بيـــن التــراث و الــرمــــل
قيس محمــّد حسين
أن يحرصَ الشاعر على إثبات صلته بالتـّراث، فهذا أمرٌ حسنٌ، ولكن أن يسلك درب الرّمال لإثبات ذلك، فهذا أمرٌ مـُنفـّرٌ، ونحن لا نريد شطب الصـّحراء من تراثنا، ولكن نريدها أن تأخذ حجمها الطــّبيعيّ، حيـّزَّها الصـّغير الذي كانته دائماً، يقول شاعر (من الرّملِ جـِئنا رياحاً/ إلى الرّملِ عدنا رماحاً) ويقول آخر (من الصحراء عدت إليكِ عرياناً...) شعراء كبار حديثون، لم يعرفوا الصحراء عياناً، و إذ بهم يجعلوها أمــَّهم! لماذا: لإثبات الهويــّة، الجذر، التـّراث! النـّدى يـُعربد على موائد شعرنا بينما نعيش على كتف نهر، والنجوم تملأُ قصائدَنا بينما لا نطيق انقطاع الكهرباء لدقائقَ. سيقول أحدهم: أكثر مساحات وطننا العربي صحراء، و يردّ آخر: المساحات الأخرى هي التي صنعت التراث، وأنتجت الحضارة. لماذا إذاً هذا الجنوح المفرط لتقزيم التراث في الوقت الذي نحرصُ على تمجيدهِ؟ يشرح ناقدٌ معلـّقاً على قصيدة ((.. و يردُّ الشاعر في المقطع نفسه تهمة انفصاله عن التـّراث وذلك في تأصيل نفسه وجيله في الحياة الصـّحراويـّة...) أتساءل: ما علاقة تأصيل النـّفس في الحياة الصحراويـّة بالتـّراث؟ يقول شاعر آخر (هودجاً كنتُ / أصبو مع النـّخل / تشدو وراء خطاي الرّمال....) ما تراث الهوادج هذا، أقسم لو رأى طفلاً لسلبه علبة الحلوى من يدهِ، إنّ المنتج الإبداعي في التراث العربي لم يتشكـّل في الصحراء قط، فحسب الصحراوي أن يصمد في وجه قساوة الصحراء ويحافظ على حياته، حتـى السـّيوف التي طالما باهى بها الصـّحراويـّون ليست من صناعتهم، المشكلة إذاً مشكلة تحليل وفهم، التراث ليس الشـّيء المـُـنتج سابقاً، بل روح الإبداع التي أنتجت هذا الشـّيء، هي الرّوح المبدعة الوثـّابة التي حفرت بئراً بقطعةِ حديد، كي تبعث الحياة في قطعةِ أرض، البئر ليس تراثاً ولا يفيدنا بذاته اليوم، ما يفيدنا هو تلك الرّوح المبدعة، أن يدفعها إبداعها اليوم لصناعة الحفـّارات الضـّخمة التي تحفر البئر بساعات إلى أعماقٍ سحيقة وتـُخرج الماء بالآلة وليس بأشطان البئر، يقول جاك بيرل (التـّراث ليس شيئاً يورّث بل هو نقل الإبداع من جيلٍ إلى جيل) نحن لازلنا نبحث عن أشياء التـّراث دون فهم الرّوح المبدعة التي اخترعت تلك الأشياء، ما زلنا نلهث وراء ألاعيب القول دون الإلحاح على محمولهِ الفكري أو الفنـّيّ، مقولة أخرى مهمـّة في هذا السـّياق لـ كارل كاسبر (إنّ عصر العلم والتـّكنولوجيا هو نوع من البداية الثـّانية للإنسانيـّة يمكن مقارنتها بالبداية الأولى في اختراع الأدوات واصطناع النـّار) فلنبدأ بالبداية الأولى للدّلالة على ما سقناه، فاختراع الأدوات واصطناع النـّار كان في المدن الأولى في تلك القرى التي أُنشِئَت من حجرٍ وطين، فكان المزلاج والمطرقة والسّكـّين والمشارب والصـّناديق، وكذلك كانت اللغة والكتابة، لم يحدث ذلك في صحراءٍ لا ماء فيها ولا خشب ولا استقرار، كلّ ذلك أوّل ما اكتـُشـِفَ اكتـُشف لدينا في أرضنا هذا هو البداية الأولى العظيمة التي يحرص أكثر شعرائنا وباحثينا على نسفها بلا عمد، و يربطون تراثنا بالصحراء، صورة العربي التي ترتسم في مخيـّلة الكثيرين هي ذلك الخشن الغاضب المفرط في كلِّ شيءٍ، في كرهه وحبـّهِ، في تسامحهِ وفي أحقادهِ، في طموحهِ وقناعتهِ، في أنانيـّـتهِ وإيثارهِ، في ساديـّتهِ ومازوشيتهِ، في جلافتهِ ورقـــــّتهِ، مفرطٌ في كلِّ شيءٍ إلاّ في استخدامِ عقلهِ.
إذا أردنا أن نتأصـّل في تراثنا ونبني حضارة فعلينا فهم الملامح الحقيقيــّة للتـّراث من خلال جلجامش وابن رشد والفارابي وأبي العلاء وأمثالهم، لا من خلال الزير سالم أو الحجاج أو أبي العباس السفاح ولا من خلال القائل:
و ما أنا إلاّ من غزيــّة إن غوت/ غويتُ و إن ترشدْ غزيــّة أرشدِ.