حوار الحضارات في سبيل التفاهم الحقيقي
حوار الحضارات في سبيل التفاهم الحقيقي
موريس بورمانس
لقد خصّصت منظّمة الأمم المتحدة في بداية الألفية الثالثة عاما دوليّا للحوار بين الحضارات فشارك البابا يوحنّا بولس الثاني هذا المشروع موجّها إلى العالم بمناسبة الاحتفال بيوم السلام العالميّ رسالة خاصّة عُنوانها الحوار بين الثقافات من أجل حضارة المحبّة والسلام. وبما أنّ الثقافة هي الوجه العقلي والروحي للحضارات، يُمكننا أن نتأمّل في بعض الملاحظات التي جاء بها البابا ثمّ سألخّص في الختام الدوافع الدينيّة والروحية التي تجعل المؤمنين الأحرار - أعني بالأخصّ المسيحيّين والمسلمين منهم - يلتزمون في هذا الحوار لأجل التعايُش السلميّ حيثما أراد الله أن يعيشوا جنبًا بجنب في جوّ كلّه تقدير واحترام.
ملاحظات البابا يوحنا بولس الثاني في الحوار بين الثقافات
كيف التنسيق بين وحدة الأسرة البشرية واختلاف الثقافات؟
يقول البابا في هذا الشأن: " إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تسلسل أحداث البشرية اعترتنا الدهشة أمام اختلاف الثقافات البشرية وتنوّعها. فكلّ واحدة تختلف عن الأخرى لمسارها التاريخي الخاصّ وميّزاتها التي تجعل منها فريدة من نوعها، أصيلة وعضويّة في بنيتها. الثقافة تعبير يؤهّل الإنسان وتاريخه على مستوى فردي وجماعي " .
ثمّ ينظر مؤلّف الرسالة الى صفات الثقافات وأبعادها الظرفية والتاريخية قائلا: " تتميّز الثقافات ببعض العوامل المستقرّة والمستديمة وأخرى حيويّة وعرضيّة.. ففي معظم الحالات تنمو الثقافات في فضاءات محدّدة تتشابك فيها عوامل جغرافية وتاريخيّة وعرقية لتنصهر في ما بينها. وعلى كلّ حال، أن يكون المرء إنسانا، يعني بالضرورة أن يتواجد في ثقافة معيّنة.
ويضيف البابا مفسّرا قوله هذا : " إنّ قبول الثقافة الذاتية كعنصر بنيوي للشخصيّة، وخصوصا في أولى مراحل النمو، لَخبرة واسعة يصعب الإفراط في تقييم أهميتها. فبدون هذا التأصل في محيط معيّن يخضع الشخص، منذ نعومة أظفاره، لتأثير حوافز متضاربة تعيق نموّه الصافي والمتوازن. وانطلاقا من هذه العلاقة الأساسية (بالأصول) - على مستوى عائلي، وكذلك إقليمي، اجتماعي وثقافي - ينمو في الأشخاص معنى " الوطن " ، وتميل الثقافة، أكثر أو أقل، إلى اكتساب مظهر وقومي " .
ولكنّ التاريخ يشهد يا للأسف أنّ الثقافات ربّما تصبح قوميات منطوية منغلقة تفضّل الرفض وتشجّع على التفتّت فكيف التوازن بين الثقافات المتعدّدة والتوافق بين قيمها المشتركة؟
يقول البابا جوابا لهذا السؤال الخطير في تنوّع الثقافات والاحترام المتبادل المرجوّ فيما بينها: " أمام هذا المشهد، يتساءل كلّ إنسان ذي إرادة طيبة عن التوجيهات الأخلاقية الأساسية التي تميّز الخبرة الثقافية لكل جماعة. فالثقافات، في الواقع، شأن الإنسان صانعها، تعاني من سر الإلحاد العامل في التاريخ البشري (2 تسالونيكي 6،7) وهي أيضا بحاجة إلى تنقية وخلاص. بإمكاننا أن نقيس، بطريقة ما، أصالة كلّ ثقافة بشرية وقيم الأخلاق التي تنقلها، أي صلابة توجيهها الأدبي، بمدى كونها للإنسان ولإنماء كرامته على كلّ المستويات وضمن جميع الأطر " .
فتصل حينذاك الرسالة البابوية الى جوهر الموضوع المطروح على النقاش فتتناول مسألة الحوار بين الثقافات والحضارات بما يلي: " بالمماثلة مع ما يحصل للشخص الذي يحقّق ذاته من خلال انفتاحه على قبول الغير وعطاء ذاته السخي، لا بد للثقافات التي صنعها الإنسان وهي في خدمة الإنسان، أن تتكيّف مع تموّجات حركة الحوار والشراكة انطلاقا من وحدة العائلة البشرية الأصيلة والأساسية التي جبلتها يد اللّه الذي فَطر البشر جميعا من أصل واحد (أعمال الرسل 17 ، 26 ) " .
" في هذا المنظور، يبرز الحوار بين الثقافات، موضوع يوم السلام العالمي لهذه السنة، كحاجة باطنية لطبيعة الإنسان والثقافة نفسها. ولكونها تعابير تاريخية مختلفة لوحدة العائلة البشرية الأصيلة تجد الثقافات في الحوار وسيلة لحماية خصائصها والتفاهم والشراكة المتبادلين " .
" يقود الحوار إلى معرفة غنى التنوّعية ويعدّ النفوس للقبول المتبادل ضمن تطلّع تعاون حقّ يتجاوب والدعوة الأصيلة إلى وحدة الأسرة البشرية برُمّتها. وبحكم هذه الميزة يمسي الحوار أداة رئيسة لتحقيق حضارة المحبة والسلام التي أشار إليها سلفي السعيد الذكر البابا بولس السادس كمثال منه تستمد قوّتها الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية لزمننا المعاصر. في مطلع الألفية الثالثة يبدو من الملحّ إعادة اقتراح طريق الحوار على عالم تمزقه نزاعات وأعمالُ عنفٍ كثيرة ووهن عزمه في بعض الأحيان فأضحى عاجزا عن تقصّي آفاق الرجاء والسلام " .
ويتابع البابا تحليله لأوضاع اللقاء بين الثقافات في ما يخصّ طاقات العولمة وأخطارها ثمّ تحدّيات الهجرة والاستيطان واحترام المعالم الثقافية الخاصّة للبلدان قبل أن يختم رسالته مذكّرًا للجميع بما للثقافات من قيم مشتركة قائلا من جديد: " يرتكز الحوار بين الثقافات، الوسيلة المميزة لبناء حضارة المحبة، إلى وعي القيم المشتركة لكلّ ثقافة لكونها مترسّخة في طبيعة الإنسان. وفي هذه القيم بالذات تعبّر البشرية عن أسمى معالمها الحقيقية. لا بد من التخلّي عن التحفظات الإيديولوجية والأنانيات إذا ما شئنا إنماء الوعي بهذه القيم في النفوس لتغذية تلك التربة الثقافية ذات الطابع الجامعي التي تمكّن من النموّ الخصب للحوار البنّاء. إنّ الديانات المختلفة قادرة، لا بل عليها، أن توفّر إسهاما حاسما في هذا المعنى " .
فما هي هذه القيم المشتركة التي تقرّب بين الثقافات المختلفة وتوطّد إمكانيات الحوار الحقّ؟
يستعرض البابا هذه القيم التي قد تجعل الثقافات تشارك بعضها بعضا في بناء عالم متعاضد وحضارة تكرّم الإنسان مهما كانت انتماءاته القومية أو الدينية.
هذه القيم هي:
أوّلا : التضامن بين الأشخاص والمجتمعات في جميع الميادين الاقتصادية والثقافية والروحية.
ثانيا : العدالة التي تضمن لهؤلاء الأشخاص وهذه المجتمعات احترام الحقوق وإنماء الحضارة.
ثالثا : السلم والسلام اللّذان يوجبان على الجميع حلّ النزاعات بوسائل الحوار والتفاهم.
رابعا : الحياة التي لا يستهان بها لأنها مقدّسة تحتاج إلى حمايتها أمام التجارب الفاسدة.
خامسا : التربية على المسؤولية الشخصيّة والجماعيّة تجاه مقتضيات التعايش السلميّ.
سادسا : الصفح والمصالحة مع إعادة قراءة التاريخ وتنقية ذاكرة الشعوب والأمم.
فكأنّ البابا أراد التفات الجميع بصفة مسبّقة إلى التأمّل إزاء حوادث سبتمبر المؤلمة لنفس السنة والى قبول رسالته الثانية في هذا الشأن وعنوانها لا سلام بدون عدل ولا عدل بدون غفران. أليست هذه هي الخطط الرئيسيّة للحوار بين الثقافات؟
وفي هذا الاتجاه ساهم المعهد البابوي للدراسات الإسلامية بروما في دعم هذه الجهود. فمنذ تأسيسه بمدينة روما في سنة 4691 اجتهد المعهد في جميع المجالات الممكنة لإثراء المسؤولين المسيحيّين والمسلمين بإعطائهم المعلومات اللازمة كي يزداد التعارف فيما بينهم ويمهّد الطريق في سبيل تقريب الصفوف والقلوب فاهتمّ المعهد بإعداد المحاورين من الطرف المسيحيّ ببرنامجه الجامعيّ للتعليم ومنشوراته الثقافيّة المختلفة ومشاركة بعض أساتذته في الملتقيات الحوارية. ويشتغل المعهد بتعليم اللغة العربية والعلوم الإسلامية للمسيحيين، رجالا ونساء، رهبانا وراهبات، علمانيين وعلمانيات، الملتزمين بمساعدة المسيحيين في سبيل التعايُش السلميّ مع جيرانهم المسلمين في كل مكان وبالخصوص في تلك البلدان التي يواجه سكانها كل يوم تحدّيات التعايش في ميدان العمل والسياسة والثقافة والإيمان وهكذا يصبحون جسورا بين أتباع الديانتين والمؤمنين الأحرار بمعدّل 20 ساعة كل أسبوع لمدّة الأشهر التسعة للسنة الجامعية وتشمل هذه الدراسات الصرف والنحو والآداب وأهمّ تحف العلماء والفقهاء والمفسّرين في علم الكلام والتأويل كي يصل كل من الخرّيجين الى ثقافة لا بأس بها تجعله يستطيع محاورة المسلم المثقّف في ميادين المعارف التاريخية والفقهية والكلامية والروحية حتى يزدهر الحوار على أحسن حال في اللغة العربية وفي اللغات الأخرى.
وتعبّر الأطروحات التي يقدمها الطلبة في نهاية تعليمهم الجامعي دائما عن القضايا الراهنة للمفكرين المسلمين المعاصرين مهما كانت تياراتهم الفكرية أو الإيمانية وقد تجاوزت مجموع هذه الأطروحات أكثر من 220 بحثا زادت مكتبتنا أبحاثا قيّمة تعكس هكذا أشهر ما جاء حديثا في عالم الحضارة العربية والإسلامية كما تجاوز عدد المؤلّفين العرب والمسلمين الذين ترجمت بعض مؤلفاتهم. الثمانين مؤلفا فضلا عن ذلك اهتمّ المعهد منذ تأسيسه بنشر بعض المجلاّت التي مقصدها تشجيع الخرّيجين على متابعة دراساتهم في الميدان أو توسيع آ فاق التحاور تجاه الأساتذة ورجال الدين، المسيحيين منهم والمسلمين. ومن هذه المجلاّت مجلّة Arabes Etudes (دراسات عربية) التي تجمع نصوصا مختارة حول أهمّ الموضوعات التي هي محور النقاش اليوم بين المفكرين العرب والمسلمين فنُشرت في هذا الصدد العديد من الملفات منها ملف التيارات المعاصرة في العالم العربي الإسلامي، الإسلام والتوحيد، الهيئات الإسلامية الدولية، التفسير الكلاسيكي والتفسير المعاصر، تطبيق الشريعة، الإسلام دين الدولة، الدعوة الإسلامية، مدينة القدس ونظرة المسلمين إليها، الاجتهاد وبابه (الغلق والفتح)، جامعة الدول العربية، مكّة المكرّمة وأهميّتها للمسلمين، المسجد ووظائفه عند المسلمين، الذمّة والأقليات غير المسلمة في نظر الإسلام، المستشرقون وقيمة الاستشراق، الشيعة ومعتقداتها، الأسرة في الإسلام والشريعة والقوانين العصرية، الحوار الديني في نظر المسلمين، مدخل إلى علم الحديث والسيرة النبوية، الإسلام والعلمانية، التفاسير القر آ نية المعاصرة، وغيرها من الملفات التي تمثل موسوعة كاملة في علوم الإسلاميات من خلال مجموعات نصوص مختارة قابلة للدرس والنقاش والتأمّل.
ولم يكتف المعهد بهذا النوع من المساعدة الثقافية للدارسين والباحثين فقط بل فكّر في إعطاء الملتزمين في الحوار بين المسيحيّين والمسلمين مجلّة علمية هي " دراسات إسلامية مسيحية وتصدر كل سنة مرة واحدة بثلاث لغات ( 350 صفحة) وتقدّم لهم، أوّلا، بعض المقالات التي تتشعّب بين الدراسات والتأمّلات والشهادات وبين تاريخ العلاقات الإسلامية المسيحية والحوار في الظروف الراهنة ووصف المشاكل التي تواجهها نفس العلاقات في أيامنا هذه، وثانيا، مجموعا شاملا من الوثائق والأخبار تهمّ هذه العلاقات في جميع البلدان، وثالثا، مراجعة نزيهة ودقيقة لعشرات من الكتب التي تتناول نفس المشاكل للتحاور والتعايش. وترسل هذه المجلّة إلى العديد من المكتبات الجامعية في البلدان الإسلامية والمسيحية. وإضافة إلى هذيْن المنشوريْن، اجتهد المعهد منذ أيّامه الأولى في تزويد خريّجيه الناطقين بالانقليزية بنشرة شهرية بسيطة في تلك اللغة Encounter (لقاء في سبيل التفاهم) تتناول جميع الموادّ النافعة للحوار الثقافي والروحي بين المسيحيين والمسلمين.
وبجانب وظيفته التعليمية والتربوية تلك ورسالته التأليفية والنشريّة هذه، يقوم المعهد بمشاركة في نشاطات الحوار المختلفة سواء أكانت تنعقد في الأقطار الإسلامية أم في بلدان أوروبا أو أمريكا إذ كثيرا ما ألقى أساتذته المبرّزون محاضرات تتناول شتّى الموضوعات المهمة للحوار وقد نشر أخيرا زملاؤهم ببيروت كتبا تلخص فيها البيانات والوصايا والنتائج (توصيات) لهذه اللقاءات التي جمعت محاورين، من الإسلام والمسيحية شرقا وغربا، واظبوا على القول بأن الحوار بين الثقافات والأديان من الشروط الأساسية لإرجاع السلم والسلام يسودان العيش المشترك حيثما واجه هذا العيش التحديات العويصة التي تنجر من التوازن الصعب بين قيم التقاليد الموروثة ومقتضيات الحداثة المجددة. وعلى المسلمين والمسيحيين أن يتفقوا على مجموع من القيم الأخلاقية والروحية فيعيشوها في جوّ ودّي أو أخوي من التنافس السلمي لمنفعة مجتمعاتهم المتحيّرة.
التعايش السلمي في العمل المشترك لخدمة قيمنا الروحية الحقة
ولكن ما هي أعلى المراجع لهذه القيم السامية التي تضمن لنا تعايشا سلميا يبشرنا بالخيرات الآتية، ألا وهي خيرات ملكوت الله في هذه الدنيا؟
يعلم أصدقاؤنا المسلمون جيّدا أن " لَيْسَ البِرّ أَن تُوَلّوا وُجوهَكم قِبَلَ المَشرِقِ وَالمَغرِبِ وَلكِنّ البِرّ مَن مَنَ باِللّهِ وَاليَومِ الآخِرِ والمَلائِكَةِ وَالكُتُبِ وَالنّبِيّينَ وَ آ تى المالَ على حُبّهِ ذَوِي القُرْبى واليَتامَى والمَساكينَ وابنَ السَبيلِ والسائِلينَ وَفي الرِقابِ وأَقامَ الصَلَوة وَ آ تى الزكَوة وَالمُوفونَ بِعَهدِهم إِذا عاهَدوا وَالصابِرين في البَأْساءِ والضَرّاءِ وَحينَ البَأْسِ أُولَئِكَ الذين صَدَقوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتّقون (سورة البقرة 177 ).
أمّا المسيحيّون فهم لا ينفكون يتأملون منذ قرابة ألفي سنة في ما كان بداية لعمل يسوع العلني في ناصرة الجليل بفلسطين: " وقام ليقرأ. فدُفِع سفرُ أشعيا النبي. فلما نشر السفرَ وَقَعَ على المَوضِعِ المكتوبِ فيه: " روحُ الربّ عليّ، لأنه مَسَحَني لأُبَشّرَ المساكينَ، وأَرسَلَني لأُناديَ للمَأْسورين بِالتخلية، وللِعُمْيانِ بالبَصَر، وأُطلِقَ المُرهَقين أحرارًا، وأُعلِنَ سنة نِعمَةٍ للرب. ثمّ طوى السِفرَ، ودفعه الى الخادِم، وجلس فشَرَعَ يقول لَهم: اليومَ تَمّتْ هذِهِ الكِتابَةُ (التي تليت) على مسامِعِكم " (لوقا 16:4 - 21 ).
وفعلا، تلك دلائل لا شكّ فيها على ملكوت اللّه الآتي، أعطاها يسوع عندما أجاب عن أسئلة موفدي يوحنّا المعمدان لمّا أراد أن يستفسره من سجنه (لوقا 18:7 - 23 ، متى 2:11 - 6) قبل أن يشهد للّه بموته. فكل شيء، بالنسبة إلى المسيحي، يتلخّص إذن في هذا البرنامج، المتضمّن وصية المحبة المضاعفة، وما التطويبات سوى توضيح له. قال يسوع: "أ َحبِب الربَ إِلهَك بكل قلبك، وكل نفسك، وكل ذهنك. هذه هي الوصية الكبرى والأولى. والثانية تشبِهُها: أَحبِب قريبك كنفسِك. بِهاتَينِ الوصيتَينِ يتعلّق الناموسُ كلّه وَالأنبياءُ " (متى 37:22 - 39 ).
يعلم المسيحيّون والمسلمون جيّدا أنّ هذا هو جوهر الرسالة التي يحاولون جميعا أن يكونوا لها أمناء، منذ عهودهم الأولى، رغم أخطاء الأفراد والجماعات ونقائصهم. " فالوصايا " التي نقلها موسى قديما، تكوّن تراثًا أخلاقيًّا مشتركًا: " أَكرِم أباك وأمّك.. لا تَقُتل، لا تزنِ، لا تَسرِق، لا تَشهَد على قريبك شهادةَ زور، لا تشتهِ بيتَ قريبك، لا تَشتهِ امرأةَ قَريبك، ولا عَبدَه، ولا أمتَه.. ولا شيئًا ممّا لقريبك " (الخروج 12 : 20 - 17 ).
وهكذا إذن فاحترام الأشخاص وحريتهم الذي يوجب علينا أن نؤكّد أن لا إكراه في الدين، والمساواة الأساسية بين الرجل والمرأة في اختلاف الوظائف والمهمّات، والإشادة بالصدقة والبرّ في القول، والاهتمام بالمصلحة العامة وتقديمها على المصالح الخاصّة، كل ذلك يكون منذ أمد بعيد عادة المؤمنين في الإسلام وفي المسيحية على السواء.
أليس ذلك هو البرنامج المشترك الذي شرع المؤمنون يجتهدون في تحقيقه معًا، في جميع أرجاء الدنيا، متعاونين مع ذوي الإرادات الصالحة، وإن كانوا من غير المؤمنين؟ ألا يجهد المؤمنون الحقيقيّون - ومعهم كل ذوي الإرادات الصالحة - أن يكونوا في كل مكان في خدمة الحياة والعدالة والحرية والسلام والمصالحة بين الناس؟
إنّهم في خدمة المرضى والمحتضرين في المراكز الطبية ومراكز التوليد، إنهم يأبون " قتل الرحمة المقبول في المجتمعات المتساهلة، إنهم ينشّئون على مسؤولية الأبوّة والأمومة، إنهم يدينون الحروب والتجارب القاتلة للبشر على وجه الأرض. تلك هي طريقتهم في العمل من أجل الحياة.
وهم يرفضون كل أشكال التمييز ويستنكرونها، سواء أكانت جنسية أم عنصريّة، أم ثقافية، أم دينيّة أم قوميّة. ويكافحون كل أشكال التملّك الأناني لثروات هذه الأرض، ويعملون في كل مكان في سبيل التطوير الاقتصادي وتقدّم الشعوب الإنساني، في احترام الأشخاص والثقافات والحضارات. تلك هي طريقتهم في العمل من أجل العدالة.
هؤلاء المؤمنون أنفسهم - ومعهم كل ذوي الضمائر القويمة - يدافعون في كل مكان عن قيم الحريّة (حرية التنقل والتعبير والتفكير والدين)، لأن الحرية وحدها تتيح للعبقرية الإنسانية ان تتفتح في كل فرد وفي كل جماعة. وهم ينبذون الاضطهادات على أنواعها ولا سيما الدينية منها، وينشّئون الأجيال الجديدة على السلوك بحسب اختيار حرّ واع، يسيّره اعتقاد شخصي، ولا تستعبده الأهواء. تلك هي طريقتهم في العمل من أجل الحريّة.
ويجهدون أيضا جميعا في خلق أخوّة دولية مع احترام الثقافات الوطنية. ويشجعون كل أشكال الحوار الجريء لحلّ النزاعات. ويرفضون القوميات الأنانية والايديولويجيات الاحتكارية. ويستمسكون عن روح الثأر وعن كل عدالة مغالية في التصلّب. ويريدون »أن يحقّقوا السلام على أساس من الحقّ والعدل. تلك هي طريقتهم في العمل من أجل السلام.
الحياة للجميع، والعدالة للجميع، والحريّة للجميع، والأخوّة للجميع، تلك هي إذن القيم الإنسانية الأساسية التي تكوّن بلا شكّ " البرنامج المشترك " لالتزامنا، كمؤمنين، في عالم اليوم. أجل كل ذوي الإرادات الصالحة يشاركون فيه، ولكنّ المؤمنين مدعوّون الى كل ذلك من باب أسمى يمكن أن يكون سببا إضافيا لتحاورهم.
إذا كان المسيحيون والمسلمون مدعوين هكذا الى التزام كلي وجماعي لخدمة إخوانهم، فذلك لأنهم يرون في كل كائن بشري - ولو كان ملحدا وعباد صنم - ذلك الانسان الذي " خلقه الله على صورته " كما يقول الكتاب المقدّس (التكوين 26 : 1 ) والحديث النبوي. قال يسوع للمسيحيين: " أحبّوا أعداءكم. وصَلّوا لأجل الذين يضطهدونكم، لكي تكونوا أبناءَ أبيكم الذي في السماوات، فإنّه يُطلع شمسَه على الأَشرار والصالِحين، ويُمطِر على الأبرارِ والأثمة.. فأنتم إذن كونوا كاملين كما أنّ أباكم السماويّ هو كامِل (متى 44 : 5 - 48 ). ويعرف المسلمون أنّ المؤمنين مدعوّون، بحسب أبي حامد محمد الغزالي، إلى " التخلّق بأخلاق الله، وذلك في اكتساب محامِدِ الصفات التي هي من الصفات الإلهية، من العلم والبرّ والإحسان واللطف وإفاضة الخير والرحمة على الخلق، والنصيحة لهم، وإرشادهم إلى الحق، ومنعهم من الباطل " .
أجل سنننا الدينية صريحة في هذا الصدد: إننا على أعمال الإيمان سنحاسب في اليوم الآخر. والمسيحي لا ينفك يتأمل في كلمات يسوع هذه بحسب إنجيل القديس متّى: " جُعتُ فأطعَمتموني، وعَطِشتُ فسَقَيتموني، وكنتُ غريبًا فآوَيتموني، وعُريانًا فكَسوتموني، وكنت مَريضًا فعُدتموني، ومَحبوسًا فأَتيتم إليّ.. (لأنّ) كل ما صنعتموه " إلى واحد من إخوتي هؤلاء، إلى واحد من الأصاغر، فإليّ قد صنعتموه (متى 35 : 25 - 40 ) والمسلم، في ما يتعلق به، لا يستطيع أن ينسى حديثًا قدسيًّا يقول فيه الله للناس في يوم الدين: " إنّ الله يقول يوم القيامة: يا ابن آ دم مرضتُ فلم تعدني، قال، ياربّ، وكيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده أَما عِلمت أنّك لو عُدتَهَ لوجدتَني عِنده؟ يا ابنَ آ دم، استطعمتُك فلم تُطعمِني. قال ياربّ، وكيف أُطعِمك وأنت ربّ العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعَمَك عَبدي فلان فلم تُطعِمه، أَما علمت أنّك لو أطعمتَه لوَجَدْتَ ذلك عندي؟ يا ابن آ دم استقيتك فلم تسقني، قال ياربّ، كيف أَسقيك وأنتَ ربّ العالمين؟ قال استَسقاك عبدي فلان فلم تَسقِه، أما علمت أنّك لو سَقيتَه لوجدتَ ذلك عِندي؟ " .
وهكذا يرى المسلمون والمسيحيّون أنفسهم، في خدمتهم رجال اليوم ونساءه، الى النظرة الرائعة التي ينظر بها الله إلى هؤلاء وأولئك (فهم خلائقه وصوره، بل أكثر من ذلك " خلفاؤه " بحسب النظرة الإسلامية، و " أولاده بالتبنّي " بحسب العقيدة المسيحية) والى الروائع الأجمل أيضا التي يتيح لنا الله نفسه استشفافها، من سرّه الخاص، بكشفه لنا أسماءه الحسنى. فلا ننسى لأننا لإيماننا بالله الحيّ، الذي يحبّ الحياة ويريدها ان تعطي أفضل ثمارها، نعمل، نحن المسيحيين والمسلمين، لأجل احترام الحياة حيثما وقع عليها التهديد. ولأننا نؤمن بالله العادل الذي خلق ثروات هذا العالم لكل سكان هذه الأرض، نكافح بلا كلال في سبيل العدالة في كل مجال. ولأننا نؤمن بالله الحر في الخلق والتجديد، الذي يعمل " ما شاء بحسب تحكّم ما هو في آ خر المطاف سوى تحكّم الحبّ، ندافع في كل مكان عن قيم الحريّة. ولأننا نؤمن بالله الذي هو سلام وجامع للشمل نريد أن نبني أخوّة دولية. ولأننا أخيرا نؤمن بالله الرحمان الرحيم ننادي بالمصالحة، عن سبيل الحوار، بين البشر: فالغفران وحده يعيد إلى السجين أو المدين أو الخاطئ الطاقات التي تمكّنه من الشروع في حياة جديدة، والرحمة الإنسانية وحدها تشهد على رحمة الله التي ليس لها حدّ ولا نهاية.
المصدر: http://science-islam.net/article.php3?id_article=908&lang=ar