التنوير في مقالات زكي نجيب محمود
فائق مصطفى
الدكتور زكي نجيب محمود (1905- 1993) شخصيّة فكريّة وأدبيّة بارزة بين الشخصيّات التي أنجبَتْها مصر في القرن العشرين، إذ قام بدور فاعل وخطير في كِلتا الحياتينِ الفكريّة والأدبيّة بمصر والعالم العربيّ، ففيما يخصُّ الفكر والفلسفة عُنِيَ زكي نجيب محمود بتيار فلسفيّ يُسمّى «الوضعيّة المنطقيّة»، تصدّى للفلسفة الميتافزيقيّة، ودعا إلى العناية بتحليل اللغة وألفاظها. لكنّه، فيما يخصّ الأدب عُني بالمقالة الأدبيّة تنظيرًا وتطبيقًا حتى لُقِّب بالفيلسوف الأديب، والمنُظِّر الرئيسي لفنّ المقالة الأدبية في النقد العربيّ الحديث.
أمّا التنظير فيتمثّل في مقدمة كتابه المعروف «جنّة العبيط أو أدب المقالة» الصادر في العام 1947، حيث حدّد خصائص المقالة الأدبية معتمدًا في بعضها على خصائص المقالة الإنجليزية، تحديدًا صار وثيقة مهمة تركتْ بصماتِها على كتابات نُقاد المقالة كافة، ومِمّا قاله في ذلك: «نُريد مِن كاتب المقالة الأدبيّة أنْ يكون لِقارئه مُحدِّثًا لا مُعلِّمًا، بحيث يجد القارئُ نفسَه إلى جانب صديق يُسامره لا أمام مُعلِّم يُعنِّفه، لهذا كلّه يشترط الناقد الإنجليزيّ في المقالة الأدبيّة شرطًا لا أحسب شيوخ الأدب عندنا يقرّونه عليه، يشترط أنْ تكون المقالة على غير نسق من المنطق، وأنْ تكون أقربَ إلى قطعة مشعّثة من الأحراش الحوشيّة منها إلى الحديقة المنسّقة المنظّمة». وفي الوقت نفسه ربط زكي نجيب محمود بين المقالة الأدبيّة والشعر الوجداني، فقال: «إنّ المقالة الأدبية قريبة جدًا من القصيدة الغنائيّة لأنّ كلتيهما تغوص بالقارئ إلى أعمق أعماق نفس الكاتب أو الشاعر, وتتغلغل في ثنايا روحه حتى تعثر على ضميره المكنون. وكلّ الفرق بين المقالة والقصيدة الغنائيّة هو فرق في درجة الحرارة، تعلو وتتناغم فتكون قصيدة، أو تهبط وتتناثر فتكون مقالة أدبيّة». وأمّا التطبيق فيتجلّى في مجاميع عدّة من المقالات ضمَّ أهمَّها كتاباه «جنّة العبيط» و«قصاصات الزجاج»، تلك المقالات التي تتميّز بغلبة النزعة التنويريّة عليها، بقيمها ومبادئها المعروفة التي عرفتْها أوربا منذ القرن السادس عشر الميلاديّ، فضلًا عن اتّصافها بجميع الخصائص الفنيّة التي يشترطها النقاد في فنّ المقالة من عناوين جاذبة ومقدّمات مشوّقة ولغة أدبيّة يتوافر فيها الخيال والصورة، وعرض زاخر بالأفكار العميقة، وتناصات فنيّة تغني ما يرد في المقالات من معان وأفكار، وخواتيم مقنعة..إلخ. لكنّّ مقالنا هذا لا يتناول كلَّ ما يخصُّ مقالات زكي نجيب محمود، بل يتناول قضيّة واحدة تبرز فيها على نحو لافت للنظر، تلك هي قضيّة التنوير. وقد اخترتُ هذه القضيّة مدارًا للمقال لإيماني بأنّ قيم التنوير يمكن أنْ تنفعنا كلّ النفع، وتخفّف ممّا نُعانيه، في هذه الظروف الصعبة التي يمرّ بها العالَم العربيّ والإسلاميّ، مِن تطرُّف وميل إلى العنف وإلغاء الآخَر وبُعد عن التسامُح والعقل...إلخ. يُعرِّف الفيلسوف الألمانيّ (كانط) التنويرَ بأنّه «هجرة الإنسان عن اللارشد (أو القصور العقليّ)، واللارشد هو عجز الإنسان عن الإفادة من عقله من غير معونة الآخرين. كما أنّ اللارشد سببه الإنسان ذاته، هذا إذا لم يكن سببه نقصًا في التصميم والجرأة على استخدام العقل من غير معونة الآخرين». والمعروف أنّ حركة التنوير عُرِفَتْ في أوربا خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، وأدّت إلى نهضة أوربا وتحرُّرها من سلطان الكنيسة والأنظمة الدكتاتوريّة وسيادة العقل والعلم. قامت حركة التنوير على مجموعة من القيم أجمَلَها المؤرّخون على النحو الآتي: أولًا: احترام إنسانيّة الإنسان، أي الاعتراف بكيان الإنسان الفرديّ، وبأنّ الإنسان هو الأساس والجوهر الذي لا يمكن تجاهله أو الحطّ من قدراته أو عقليّته أو اعتباره مجرد رقم. ثانيًا: أن الحريّة شرط لا غنَى عنه لتمكين الأفراد من تنمية قدراتهم ومهاراتهم وتحقيق ذواتهم بما يتفق مع رغباتهم ويحقّق لهم الرضى. ثالثًا: إخضاع كلّ شيء لحكم العقل، وتوظيف هذه الآلة الجبّارة التي وهبها اللهُ للإنسان في التوصُّل إلى الحقائق والاستنتاجات دون وصاية خارجية سواء من سلطة الاستبداد السياسيّ أو سلطة الاستبداد الاجتماعيّ. رابعًا: الالتزام الصارم بأنّ الناس جميعهم متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات دون تمييز قائم على النوع أو الجنس أو اللون أو المذهب أو الدين أو الخلفيّة الاجتماعيّة. خامسًا: التشديد على مفهوم التسامُح وقبول الاختلاف والتنوُّع وترسيخه كثقافة مناقضة للقمع ومصادرة الحريّات وفرض الرقابة والإقصاء والتخويف والهيمنة من طرف ضد أطراف أخرى. سادسًا: التأكيد على أنّ العلمانيّة شرط لقيام الدولة الليبراليّة، فحيث لا تكون هناك علمانيّة لن تكون هناك ليبراليّة. سابعًا: إنّ الديمقراطيّة بأنواعها ومظاهرها المعروفة شرط لتحقُّق المبادئ سالفة الذكر وترسُّخها. و من المعلوم أنّ بعضًا من هذه القيم التنويريّة عرفَها تراثُنا العربيّ والإسلاميّ في كتابات طائفة من الأدباء والفلاسفة أمثال الجاحظ والمعرّي والمعتزلة وأخوان الصفا وابن رشد والكنديّ وغيرهم، وفي كتابات المحدثين في القرن التاسع عشرة أمثال الشيخ رفاعة الطنطاويّ والشيخ محمد عبده وعبدالرحمن الكواكبيّ وآخرين، لكنّ هذه القيم ـ مع الأسف ـ لم تُشكِّل حركة قويّة لتغيّر واقعَنا الاجتماعيّ والسياسيّ، كما حصل في أوربا. و الآن ندخل في صلب موضوعنا بدراسة وتحليل ثلاث قيم تنويريّة تتجلّى وتتكرّر في أغلب مقالات كاتبنا، وهي: أولًا: إعلاء شأن العقل والدعوة إلى الاحتكام إلى حُكمه في كلّ شئون الحياة حتى ترقى الحياة ويتقدّم المجتمع ويسعد الإنسان، فكلّ مَن يقرأ هذه المقالات يُدرك أنّ الكاتب يُعنَى كثيرًا ويؤكّد مصطلح العقل ومرادفاته مثل الحكمة والفكر والتدبُّر والتأمُّل، ويرى فيه الخلاص مِمّا نُعانيه من هموم ومشكلات ثقافيّة واجتماعيّة وسياسيّة، إنّه يُفسِّر كلّ شيء تفسيرًا عقلانيًّا وعِلميًّا فيربط بين الظواهر وأسبابها، والمقدّمات ونتائجها ربطًا سليمًا حتى أنّه يحدّد معنى العقل في «الحركة التي انتقل بها من شاهد إلى مشهود عليه، ومن دليل إلى مدلول عليه، ومن مقدّمة إلى نتيجة تترتّب عليها، من وسيلة إلى غاية تؤدّي إليها تلك الوسيلة. وأهمُّ كلمة في هذا التحديد هي كلمة «حركة»، فإذا لم يكن انتقال من خطوة إلى خطوة تتبعها فلا عقل، إذا أدركت شيئًا دون أنْ تنتقل من هذه الحالة الإدراكيّة إلى حالة تليها وتتوقّف عليها فلا عقل (....) واختصارًا فإنّ حدّ «العقل» هو أنْ ينتقل الإنسان من معلوم إلى مجهول، من شاهد إلى غائب، من ظاهر إلى خفيّ خبيئ، من حاضر إلى مستقبل لم يحضر بعد أمام البصر، أو إلى ماض ذهب وانقضى..». في مقالة «نموذج المتمدّن» يحدّد الكاتب (المتمدن) بثلاث صفات، هي العقل والإحساس بالجمال والمقدرة على ضبط زمام النفس. أمّا العقل فمن أهمّ علاماته «التقيُّد بالواقع، وإدراك الواقع كما هو يتطلّب القضاء على الخُرافة بكلّ ما يتّصل بها من لواحق وأتباع، وللتخريف مظهران أساسيّان في طريقة تعليلنا للحوادث والظواهر، الأول أنْ نعلّل حدوث الأشياء المحسوسة بأشياء غير محسوسة، والثاني أنْ نعلّل شيئًا محسوسًا بآخر محسوس، لكنّه لا يرتبط معه ارتباطًا يدلّ عليه طول الملاحظة ودقّة التجربة، فلو قلت مثلًا إنّ المرض في جسم المريض سببه شيطان حالّ في الجسم، أو إنّ السماء ترعد وتبرق لأنّها غاضبة، فأنت مُخرِّف من النوع الأول، ولو قلت إنّ السفر يوم الأحد مشئوم، ونعيق الغُراب نذير بالموت، فأنت مُخرِّف من النوع الثاني. وفي كلتا الحالتين أنت خارج بإدراكك للأشياء على منهج (المتمدّن) في هذا العصر الذي أبرز ما فيه هو العلم وما يؤدي إليه وما ينتج عنه». و لأنّ كاتبنا مَعنيّ بالعقل وآثاره في مظاهر الكون والطبيعة، فهو يجد رموزًا هنا وهناك للعقل والحكمة، فمثلًا يرى في البوم رمزًا للحكمة في مقالة «حكمة البوم» حيث يقول: «تُتَّخَذُ البومةُ شعارًا للحكمة وبُعد النظر، تراها مرسومة على الكتب أحيانًا لِيدلّ الناشر على ما تحويه كتبه في بطونها من حكمة خالدة...». لكنْ ما العلاقة بين البوم والحكمة؟ راحَ الكاتب يُفكّر باحثًا عن جواب سؤاله هذا حتى وجده «وجدتُ العِلّة في اتخاذ البومة شعارًا للحكمة ورمزًا لبُعد النظر، العلّة هي الصمت، بل وجدتُ العلّة، لماذا أقفرَتْ بلادُنا وأصابها العقم آلافَ السنين، لا تنجب المصلحين العاملين، العلّة هي هذا العجيج والضجيج، هي هذه الجلبة وهذا الصياح». وفي الوقت نفسه ينظر إلى الظواهر الاجتماعيّة والنفسيّة نظرة عميقة ويُقيِّمها بحسب ما ينجم عنها من فوائد للإنسان والمجتمع، فمثلًا يرى «سرّ السعادة في قلة الحاجات، فقلْ لي كم تتطلب لحياتك من حاجات، أقلْ لك كم أنت سعيد... هي عمليّة حسابيّة أوليّة بسيطة: لو بلغتْ حاجاتُك صفرًا كانت لك مائة السعادة كلّها». ثانيًا: احترام إنسانيّة الإنسان، ونلحظ عند قراءتنا هذه المقالات إقرار الكاتب بشخصيّة الإنسان الخاصة، واحترامه لِفردانيّته واختياراته وقناعاته الشخصيّة في الميادين كافة «الأسرة والمجتمع والدولة». في مقالة «مطلوب إنسان» يدعو الكاتب للنظر إلى الكائن البشريّ نظرة إنسانيّة بدلًا من النظرة النفعيّة التي تَعُدُّ الإنسانَ وسيلة لتحقيق غاية، وليس غاية في نفسها، فهو عندما يسأل هذا السؤال: متى يكون الإنسان (إنسانًا) بالمعنى الصحيح؟ يكون جوابه «يكون كذلك بمقدار ما يبعد عن وزنه لنفسه ولسائر الناس بميزان الجزّارين والبقّالين، يكون الإنسان إنسانًا حين يعرف للإنسانيّة حقّها بِغضّ النظر عن نفعها. انظر إلى الجسد البشريّ ـ كائنًا مَن كان صاحبه ـ نظرك إلى الشيء المقدّس المهيب، يكفي أن يكون الكائن الذي أمامك واحدًا من البشر لِيستوجبَ احترامَك بل إجلالَك وإكبارك لهذا الذي خلقه اللهُ فَسوّاه وكرّمه. إنّنا لو قدّسنا البشريّة في كلّ فرد من أفرادها، وضعنا بذلك أرسخَ أساسٍ للحريّة والإخاء والمساواة بين الناس. ألا مَن يبلغ عني كلّ مترفّع متغطرس أنّنا جميعًا ـ أعلانا وأسفلنا ـ على بعد واحد من الشمس!! ألا مَن يبلغ عني كلّ متجبّر متكبّر أنّه إذا ظنّ نفسه واقفًا على قمة جبل بالنسبة إلى سائر الناس، ينظر إليهم فيراهم في عينيه صغارًا ضئالًا، فهؤلاء الناس كذلك ينظرون إليه من بطن واديهم، فإذا هو أيضًا في أعينهم يرونه صغيرًا ضئيلًا، لأنّ المسافة بينهم وبينه كالمسافة بينه وبينهم. يكون الإنسان (إنسانًا) بمقدار ما يرى في كلّ فرد من الناس غاية مقصورة لذاتها، لا وسيلة تخدم غاياته وأغراضه». أمّا في الميدان الأسريّ فكاتبنا يُلغي المقولة الكلاسيكيّة التي تذهب إلى أنّ الوالد يُكرّر نفسه في أبنائه، فالابن نسخة من أبيه، قائلًا: «فلكلّ ولد شخصيّته الفريدة المستقلة القائمة بذاتها، وقد أعلنتِ الطبيعة ذلك إعلانًا صريحًا يوم قطعتِ القابلة الحبل السرّيّ الذي كان يصل الجنين بأمه، ففصلتْهما شخصيّتينِ بعد أن كانا شخصيّة واحدة. إنّ صميم الحياة في الأحياء كافة هو هذا التفرُّد، فيستحيل عليك أن تجد على سطح الأرض مِن أقصاها إلى أقصاها ورقتينِ من أوراق الشجر متماثلتينِ كلّ التماثُل، وانظر إلى بصمات الأصابع كيف يستحيل تكرارها في شخصين على نحو يحقّق التطابق التام». ثالثًا: الدعوة إلى الحريّة ومحاربة الطغيان، فتزخر مقالات زكي نجيب محمود بنزعة تنويريّة تقوم على تأكيد حرية الإنسان وإلغاء كلّ أشكال الاستبداد والطغيان في الميادين الاجتماعيّة والسياسيّة، ففيما يخصّ طغيان الزوج الشرقيّ في بيته، هناك مقالة «الطاغية الصغير» التي يستهلّها الكاتب بـ«نحن أهل الشرق لا نعترف بالحريّة إلاّ لِرجل واحد من كلّ هيئة أو جماعة، ثمّ لا تكون حريّة هذا الرجل الواحد إلاّ أهواءه ونزواته، هذا قول صادق في الأسرة المصريّة الصميمة، وفي ديوان الحكومة المصريّ الصميم، وفي كلّ علاقة تنشأ بين جماعة من الأفراد كائنًا ما كان شأنها ولونها». بعد ذلك يورد الكاتب قصة طريفة عن أسرة مصريّة، الزوج فيها مستبدّ والزوجة لا حول لها ولا قوة. وفي ليلة ليلاء من ليالي الشتاء يتأخر الزوج عن موعده المألوف فتنام الزوجة حتى إذا ما انتصف الليل وصل الزوج ومعه سمكة يريد أنْ تعدّها له زوجته لوجبة العشاء، لكنّ الزوجة تعترض لأنّها كانت نائمة والوقت متأخر، فيثور الزوج ويقسم بالطلاق لَيقذفنّ بالسمك في النيل، ومِن ثَمّ كانت دعوته لابنه الصغير أن ينهض من نومه ليحمل له السمك ويصحبه وسط زمهرير الليل إلى النيل، يصل الاثنان إلى ضفة النيل، فيفرغ الزوج السمك عند الشاطئ، ويقف قليلًا، ويعود مع ابنه خطوتين، ثُمّ يرجع إلى كومة السمك يعيدها إلى وعائها، قائلًا لابنه إنّه لم يعد يرى مانعًا من أخذ السمك إلى الدار بعد أن نفذ اليمين. ويُنهي الكاتب مقالته قائلًا: «بل إنّي بعد قليل من تفكير وتدبّر وتذكّر، لم ألبث أن أتبيّن أنّنا - أهل الشرق - قد أقمنا على أنفسنا من أنفسنا في كلّ منعطف من طريق حياتنا طاغية صغيرًا». أمّا في مقالة «نفوس فقيرة» فالكاتب يُشخّص الدوافع النفسيّة التي تكمن وراء الطغيان عند النفوس التي يُسمّيها بـ«الفقيرة»، فيقول: «فقيرة هي النفس التي تنظر إلى باطنها فتجد خواءً، فتمتد إلى خارجها لتقتني ما يسدّ لها ذلك الخواء، وماذا تقتني؟ تتصيّدُ أناسًا آخرين ذوي نفوس أخرى لِتخضعهم لسلطانها! إنّها علامة لا تخطىء في تمييز أصحاب النفوس الفقيرة من سواهم، فحيثما وجدت طاغية - صغيرًا كان أو كبيرًا - فاعلمْ أنّ مصدر طغيانه هو فقر نفسه، إنّ المكتفي بنفسه لا يطغى...». ثمّ يعرض لصور هذا الطغيان في ميادين حياتنا كافة «فالطغيان في دمائنا: الحاكم الشرقيّ طاغية، والرئيس الشرقيّ طاغية، والوالد الشرقيّ طاغية، والزوج الشرقيّ طاغية، والموسر الشرقيّ طاغية ـ طُغاة هؤلاء جميعًا (....). العظمة في الشرق معناها الطغيان، والطغيان من معانيه كسر القوانين، فيستحيل أنْ يكون العظيم عظيمًا عندنا إنْ أطاعَ القانون، حتى لو كان هذا القانون من وضعهِ هو، لأنّ العبث بالقيود هي (كذا) الحدّ الفاصل بين السيّد والمسود». أمّا ما يخصّ جماليّات الأسلوب في المقالات التنويريّة عند زكي نجيب محمود، فهناك أسلوبان: الأول الأسلوب التقريريّ الذي ينقل القيم التنويريّة إلى القارئ على نحو مباشر وصريح، والثاني الأسلوب الإيحائيّ الذي يعبّر عن القيم التنويريّة على نحو خفيّ غير مباشر. فمِن النوع الأول ما نجده في مقالة «مطلوب إنسان»، حيث نقرأ «معاملة الناس بالحسنى هي أول ما تبادر إلى ذهني من صفات تجعل من الآدميّ (إنسانًا)، ولا فرق بعد ذلك أكان ذلك الآدميّ غنيًّا أم فقيرًا، عظيمًا أم حقيرًا، متعلّمًا أم جاهلًا، وإنْ فقدَ الآدميّ هذه الصفة اليسيرة البسيطة كان أقرب إلى الهمجيّة والبدائيّة والتوحُّش مهما ظنّ بنفسه ارتفاع الشأن وعلوّ المنزلة، لكنّ معاملة الناس بالحسنى صفة تحتاج إلى شيء من التحديد والتحليل، فما عسى أنْ تكون في لبّها وصميمها؟ انتهيتُ بعد التفكير إلى جواب لا أتشبّثُ به، بل أعرضه على القارئ اقتراحًا لعلّه يصادف عنده قبولًا، أو تعديلًا أو تصحيحًا، وله بالطبع أنْ يرفضه ليستبدل به ما يراه صوابًا فيفيدني به وله عند الله حسن الجزاء». نرى كاتبنا هنا إنسانًا تنويريًّا ديمقراطيًّا كلّه تواضُع وتسامُح، لا أثر لتضخُّم الذات عنده، يعترف بالآخر بدلًا من إلغائه، ولا يتعالى عليه. إنّنا نلقى هنا احترامًا وتقديرًا يكنّهما الكاتب للآخر، فهو يكبر إنسانيّة الإنسان وعقله فلا يفرض عليه شيئًا بالقسر والإكراه، وإنّما يخيّره بالاقتناع برأي الكاتب، أو تعديله، أو رفضه، وإذا رفضه لم يحقد عليه فيسعى إلى قطع رأسه، وإنّما يدعو له بحسن الجزاء عند الله لأنّه أفاد الكاتب. وأمّا النوع الثاني فيتمثّل في مقالة «نفوس فقيرة» نقرأ فيها «اعلمْ يا سيّدي حقَّ العلم أنّ قصة الجراء والهررة المسكينة تتكرّر حولك مائة مرّة في اليوم الواحد (....). إنّنا يا سيّدي أمّة تحيا وفق الحكمة التي استنّها لها شاعر من شعرائها الأقدمين وهي «إنّما العاجز مَن لا يستبدّ». أحقًّا يا سيّدي أنّ المدينة الغربيّة قد خلتْ من الإنسانيّة...». إنّ استعمال عبارة «يا سيّدي» وتكرارها مرارًا في المقالة، إنّما يوحي وينمّ على تواضُع الكاتب واحترامه للآخر ونأيه عن التعالي والغرور، وعدِّ الآخر في منزلة أعلى من منزلته. وهذه لم يَقُلْها النص على نحو مباشر وصريح، وإنّما عبّرَ عنها الأسلوب ذو الطابع الأدبيّ الذي يعرّفه عبدالسلام المسدّي "بأنّه مجموع الطاقات الإيحائيّة في الخطاب الأدبيّ، وذلك أنّ الذي يميّز هذا الخطاب هو كثافة الإيحاء وتقلّص التصريح وهو نقيض ما يطّرد في الخطاب العاديّ أو ما اصطلحنا عليه بالاستعمال النفعيّ للظاهرة اللغويّة». وهكذا وجدنا في مقالات زكي نجيب محمود أفكارًا عميقة وبنّاءة، مع أمثلة ووقائع تدعمها، تحمل قيمًا تنويريّة وحضاريّة، تصلح كلّ الصلاح لتطوير حياتنا الاجتماعيّة والسياسيّة. ولهذا كلّه أدعو إلى قراءتها والعناية بها، وتدريسها في الكليّات الإنسانيّة بجامعاتنا. |
المصدر: http://www.alarabimag.com/Article.asp?Art=12177&ID=294