مراجعات كتب: أوروبا المعاصِرة والإسلام
مراجعات كتب: أوروبا المعاصِرة والإسلام
رضوان السيد
1- تركّز الاهتمام على الإسلام في أوروبا منذ مطلع التسعينات، بسبب تفكك يوغوسلافيا السابقة، وظهور كيانات ودويلات ذات أكثريات أو أقليات إسلامية مثل البوسنة والهرسك وألبانيا وكوسوفو وسلوفينيا وسنجق في الجبل الأسود (الجمهورية الباقية بالاتحاد العربي) والشيشان. وقد كان الأمر قبل ذلك مقصوراً على الشكوى في ألمانيا من منافسة العمّال الأتراك للعمّال الألمان، وفي فرنسا من عنف وعدم تحضر الشبان المغاربة (الجزائريين على الخصوص) في ضواحي المدن الفرنسية الفقيرة. لكنْ في التسعينات من القرن الماضي جرى إلقاء الضوء على الأبعاد السياسية للإسلام الأصولي الصاعد في البلدان الأصلية العربية (على الخصوص) والإسلامية. كما جرى التركيز على الوعي الخاصّ للجاليات الإسلامية في المهاجر. وهذا الوعي الخاصُّ بالهوية له مظاهر شعائرية ورمزية. المظاهر الشعائرية تتمثل في إقبال الأجيال الشابة على المساجد والمراكز الثقافية في ديار المهاجر، والمظاهر الرمزية تتمثل في ميل الشبان لإطلاق اللحى، ولبس "الدشاديش" رغم الأجواء الباردة، وميل الفتيات إلى ارتداء غطاء الرأس. والغريب بالنسبة للأوروبيين كان أنّ هؤلاء المقبلين على التدين ما عرفوا مواطنهم الأصلية في الغالب والمظاهر والحياة الإسلامية فيها. إذ هم من مواليد ديار المهجر، ومن الجيلين الثاني والثالث. والأمر الآخر أنّ كثيراً من هؤلاء هم من ذوي الأصول العربية، بينما عُرف التدين وعرفت المحافظة منذ الستينات لدى المهاجرين والعمال الأتراك. وحوالي أواسط التسعينات بدأ الربطُ بين الإسلاميين الجدد هؤلاء والعنف، كما كان ذاك الربط قد بدأ في الديار العربية والإسلامية منذ السبعينات.
والواقع أنها لم تكن المرة الأولى التي تُساورُ الأوروبيين ثم الأميركيين الوساوس حول ارتباط الإسلام بالعنف. فهناك ملفٌ قديمٌ في الكتابات السريانية والبيزنطية من القرنين الثامن والتاسع للميلاد يتحدث عن الإسلام بوصفه ديناً فاتحاً ويؤمن بالقوة. ثم هناك أفكار المستشرقين ورجال الإدارة الاستعمارية حول الجهاد بعد أواسط القرن التاسع عشر، والذي تصدّى له كلٌّ من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. وأَصْلُ هذا الملفّ الصراع بين المستعمرين والمسلمين في الهند والجزائر، والذي أفضى إلى كتاباتٍ مضادّة حول الطبيعة الدفاعية أو الهجومية للجهاد. وعندما قامت الثورة الإسلامية في إيران (1978/1979م)، وجرى احتجازُ موظفي السفارة الأميركية في طهران على مدى أربعمائة يوم، وتعرض أجانب آخرون وإيرانيون للملاحقة أو القتل في طهران وبيروت وباريس: تحدَّث الإعلاميون والاستراتيجيون من جديد عن الإسلام العنيف. لكنّ الشبكات والحركات العنيفة هنا وهناك كانت مرتبطةً بطهران مباشرةً، وليست لها علاقةٌ وثيقةٌ بالمهاجرين وأبنائهم بأوروبا والولايات المتحدة، وسواءٌ أكانوا شيعةً أم سُنَّة.
إنّ الجديدَ في مسألة ربط الإسلام بالعنف في أوروبا ثم في الولايات المتحدة، أنها جاءت من ضمن حديث لكثيرين من الأوروبيين والأميركيين عن الخطر الإسلامي والتهديد الإسلامي، الآتي ليس فقط من الأصوليات الصاعدة في بلدان العالَم الإسلامي؛ بل ومن شباب الجاليات الإسلامية بفرنسا وألمانيا وبريطانيا والبلدان الإسكندنافية. وفي حين سلَّم الأوروبيون والأطلسيون لمسلمي أوروبا الأصليين –بعد تردد- بإقامة كياناتٍ سياسيةٍ في البلدان التي يشكّلون أكثريةً فيها، ومنحهم حقوق الأقليات في البلدان الأُخرى، طلبوا أبناء الجاليات الإسلامية في الأقطار الأوروبية الرئيسية بالاندماج في المجتمعات الجديدة أو مغادرتها!: وما اتفق الأوروبيون في البداية حول معاني الاندماج أو درجاته؛ إذ بدا الفرنسيون والألمان متشددين مثلاً؛ في حين بدا البريطانيون مائلين للاعتراف بالتعددية بحسب التقاليد عندهم. ثم حدثت تغيرات أساسية: أحداث 11 سبتمبر عام 2001م، وطلب تركيا الانضمام للاتحاد الأوروبي، وهجمات 7 يوليو 2004م في لندن. أدت هجمات القاعدة على الولايات المتحدة إلى اندلاع حرب عالميةٍ على الإرهاب، وجرى تبادُل الضربات بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، والقاعدة وشبكاتها من جهةٍ ثانية. ورغم الحذر والتشدد الأوروبي فقد قام شبانٌ من أبناء الجاليات الإسلامية بهجمات كلّفت مئات الضحايا في مدريد ولندن، فضلاً عن بعض حوادث العنف في باريس وإيطاليا والدول الاسكندنافية. وقد خاضت الدول الأوروبية مثل الولايات المتحدة تماماً، حروباً قانونيةً داخليةٌ من أجل التشديد منعاً للهجرة الأوروبية مثل الولايات المتحدة، حروباً قانونيةً داخلية من أجل التشديد منعاً للهجرة إليها، ومراقبة العرب والمسلمين بداخلها حتى أولئك الذين اكتسبوا المواطنة. ويسود اليومَ بأوروبا شعورٌ بالغربة والغرابة والخوف من جانب المواطن العادي من الإسلام والمسلمين؛ في حين تكثر الدراسات المتناقضة حول الطبيعة الحقيقية لهذا الدين المسؤول أبناؤه عن أحداث 11 سبتمبر 2001م، وعن أحداث عنفٍ أخرى كثيرة بأوروبا مثل الأحداث المهولة بلندن ومدريد والتي خلّفت مئات الضحايا.
2- الكتاب الأول: أوروبا والإسلام لجاك غودي. لا يمكن اعتبار Goody من أنصار الإسلام التقليديين، ولا من المتخصصين في دراسات الشرق الأوسط، كما أنه لا علاقة له بالاستشراق. عمل غودي أُستاذاً للأنثروبولوجيا (وهو يسميها علم الإنسان الاجتماعي) بجامعة كمبردج على مدى أربعين عاماً. وقد تقاعد قبل خمس سنوات، وكان دائماً من اليساريين الذين "لم يتوبوا"، ولا اهتموا بشأن الدين رغم تخصصه. ومع ذلك فقد رأى الرجل في فوبيا الإسلام بأوروبا ثم بأميركا أمراً يستحق الانتباه. ولذلك أقبل في أواخر الثمانينات من القرن العشرين على قراءة الظاهرة من ثلاثة جوانب: جانب صعود الأصولية والإسلام السياسي من ضمن حركات الانبعاث الديني، وجانب العلاقات التاريخية للإسلام بأوروبا، وكيف أسهم الإسلام في تكوين أوروبا الحديثة، وأخيراً جانب المتغيرات الأوروبية التي استتبعت هذا الجفاءَ الحاضر.
في الجانب الثاني والأهمّ من كتابه رسم غودي ثلاثة سُبُلٍ للإسلام نحو أوروبا: تتبع العرب عبر إفريقيا الشمالية وأسبانيا وشواطئ البحر المتوسط. ثم تتبع الأتراك عبر اليونان والبلقان. وأخيراً تتبع المغول عبر روسيا الجنوبية وبولونيا ولتوانيا. وقد تركت كلُّ حركةٍ من هذه التحركات البعيدة المدى، تأثيراتها على أوروبا في الثقافة والسكان. كان الأمر يبدأ بالصدام العسكري ثم ينتهي إلى تواصُلٍ ثقافيٍ وحضاريٍ وتجاريٍ كبير. وقد أدت الجزر الإيطالية وأسبانيا دوراً بارزاً في هذا التواصل والتلاقُح دون إهمالِ أية حركةٍ حتى الحروب الصليبية. لقد تبدلت أوروبا جذرياً بفضل هذا الاحتكاك على مدى ثمانية قرون. ويبلُغُ عدد المسلمين في القارة القديمة اليوم أكثر من خمسة عشر مليوناً؛ فضلاً عن الاندماج الممكن لعشرات الملايين الأخرى عبر البوسنة وألبانيا... وتركيا.
ولنبدأ بالحملات العربية، والتي انطلقت من المدينة المنوَّرة في حياة النبي محمد r، بعد العام 629 وباتجاه الشام والعراق. وكما عرف المسلمون اليهودية في المدنية، عرفوا المسيحية على اختلاف فِرَقِها في الشام ومصر ثم شمال إفريقية. بيد أنّ تجربتهم العالمية الأولى كقوةٍ عسكريةٍ وسياسية كانت في الاصطدام بالروم (=البيزنطيين) والفرس. ومن طريق إخضاع إيران تواصلوا مع الشعوب التركية والهندية وصولاً لآسيا الوسطى وتركستان والصين، ومن ناحيةٍ أخرى السند والهند. لكنْ فيما يتصل بأوروبا فقد كان اصطدامهم بالبيزنطيين هو الأهمّ، فقد أخذوا منهم الشام ومصر وشمال إفريقيا... ثم أسبانيا وبعض الجزر الإيطالية. وكانت تجربتهم الأهمُّ حضارياً مع الغرب الأوروبي من خلال دولتهم في أسبانيا (الأندلس)، ومن خلال قرابة الثلاثة قرون في صقلية. وفي الأندلس بالذات تعلّموا وعلّموا، وأنشأوا حضارةً ما تزالُ آثارُها ماثلةً حتى اليوم. وفي هذه الفترة بالذات كانت المملكة الكارولنجية تظهر وتتمدد في فرنسا وألمانيا. وعلى يد "شارل مارتل" جدّ شارلمان أُوقفت حملةٌ عربيةٌ كانت تتهدد فرنسا فيما وراء الألب في "بواتييه" عام 732م. وقد قيل على سبيل التهويل إنه لولا معركة بواتييه لأسلمت أوروبا وقُرئ القرآنُ في كل مكان. والواقع أنّ بواتييه ما أوقفت التوغل العربي، فقد ظلَّ العربُ يتقدمون حتى القرن العاشر الميلادي. ثم يلاحظ "جاك غودي" أنّ هنري بيرين (صاحب: محمد وشارلمان) أخطأ في نظريته القائلة إنه لولا محمدٌ لما ظهر شارلمان، بمعنى أنّ الإسلام هو الذي عزل الشواطئ الشرقية للمتوسط عن الغربية، فمكَّنَ ذلك شارلمان من إقامة دولته المكتفية بذاتها وغير المرتبطة بالمسلمين أو البيزنطيين. يشير "غودي" إلى بحوثٍ أُخرى تفيدُ أنّ الصِلات التجارية لم تتوقف، وأنه كانت لشارلمان علاقاتٌ بالمسلمين في أسبانيا وفي بغداد. وبعد قرنين على مملكته شعر الأوروبيون بالحاجة لغزو الشرق الإسلامي للقضاء على منافسته، وليس من أجل "استعادة" قبر المسيح فقط. فقد كانت تسيطر على التجارتين البرية والبحرية عبر شرق العالَم، ليس بالقوة العسكرية، بل بالتفوق الإنتاجي والحضاري.
وإذا كان التأثير الحضاري للعرب المسلمين واضحاً وواقعاً في أصول أوروبا الحديثة من خلال النموذج الحضاري الذي أقاموه في أوروبا، ومن خلال نقل علومهم المترجَمة أو المؤلَّفة من أسبانيا وصقلية إلى أوروبا للترجمة إلى اللاتينية وتدريسها بالجامعات، وتأملات الأطباء واللاهوتيين حولها –فإنّ هناك كثيرين يتجاهلون التأثيرات التركية والمغولية، باعتبار أولئك كانوا فاتحين عسكريين لا يهتمون كثيراً للعلوم والحضارة ولا يملكونهما. بيد أنّ الواقع أنّ هؤلاء أبدعوا في المعمار، وتركوا عناصر بشرية كثيرةً في القارة القديمة وعلى أطرافها، وبقيت منهم ومن المُقبلين على الإسلام من السُّلاف ومن غيرهم، مئات الأُلوف، التي صارت الآن ملايين، ليس في آسيا الوسطى وحسب؛ بل في البلقان، وفي بقاع أُخرى كثيرة.
ويعقد جاك غودي فصلين ختاميين عن أوروبا والإسلام في الزمن الحاضر. الأول عن التطهير العِرْقي في يوغوسلافيا السابقة. والثاني بعنوان الإسلام والإرهاب. غودي ليس ثأرياً، كما أنه ليس محباً كبيراً للأديان بشكلٍ عام؛ لكنه لا يرى أنّ المواجهات الوسيطة أو الحديثة في البلقان أو ضمن روسيا وفي آسيا الوسطى، تشكّل مقدمةً منطقيةً لمحاولات التطهير العرقي الصربية؛ مع ملاحظة أنّ سلوك الكروات تُجاه المسلمين ما كان أفضل بكثير. أما الحربُ الأخرى فهي حربُ الإرهاب، والتي شُنّت على الإسلام. وفضْل غودي هذا مكتوبٌ قبل 11 سبتمبر 2001م، بزمنٍ طويل، ثم جدَّده كما جدَّد الفصل السابقَ في الطبعة الثانية من الكتاب عام 2002م. وبالنتيجة فهو لا يرى أنّ الوعي الإلغائي الصربي أو الأوروبي، سيتمكنُ من إزالة الإسلام والمسلمين من القارة الأوروبية. فهم فيها منذ قرونٍ وقرونٍ بحضارتهم وطرائق عيشهم وإسهاماتهم وبَشَرهم. وسيظلّون فيها من ضمن العيش المشترك والمتعدد الذي صار أُطروحةً عالميةً رئيسيةً بعد وثيقة التنوع الثقافي الصادرة عن اليونيسكو عام 2003م.
3- الكتاب الثاني: المسلمون في أوروبا ليورغن نيلسن. ونيلسن متخصّصٌ في الدراسات الإسلام (أُطروحتُهُ عن قضاء المظالم في العصر المملوكي من خلال وثائق "سانت كاترين" بسيناء). وقد عمل طويلاً في المنطقة العربية، كما في الجامعات البريطانية والأميركية. وهو –بخلاف اختصاصه- لا يهتمُّ كثيراً بماضي الإسلام والمسلمين مع أوروبا، بل إنّ نصف فصول الكتاب تتبَّعُ أحوالَ المسلمين في البلدان الأوروبية بلداً بلداً: متى أتى المغاربةُ إلى فرنسا مثلاً، وكيف تطورت أوضاعُهُم، وما هي أعدادُهم اليومَ، وجمعياتهم، وإسهاماتهم في الحياة العامة الفرنسية، ومشكلاتهم مع القوانين، وقصة الحجاب، ولماذا هذا التأكيد من جانب المسلمين بفرنسا على خصوصيتهم.. الخ. وتأتي بعد ذلك ثلاثةُ فصولٍ في التلاؤم والتضارُب أو التجاذُب بين المسلمين والقوانين الأُوروبية والجماعات الأوروبية في مواطن هجرتهم، ومعاني تلك الظواهر ومستقبلها- بينما ينصبُّ القسمُ الثالثُ والأخير من الكتاب على تتبُّع أصول الجاليات الإسلامية إلى مواطنها الأصلية في العالمين العربي والإسلامي، مُلاحظاً تأثيرات يقظة الإسلام السياسي والصوفي والأصولي.. إلخ على أبناء تلك الجاليات وبناتها، وإشكاليات الأوروبيين معها.
يبدأُ "يورغن نيلسن" كتابه بتاريخ الإسلام في أوروبا ومعها قديماً؛ بيد أنّ هذا الفصل تمهيديٌّ وعامٌّ، ولا يحتل أكثر من 15 صفحة من الكتاب. ثم ينصرف إلى بحث الوجود الإسلامي المعاصر في البلدان الأوروبية مقدّماً الأهمَّ والكبير على المهمّ: فرنسا بعد العام 1962م، وكيف جاء إليها الجزائريون أولاً بوصفهم مواطنين، ثم بوصفهم لاجئين، ثم بوصفهم باحثين عن عمل. وبعد الجزائريين يدرس المؤلّف الوجود المغربي والتونسي، ليقرر بعد ذلك أنّ العدد يبلُغُ في التسعينات حوالي الـ5 ملايين. ويبلغُ عددُ مساجد المسلمين اليومَ حوالي الـ1500، ومراكزهم الثقافية حوالي الـ2000. ولا يكتفي الكاتب بقراءة الأحوال الدينية والسياسية للمسلمين، بل يشير أيضاً إلى التنوع الديني والمذهبي بينهم. فهناك مراكز صوفية، وأُخرى أصولية وسَلفَية، وثالثة مالكية تقليدية، وفي العقود الأخيرة ظهرت جماعاتٌ شيعيةٌ عربية (لبنانية) وإيرانية.
وتأتي ألمانيا بعد فرنسا من حيث أهمية الوجود الإسلامي فيها. وثلاثة أرباع ذاك الوجود من أصولٍ لجاليةٍ تركية، فقد قدم الأتراك إلى ألمانيا الغربية منذ الخمسينات، وظلُّوا يتدفقون دونما عوائق، بل باتفاقيات بين ألمانيا وتركيا حتى الثمانينات. ويبلُغُ عدد الأتراك بألمانيا حوالي الثلاثة ملايين، منهم حوالي المليوني مواطن. وهناك عشرات الأُلوف من المسلمين العرب (الفلسطينيين) واللبنانيين والإيرانيين والأفارقة والسوريين- بحيث يكاد عدد المواطنيين الألمان المسلمين يبلغ المليونين ونصف المليون. وبسبب التنوع الكبير في الأصول، فإنَّ الأتراك ينفردون باتحادٍ لجمعياتهم، وبمئات المساجد وأماكن الصلاة. وقد كانت مشكلاتهم مع المجتمع والدولة الألمانية أقلّ قبل ظهور المشكلات الاقتصادية. والأصوليةُ قليلةٌ في أوساطهم والترك من بينهم، لكنهم شديدو التمسك بخصوصياتهم، وكثيراً ما كانت لهم مشكلاتٌ أيضاً مع السلطات في تركيا. أما المسلمون العرب فمشكلاتهم مع السلطات غير دينية في الأساس، بل تتصل بالعمل وحقوق السكن والأوضاع المدنية والعلاقة بالبلدان الأصلية؛ إذ تحاول ألمانيا إعادة اللبنانيين بعد نهاية الحرب الأهلية، والحدَّ من قدوم السوريين الذي يدَّعون أنهم مضطهَدون سياسياً، وهم ليسوا كذلك. وهناك مشكلاتٌ لا تنتهي مع المهاجرين الأكراد القادمين من لبنان وسوريا والعراق وتركيا. لكنْ كما سبق القول؛ فإنّ تلك المشكلات في الغالب ليست دينيةَ الطابع.
بعد ألمانيا يدرس المؤلّف أوضاع الجاليات الإسلامية في بريطانيا، ويبلُغُ عددُهم اليومَ قُرابة المليونين، أكثرهم من شبه القارة الهندية، التي كانت مستعمرةً بريطانية. وقد مضى على أكثر هؤلاء جيلان أو ثلاثة. وهم متلائمون في الغالب، ولا مشكلات كبرى لديهم- أو أنَّ هذا كان صحيحاً أثناء تأليف "نيلسن" لكتابة، وإلاّ فإن أحداث 7 يوليو 2004م بقطارات الأنفاق في لندن، والوعّاظ المتطرفين الآخرين في الثمانينات والتسعينات؛ كلُّ ذلك أعطى صورةً أُخرى للأجيال الشابة من المسلمين الهنود والباكستانيين والعرب، أنهم يتأثرون كثيراً بالأوضاع في ديار أهلهم الأصلية؛ وإن لم يولدوا فيها أو لم يروها في حياتهم. فقد ذكر مَنْ حُقّق معهم أنهم منزعجون لما يجري بكشمير وفلسطين والعراق، وسياسات بريطانيا في تلك الأصقاع أو تُجاهها. لكنْ بين المسلمين ببريطانيا حوالي النصف مليون من خارج شبه القارة الهندية من العرب والأفارقة. وهؤلاء أقلُّ تلاؤماً من زملائهم ذوي الأصول الهندية.
ويعقد المؤلف بعد ذلك فصولاً قصيرةً للتحدث عن الجاليات الإسلامية بهولندا وبلجيكا والدول الإسكندنافية. والمسلمون منتشرون هناك بأعدادٍ أقلّ طبعاً. فهم يبلغون حوالي المليونين في أكثر من عشر دُوَل. وهم من أصولٍ متنوعةٍ جداً. وما كان لجالياتهم وجودٌ ظاهر حتى التسعينات. ويعودُ ذلك إلى عدم اهتمام أكثر الجاليات بخصوصياتهم في البداية، إلى أن تفاقمت المشكلات الوطنية (الأكراد والفلسطينيين مثلاً) في البلدان الأصلية، ثم جاء الصعود الإسلامي الصَحَوي. بيد أن المؤلّف يتجاوزُ عمليات التغيير لدى الأقليات السياسية الوطنية، والتي ازدادت حساسيتُها تُجاه الغرباء وبخاصةٍ المسلمين. والأمر نفسه يمكن قولُهُ عن ألمانيا وبريطانيا وفرنسا. فليس مصادفةً التركيز على قصة بضع فتيات مع الحجاب إلى حدود إصدار قانون يتعلقُ بذلك في فرنسا، وعصبية الرئيس "شيراك" للأمر.
يشكو "يورغنْ نيلسن" من قلة الإحصائيات المأمونة لسائر الشؤون المتعلقة بالمهاجرين المسلمين وجالياتهم. وهو ذو حساسيةٍ عاليةٍ تجاه المتغيرات من الطرفين؛ في الفصول التي يعقدُها للجاليات في كل بلد. بيد أنه يبلُغُ ذروةَ الإبداع في فصوله الثامن (العائلة والقانون والثقافة)، والتاسع (المنظمات الإسلامية)، والعاشر (مسلمون أوروبيون في أوروبا جديدة؟). في الفصل الثامن يدرس "نيلسن" عمليات التثاقُف بين الجاليات والمجتمعات والقوانين وظواهرها الإيجابية والسلبية. وهذه العملية الحضارية تمضي قُدُماً منذ عدة أجيالٍ، بيد أنها تعرضت لتحدياتٍ حاسمةٍ في العقود الأخيرة. لقد تغير الطرفان، المسلمون والأوروبيون. وكما سبق القول فإنّ نيلسن يتعرض للمتغيرات عند المسلمين، أكثر مما يفعل بشأن المتغيرات لدى الأوروبيين. وفي الفصل التاسع يدرس المؤلّف المنظمات والتنظيمات والجمعيات الاجتماعية والثقافية والدينية لدى المسلمين بأوروبا. وهو يركّز على تلك الجمعيات ذات الأُصول غير الأوروبية إذا صحَّ التعبير، وهي تلك التي أتى بها المسلمون معهم من شبه القارة الهندية أو شمال إفريقيا، أو مشرق العالَم العربي، أو تركيا. والواقع أنّ هذا الفصل مُفيد إذا لم ينشأ من خلاله الانطباع أنَّ المسلمين ما تلاءموا مع مجتمعاتهم الجديدة ومشكلاتها، بل جاءوا معهم بمشكلات بلدانهم الأصلية. والواقعُ أنّ المسلمين الهنود والأتراك توارثوا بعضَ الميراث من بلدانهم الأصلية على مشارف الأزمنة الحديثة (الطرق الصوفية مثلاً)، أما الآخرون، فكلُّ المشكلات التي تأثروا ويتأثرون بها هي من نتاجٍ حديثٍ أو معاصر، ولأوروبا دورٌ كبيرٌ فيها مثل قصة كشمير أو مشكلة أفغانستان وطالبان، أو قضية فلسطين أو غزو العراق. وفي الفصل الأخير من الكتاب يسأل يورغن نيلسن السؤال الأساسي، الذي ما فتئ طارق رمضان يسألُه: هل هناك مسلمون أوروبيون أو إسلامٌ أوروبي؟ والجوابُ يختلفُ باختلاف جوانب التأملُّ أو وجهات النظر. فالذين يركّزون على قضية الاندماج، والهوية الخالدة لأوروبا، لا يعتبرون أنّ هناك إسلاماً أوروبياً حتى الآن. والذين يقولون بالتعدد وبالانفتاح، يعتبرون أنّ الـ 15 مليون مسلم بأوروبا سائرون نحو مواطنةٍ أوروبيةٍ أسهم الإسلام في إنشاء أصولها قبل قرون.
4- الإسلام والمسلمون في أوروبا المعاصِرة لستيفان لاثيون. ولاثيون مؤرّخٌ مختصٌّ بالدراسات الأوروبية، ومنسِّق مجموعة أبحاث حول الإسلام في سويسرا. وهو يعتمد في كتابه هذا الدراسة المقارنة لاستقصاء وضع المسلمين في عدة دولٍ أوروبية هي فرنسا وألمانيا وبريطانيا وهولندا وبلجيكا وأسبانيا وسويسرا. وهو يرى أنّ تمايز أوضاع الجاليات في البلدان المذكورة يتحدد بحسب تجربة كلٍ من تلك الدول في حسم علاقة الدين بالسياسة، وإدارة التنوع الثقافي في سياق الدولة الوطنية أو القومية. ووفق هذا المنظور يميّز الباحث بين مساري العلمنة في البلدان ذات الأكثرية الكاثوليكية حيث تتجه السلطة السياسية |إلى تحرير الأفراد بصفةٍ كاملةٍ من سلطة الكنيسة المنافِسة للدولة- وبين البلدان البروتستانتية حيث حدث تحوُّلٌ مزدوجٌ ومتزامنٌ للدين وإلى باقي دوائر النشاط الاجتماعي.
ويتابع "لاثيون" أنّ لكل دولةٍ تجربتها العلمانية الخاصة في سياق هذا المسار المزدوج. وباستعراضٍ للتجارب المتنوعة بالرجوع للأدبيات المعروفة في الموضوع مثل دراسات "ماكس فيبر" و"هرفييه لاجيير"، يخلُصُ الباحث للتمييز بين ثلاث حالات رئيسية:
حالة اندماج مؤسسةٍ مهيمنةٍ في فضاء الدولة، حيث تكون دعامةً للديانة المدنية، كما هو الحال في بريطانيا واليونان والدول الاسكندينافية.
حالة تكامُل الدين مع الدولة دون قيام تنافُسٍ بينهما، كما هو الشأن في ألمانيا وبلجيكا وهولندا.
حالة الفصل الكامل بين الدين والدولة- سواءٌ أكانت علاقتهما منظَّمة كما في أسبانيا وإيطاليا، أو كانت الدولة هي سلطة التنظيم كما في فرنسا التي تتبنى اللائيكية.
بحسب هذا النموذج يدرس الكاتب وضع الجاليات المسلمة في أوروبا؛ برصد تحولات الوضع من ظروف أو حالات "المهاجر المؤقت"، وحالة "المقيم الدائم". ففي فرنسا مثلاً تدعمت حركة الهجرة بعد الحرب الثانية، وتقلصت بعد منتصف السبعينات؛ في الوقت الذي صارت فيه الجالية المسلمة جزءًا لا يتجزأ من النسيج القومي الفرنسي، طارحةً إشكاليةً معقَّدةً تتعلق من جهة بهويتها الخاصة، ومن جهةٍ ثانيةٍ بمنزلتها داخل النموذج العِلماني الوطني المركزي حيث الأولوية لمفهوم المواطنة، وليس للتعدد الثقافي. وقد انفجر الإشكالان في السنتين الأخيرتين، وارتبطا بموضوعي تحريم الرموز الدينية في المدارس العامة، وإنشاء جهاز تنظيمي للمسلمين. أما في بريطانيا فقد تدعمت الهجرة الإسلامية بعد فتح قناة السويس عام 1869م. وخلا الحضور الإسلامي من طابع الحدّة الذي ميّزه بفرنسا، لأنّ التنوع مبدأٌ معترفٌ به في بريطانيا. وتضمن السلطات العامة هناك إلى مختلف مكونات النسيج الاجتماعي حداً من الاستقلالية، والقدرة على المشاركة السياسية في الإطار المحلي. وازدادت الهجرة إلى ألمانيا من تركيا بعد العام 1962م. وبسبب ميراث التنوع الديني بالبلاد، فقد كان بمقدور المسلمين إنشاء روابط تنظمهم.
ويخلص الباحث "لاثيون" إلى أنّ الإطار العلماني للدولة وعلاقتها بالدين، حفظ للمسلمين حقوقهم الأساسية الدينية، وسمح لهم بتنظيم صفوفهم دونما قيودٍ مناغطة. وهو يذهب في الجزء الثالث من الكتاب عن العلاقة بين الإسلام والديانات الأخرى بأوروبا- إلى أنّ الإطار نوعان: لاهوتي، يتعلق بالاشتراك في التقليد التوحيدي الإبراهيمي الجامع بين الإسلام واليهودية والمسيحية؛ وعملي يرتبط بمجالات العيش المشترك وضرورات الاعتراف المتبادل وفق القيم الإنسانية الجامعة.
يعترف لاثيون بالتحديات التي تواجهُ المسلمين والأوروبيين معاً. لكنه يرى أنّ التعددية الثقافية هي الحلُّ للمشكلات. وهو يستندُ في ذلك إلى مفهومين مصدرهما الفيلسوف الأميركي جون راولز (صاحب: نظرية العدالة)، وهما: الإجماع التوافُقي، بسبب التداخُل بين المنظومات العقدية المتباينة، وقدرتها على التوصُل لقواسم مشتركة، والاختلاف العقلي، أي قبول الرؤى المتباينة للمسائل الكبرى وإدارتها في إطار تشريعي واسع، يضمن التعايش السلمي وفق ضوابط إجرائية تستند إلى حدٍ أدنى من توافُقٍ وتعايُشٍ بين مختلف الأنساق الثقافية البشرية.
المصدر: http://science-islam.net/article.php3?id_article=907&lang=ar