الحل الوحيد يكمن في محاولة الالتحاق بالغرب الناهض عن طريق الاقتباس والإفادة منه. الرواد المسلمون اضطروا بحكم ثقافتهم من جهة, وبحكم المواقع الرسمية التي شغلوها من جهة أخرى أن يلتفتوا إلى التراث العربي الإسلامي للتوفيق بين الإسلام والأخذ عن الغرب, وقد أدركوا أن هذا الاقتباس سيصطدم بمقاومة, وسيتهم أنصاره إن لم تدعمه نصوص من الثقافة العربية الإسلامية, وقد كان وعيهم عميقا لما ميزوا تمييزا واضحا بين وجهي الغرب: الوجه الاستعماري البشع, والوجه المشرق, وجه غرب التقدم, والحريات, واحترام الحقوق الطبيعية, فقد كانوا يقاومون الوجه البشع في عقر دارهم, ويسعون جاهدين للإفادة من أنوار الوجه المشرق. وهكذا نستطيع القول: إن جل التنويريين العرب قد أدركوا في القرن التاسع إن حداثة عصر الأنوار قد أصبحت حداثة كونية, فما هي يا ترى أبرز سمات هذه الحداثة التي حاول الرواد اقتفاء آثارها?

يمكن تلخيص ذلك في أربع مقولات:

- مقولة (لا سلطان على العقل إلا العقل نفسه).

- المقولة الثانية تدمج العقلي في ثالوث يقوم على (العقلانية, الحرية, والعدل السياسي الاجتماعي).

- المقولة الثالثة: تحرير التاريخ والإنسان من أسطورة الحتمية.

- المقولة الرابعة: تتعلق بشرعية السلطة, فلم تنشأ حركة الأنوار باعتبارها تيارا فلسفيا, أو فكريا مجردا, بل ولدت, وشقت طريقها في خضم صراع مع الواقع المعقد, وهو واقع سيطرت عليه قوتان رجعيتان: قوة الكهنوت الكنيسي, وقوة النظم السياسية الاستبدادية, فليس من الصدفة إذن أن يكون أخطر سؤال طرحه مفكرو قرن الأنوار, وأبلغه أثرا في الأحداث التاريخية التي عرفها القرنان الثامن عشر والتاسع عشر هو: من أين تستمد السلطة السياسية شرعيتها لتتحكم في رقاب الناس, ومصالح المجتمع? جاء الجواب فيما طرحه روسو من نظريات في (العقد الاجتماعي) فليس من الصدفة أن يوليه الطهطاوي عناية خاصة, فمن المعروف أن إيمانيو (1724 - 1804) لم يقر أي تناقض بين الإيمان والعقل في فلسفته, وفي حياته, ولكنه يقول عن مؤسسات الكهنوت الديني, وعن السلطة الاستبدادية أنها مؤسسات (تدوس بأرجلها حقوق البشر المقدسة).

إن مشروع الحداثة متواصل, فهو لم يصل إلى نهايته, كما يزعم البعض, قد تصاب الحداثة أثناء مسيرتها الطويلة بردة أو نكسة, أو تستغل أدواتها التقنية المتطورة فتستعمل في القمع والاضطهاد, ولكنها قادرة برؤيتها المتكاملة على كبح الجماح, وتدارك الهنات وإصلاح الأخطاء.

إن الوجه الآخر للحداثة, الديمقراطية الليبرالية يسمح بظهور سلبيات الحداثة, والتعرف إليها, ومشاركة قوى المجتمع المدني في معالجتها حسب مبادئ الحداثة نفسها, وفي طليعتها مبدأ حرية النشر والتعبير.

المصدر: http://www.alarabimag.com/Book/Article.asp?ART=969&ID=36 

 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك