اللغة إحالة إلى ما هو في الفكر من الحس

 أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري

 

قال أبو عبدالرحمن: علم اللغة ومادتها علم صوري.. أي أنه إناء للمراد، ومراد المتكلم يكون ادعائياً كما يكون حقيقياً؛ فتُنَزَّل صورة التركيب على مراده؛ فإذا قال العربي : «رأيت ليلى يلاعب - بياء المضارعة التحتية – الأسنة» فلا تقل: (أخطأ) أو (شذ في إضمار المذكر بدلاً من المؤنث) ما دام يريد ادعاء أن ليلى كالرجال؛ فهذه جوانب من علمية اللغة التي يكون بها كمالها.. وثمة وجه آخر عن كمالها، وهو سعة دلالاتها من جهة الفوارق في المدلول عليه؛ فيكون في الدلالة اللغوية من الفوارق بمقدار ما في المدلول عليه من فوارق.. أي دلالتهاعلى كل ما عرفه العرب من موجود ومُتَوَهَّـم، وهذه السعة مظهر حضاري.. قال الإمام ابن حزم: «فإن اللغة يسقط أكثرها ويبطل بسقوط دولة أهلها، ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم، أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم؛ فإنما يُقيِّد لغةَ الأمة وعلومَها وأخبارها قوةُ دولتها، ونشاط أهلها، وفراغهم.. وأما من تلفت دولتهم، وغلب عليهم عدوهم، واشتغلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم: فمضمون منهم موت الخواطر؛ وربما كان ذلك سبباً لذهاب لغتهم، ونسيان أنسابهم وأخبارهم، وبُيودِ علومهم.. هذا موجود بالمشاهدة، ومعلوم بالعقل ضرورة»، وبعد هذا النص لأبي محمد بألف عام رأيت الدكتور ماسون المختص باللغات الأمريكية يقرر التالي: «لا توجد لغة بدائية، وإن القول بأن المتوحشين يتفاهمون بدمدمات، وأنهم غير قادرين على أن يعبِّروا عن بعض الأفكار ذات الطابع المدني: إنما هو رأي خاطئ».. وقال: «إن هناك عدداً كبيراً من لهجات أقوام أميين هي في الواقع أشد تعقيداً من اللغات الحديثة»، وقال: «إن تطور اللغات يخالـف التطور البيولوجي؛ إذ أن اللغات سارت من التعقيد إلى التبسيط».
قال أبو عبدالرحمن: هكذا ضُبط ماسون ضبطاً قلمياً لا تنصيصاً؛ فهو غير لويس ماسنيون (1883 - 1962م)، ولا أعلم له عناية أو اختصاصاً باللغات الأمريكية، وقد وصفه الدكتور إحسان حقي بالاختصاص في ذلك، ولا أعلم من المراد بماسون؟.. وهناك ماسون. ب، ولا أعلم لهما عناية باللغة عموماً أو باللغة الأمريكية خصوصاً.. ومعنى هذا الكلام أمران: 
أولهما: أن اللغة تنحل من التعقيد إلى التبسيط؛ لأن التعقيد هو مظهرها العلمي يوم كان أهلها في بداية استقرارها. 
وثانيهما: أن ما يوجد من تعقيد في لغة الأميين فسببه أنه مما وعته ذاكرة الأميين البدائيين من لغة أسلافهم يوم كانوا حضاريين أقوياء.. وأمة العرب تتأرجح بين الفصحى والعامية، وأخلاط اللغات والعاميات، ولكن لغتها استقرت على الفصيح, ثم أصبحت محفوظة بحفظ الله لكتابه النازل بلغة العرب، ودين الإسلام الناسخ المهيمن الخالد إلى يوم القيامة.. والعامي العربي قد يعجز عن النطق بأشكال من الفصحى راقية، ولكن فهم اللغة الفصحى مشترك، وأمور الأمة المكتوبة لا تكون إلا بالفصحى، واجتهاد علماء الأمة وعدولها لا يحفظ إلا بالفصحى.. وأشباه المثقفين المطالبون بلغة مبسطة ينسون أن البساطة مظهر متخلف، وأن الموجودات معقدة؛ لكثرة فوارقها وتشابهها معاً، وأن اللغة العبقرية هي التي تفي بالدلالة على كل ما علمته الأمة من موجود، وتحتضن كل مافيه من تعقيد احتضاناً يُـحقِّق البيان والتمييز ويرفع الإشكال والتلبيس.. ولقد تمنى الإمام أبومحمد ابن حزم رحمه الله تعالى سعة في اللغة العربية أكثرَ مِـمَّا هو كائن؛ فقال: «ولو كانت اللغة أوسع حتى يكون لكل معنى في العالم اسم مختص به لكان أبلغ للفهم، وأجلى للشك، وأقرب للبيان».. وسعة اللغة بهذا المظهر يربطها بالعمل الفكري وإن رغم أنف الأستاذ الدكتور زكي نجيب محمود؛ فإنه قرر مرة: أن اللغة العربية من صنع الإنسان، ثم صارت سجناً للإنسان!!.. وادَّعى على عامة الناس أن علمهم محصور في حدود كلماتهم، وأن القلة هم الموهوبون؛ فزعم أن واحدهم هو الذي يضع لنفسه الحدود؛ لأنه إذا لم تسعفه اللغة القائمة بأدوات التعبير عما يريده أضاف إليها من عنده جديداً يخدم به أغراض نفسه؛ فتسير بقية الناس بعد ذلك على دربه.
قال أبو عبدالرحمن: هكذا يُهين حُــواةُ الفلسفــة حُرْمَةَ التخصص العلمي، والدكتور زكي ليس ذا تخصص وممارسة لِلَّغات ودعك من لغة العرب وحدها؛ فقوله هلوسة غير متصورة؛ لأن جملة (اللغة من صنع الإنسان) جملة عائمة مُضلِّلة لا تليق بمفكر ابتلغ العقد الثامن وهو يدَّعي فلسفة تحليلية.. إن اللغة أولاً أصوات تمتد وتسكن لِتؤلِّف مخارج وحروفاً، وهذا صُنع الله، وليس صنع الإنسان.. وكل صوت بسيط كالحرف، أو مركب كالكلمة المركبة من حروف لا يخلق الإنسان نطقه بها؛ وإنما قد يجعله رمزاً دالاً على معلومه من محسوس أو معقول؛ وبهذا يجوز وصف الإنسان بأنه تواضع على لغته واصطلح بها لا أنه صنعها أو خلقها كما يزعم ذلك فاقد الحس الديني.. وهذه المواضعة لا تكون إلا في اصطلاحات العلماء كالنحاة والفقهاء، ويكون الاصطلاح متابعة لعالم سبق إلى الاصطلاح، أو انتقاء من اصطلاح علماء لم يصطلحوا بالاجتماع والاتفاق كأعمال اللجان؛ ولهذا تجد مَن مذهبه في النحو كوفياً يؤثر اصطلاح ما ارتضاه الكوفيون (من اصطلاح عالم من علمائهم) على اصطلاح البصريين.. وفي أوجه نمو اللغة كالمجاز قد يسبق أديب مجهول نُسي اسمه أو معلوم بأنه أول من استخدم مجاز تلك الكلمة؛ فيرتضيه الناس ويستعملونه فيكونون بهذا الرِّضَا في حكم المتواضعين؛ فيكون ذلك عرفاً لغوياً عاماً؛ فلا يبعد مثلاً أن يكون اسم كالفزاعة للحُبَّالة من وضع فرد فصيح أو أديب، وهكذا بعض الأسماء المنحوتة من حكاية الأصوات كالقهقهة لا يبعد أن تكون بدايتها تنمية فرد، وهكذا ما استجدت معرفته يشتق العارف اسمه من لغة قومه ثم تقترضه اللغات الأخرى.. إلا أن هذا النمو ليس صنع لغة، وإنما هو انطلاق في محيط اللغة نفسها؛ فالنمو محكوم بأصول اللغة وقواعدها، ولا نموَّ إلا وَفْقَ قاعدة, ومعنى المسمَّى المستجد اسمه مأخوذ من معنى لغوي قائم كاسم الفَزَّاعة من فزع، أو مأذون به من أصل لغوي قائم كالنحت.. والنمو محكوم بأوزان محدَّدة، وهي الصيغ المحصورة بالاستقراء، المدلول عليها في علم الصرف بمادة (فعل) بإضافة حروف الزيادة (سألتمونيها)، وتلك الحروف أصيلة في الصيغ ذات معنى؛ وإنما سُمِّيتْ حروف زيادة لوجود واحد منها في الرباعي ليس في الثلاثي، ووجود اثنين منها في الخماسي ليسا في الثلاثي.. إلخ. 
قال أبوعبدالرحمن: وهاهنا برهانان يمنعان من اعتبار اللغة اصطلاحية: 
أولهما شرعي قطعي بَيَّن أن أبا الخلق آدم عليه وعلى نبينا محمد وعلى جميع أنبياء الله ورسله أفضل الصلاة والسلام خُلِق لا يعلم شيئاً حتى منحه ربه الحركة والحس والعقل والإرادة وعلَّمه الأسماء كلها، وتولى الله تربيته وتربية ذريته بالهداية الكونية والشرعية؛ وإنما أخذت الماسونية ردحاً من الزمن تُلَقِّن ناشئتنا ميتافيزيقا التاريخ عن العصر الحجري والإنسان البدائي الهمجي، وكذبوا وصدق الله؛ فلم يترك الله البشرية منذ فجرها بدون مُعَلِّم وهاد؛ وإنما تكون البدائية والهمجية عند مخالفة هداية الله الشرعية والكونية في الأنفس والآفاق، والبعد عن مجتمع مدني حضاري متوارَث.. لقد وُجِدتْ الهمجية حقيقة في القرن العشرين كما يحتمل وجودها في بعض حقب القرون الأولى.
وثانيهما استقرائي قطعي، وهو أن الأصوات في أي لغة لا تكون دالة كيفما اتفق؛ وإنما دلالتها وفق قواعد فكرية كثيرة جداً دقيقة جداً، حصرها الاستقراء والإحصاء؛ ولا يعلم في التاريخ قط أن عبقرياً سمح عمره بصنع لغة مصحوبة بقواعدها وأصولها ثم تلقَّنها الناس عنه.. لا يُعْلَم هذا ولا في أساطير ألف ليلة وليلة؛ وإنما يولد أعظم عبقرية في اللغة في حضانة الأم يتلقَّن لغةَ أمته من البيت والشارع والمنتدَى، ثم يطوف بالقبائل والشعوب ليجمع ما ندَّ من لغة الأمة، ويقرأ ما جمعه سابقوه ومعاصروه، ويشارك في تقعيد ما يستقرِئ من اللغة.. وكما أن الإنسان لا يخلق عقله، وكما أن وجدانه محكوم بضرورات عقله الفطرية: فكذلك اللغة.. إنها من تعليم الله وليست من صنع البشر؛ لأنها ذات قواعد وأصول محكومة بضرورة الفكر، وأول شرط ضروري أن تكون اللغة مُبِينة مُفْهِمة، ولو صنع كل إنسان لغته لاستحال البيان.. ولا يُعلم في التاريخ قط أن لغة تم تلقِّيها بارتجال جماعة أو تواضعها؛ وإنما اقتفى مؤرخو اللغات ومفلسفوها ظاهرات تدلُّ على أن لغة اشتُقَّت من لغة وتولدت عنها، وهذا دليل على أن بداية الأمر لغة تعليمية توقيفية متوارثة من تعليم الله، ثم تبلبلت الألسن؛ فكان ذلك من آيات الله كما قال تعالى: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين) (سورة الروم: 22).. وهؤلاء ملائكة الرحمن الذين يخاطبهم ربهم ما علموا الأسماء التي علَّمها آدم عليه السلام حتى أنبأهم آدم بأمر ربه.
قال أبوعبدالرحمن: إن الموهوب لا يصنع لغته ولغة قومه، ولو كان الدكتور زكي ذا تخصُّص في اللغة لقلت: (اشتبه عليه الأمر بأن عامة الناس محصور علمهم في كلمات لغتهم).. وليس هذا بصحيح، بل الصحيح أن الناس كلهم لا مجرد عامتهم محصور علمهم في كلمات لغتهم، وكذلك الناس محصور علمهم في القدر الذي يسمح به حِسُّهم، وفي القدر الذي تسمح به ضرورة تفكيرهم؛ ذلك أن الإنسان ليس مطلقاً؛ وإنما هو مخلوق مُرْتَهن بوضعيته في هذا الوجود؛ ومهما استجد علمه بجديد فلابد أن تُعبِّر عنه لغته: إما بكلمة تكون اسماً ويكون المسمى ذا علاقة بمعنى الاسم، وإما بكلمات تصفه وتُـجَلِّيه، وإما برمز مُتَواضَع عليه يكون كل حرف من الكلمة أو الكلمات الرامزة دالاً على معنى محدد، وهذا اشتهر في الغرب –بالغين المُعجَمة- كثيراً.. والأعيان التي يُشار إليها باليد هي التي يُرمز لها بكلمة، بل تُشرح بكلمات, وأحياناً بسطور، وأحياناً بصفحات، وأحياناً بمجلدات.. بيد أن الفكر بعد تصوُّر المعنى، ترمز له الخاصة بكلمة أو بكلمتين تُظْهِر التصوُّر، ورمز اللغة تذكير بالتصوُّر لا إيجاد له كلذة الجماع لا يوجد لفظ يُصوِّرها.. أو إيجاد للتصور من صفات شاهدها المتلقِّي الآخر كتشبيه حلاوة الدبس بحلاوة العسل، وهو تصوُّر مقارِب.. وقد يُرْمز بمحضية الفن، أو بالعقل الخالص، أو بالدليل الأونطولوجي، أو بالتورية.. إلا أن مفهوم هذه المفردات لا يتَّضح للعامة والمتعلمين إلا بمضاعفة الجمل تفسيراً وتمثيلاً أو وصفاً وقياساً.. وأضرب المثال لذلك بكلمة العدم، فقد قرر الإمام ابن فارس أن العين والدال والميم، أصل في فقدان الشيء وذهابه.. وهكذا نَحَتْ جميع المعاجم العربية؛ وإنما وجدت استثناءات عند أرباب الاصطلاح. والعجيب أن هذا المعنى اللغوي الفطري أصل لمعنى فلسفي، لأنه جعل العدم بمعنى الفقد والذهاب كأن العدم مسبوق بالوجود(!!) مع أن العدم ما لم يوجد أصلاً، وما بعد الوجود فناء أو هلاك أو فَقْد؛ وبما أن ما لم يُوجَد بَعْدُ يَفْقِدُه من يتصوُّره بخياله: صار العدم والَفْقدُ بهذا المعنى مترادفين، ولهذا تقول عن العُمْلَة النُّحاسية (بَيْزَة مَسْقَط): (هذه العملة اليوم معدومة، والكبريت الأحمر معدوم، والجِرْوُ أبوظِفْر -نوع من البِطِّيخ- معدوم)؛ لأنه مفقود في السوق، وقد يكون باقيَ الوجود في متحف، أو في خِزانة، أو في بستان من بساتين العالَـم.. وأما الهلاك والفناء فهو تَبدُّدُ وتشتُّتُ الصفة الجسمية لشيء كان موجوداً من قبل، وتحوُّلُ أجزائه إلى ما هو أقلُّ من الذرَّات من عناصره الأولى؛ فهلاك الإنسان وفناؤه هو تحوُّل الجسم إلى ذرات مختلطة بالتراب كما في فلسفة الكوز للخيام.. قلت في كتابي (فلسفة الكوز) عن الرُّفات: «تنحلُّ عناصر الميت، وتتبعثر، ولكن ربما دخلت هذه العناصر في عَفْصَةِ سَرْوة (شجرة سرو مُلْتفَّة)، أو زهرة خَبِيزة (زهرة في مكان منخفض)، أو عروة إبريق من خزف، أو أُذن جَرَّة.. وربما كان في أكواب الشراب ذرات من جمجمة كخسرو، أو قحف جمشيد.. إلخ»؛ ولهذا كان العدم في رأي الفيلسوف (برغسون) يحتوي على فكرة الوجود وزواله معاً؛ لأن تصور عدم الشيء يفرض تصوراً مسبقاً لوجوده. 
قال أبوعبدالرحمن: بل تصوُّر ما وُجِد قبل أن يوجد تَصَوُّرٌ بشري بملكة الخيال غير ممكنة إلا بتذكُّرِ أجزاء من الواقع المحسوس؛ لأن التخيُّلُ يتعلَّق بشيء مُرَكَّب لم يوجد بعد من أجزاء موجودة؛ لأنه إن كان التركيب والصنع من القدرة التي جعلها الله للإنسان في الصُّنع من مخلوقاته؛ فقد لا يُنفِّذ الله مشيئته، أو يُنفِّذها بأقل مما شاء، أو وَفْق ما شاء، أو فوق ما شاء.. وإن كان ذلك ليس من قدرة الإنسان؛ فيُقال: عناصر ما تصوَّره مبثوث في الأعيان، ولا يمكن للمُخَيِّلة أن تتصوَّر شيئاً إلا من المحسوسات، وأما وجود ذلك التركيب فلا يقال: (إنه غير موجود في الأعيان)؛ وإنما يقال: (لا نعلم وجوده في الأعيان)؛ لأننا لا نحيط علماً بغيب الله.. ولما جاء المصطلحون العرب كان بين أيديهم الاستعمال العربي لكلمة عدم والمفهوم الفلسفي لهذه الكلمة؛ فبرزت مسألة العدم المطلق والعدم النسبي، ولدى المصطلحين العرب إرث فلسفي لهذه المسألة من ركام الفكر اليوناني؛ فقد عالج أفلاطون العدم المطلق بمناقشة جدلية في محاورته للسوفسطائى بالفصل الثالث (مشكلة الخطأ ومسألة اللا وجود) ترجمة فؤاد جرجي بربارة.. ومن المَعْنِيِّين بالاصطلاح في تراثنا العربي أبو البقاء أيوب بن موسى الكفوي؛ فقد احترز لتعريفات اللغويين المُصطلحين فعرَّف العدم بأنه الفقد، وأنه ضد الوجود.. قال: «العدم: الفقد وضد الوجود.. وهو عبارة عن لا وجود، ولا وجود نفي للوجود، والمتصف بصفة النفي يكون منفياً، كما أن المتِّصف بصفة الإثبات يكون ثابتاً.. والعدم المطلق هو الذي لا يُضاف إلى شيء، والمقيَّد ما يضاف إلى شيء نحو (عدم كذا)، والعدم السابق هو المتقدم على وجود الممكن، والعدم اللاحق هو الذي حصل بعد وجوده، والعدم المحض هو الذي لا يوصف بكونه قديماً ولا حادثاً ولا شاهداً ولا غائباً، والعدم المطلق بمعنى أن لا يتحقق لا ذهناً ولا خارجاً، ويقابله الوجود بالمعنى الأعم.. أعني التحقُّق ذهناً وخارجاً، وكذا العدم في الخارج يقابله الوجود في الذهن، ولا تقابل بينهما، بمعنى أن يكون معدوماً بأي عدم كان: ذهني، أو خارجي.. وأن يكون موجوداً بأي وجود كان: ذهني، أو خارجي.. والعدم المطلق لا يُتَصوَّر أصلاً، والوجود لا يتصور إلا منسوباً إلى معروض ما.. والمعتزلة كانوا متناقضين في أقوالهم في المعدوم يقولون: المعدوم شيء، والشيء والموجود عبارتان عن معنى واحد.. ويقولون أيضاً: المعدوم شيء وليس بموجود، ويقولون أيضاً: المعدوم ذات، ولا يقولون: المعدوم موجود مع أن الذات والموجود واحد». 
قال أبوعبدالرحمن: ولو رجعت إلى الكتاب الضخم لسارتر عن الوجود والعدم لأُصِبْتَ بالدُّوار؛ إذن من اللغة ما يتناول دقائق فكرية إجمالاً، ولا تُتَصوَّر دقائقُها إلا بإسهاب فكري علمي مع جدل كثير؛ فيكون منتهى دلالة اللغة أن العدم ما كان، أو كان ثم فقد أو فني.. وأما تحقيق ماهية ما هو عدم، وماهية ما هو وجود فتحيل فيه اللغةُ إلى الخبرة العلمية الحسية بحضور العقل بقواه وإدراكه؛ فإن الفكر البشري حَارَ في تصوُّر عدم محض يكون عنه وجود؛ فتصوَّر أن الأصل الوجود، وليس العدم إلا الفقد والفناء والتبدُّل.. ثم حار في وجود بلا موجِد فرأى العدم الأصل، وهدى الله أهل الحق إلى أن الله بوحدانيته في الكمال والتقديس هو الأول بلا بداية؛ فلم يسبقه عدم، وأنه الآخر بلا نهاية دائم باق فعَّال لما يريد يخلق ما كان عدماً، ويخلق شيئاً من شيء.. وتصوُّر ما لابدايةَ له ولا نهاية حتميٌّ في العقل كتَصوُّر زمان سرمدي لا تضبطه حركةُ جِرْم موجود، أو إحصاءُ عادّ.. ولكن هذا الكون يستحيل تفسير وجوده بما يُسمَّى عدماً، ويستحيل أن يكون بلا موجِد، ويستحيل أن يكون مُوجِده مخلوقاً؛ فتحتَّم التَّصَوُّرُ الآخر؛ وهو أن هذا الكون لا تفسير له إلا بموجد أجلَّ وأعظم وأحكم.. إلخ هو الأول بلا بداية، والآخِر بلا نهاية.. ولا مجال للعقل البشري المخلوق إلى تكييف وجود من عدم؛ فاللغة في مثل هذه العُضَل تُعَرِّف العدم المحض بما لم يكن أصلاً، وتعرِّف الموجود بما كان بعد أن لم يكن، ثم تتجوَّز بالفقد والفناء والتبدُّل عن العدم بالنسبة لما فُقِدت هُويَّة وجوده المعروفة.. ولا شأن لِلُّغة بالأدلة والاعتراضات والاستدلالات والتصورات والتخيُّلات التي شحنت الفلسفة وعلم الكلام عن الوجود والعدم، وأُلِّف فيها الأسفار الضخمة؛ لأن اللغة في المعضلات إحالة إلى ما هو في الفكر من الحسِّ، وإحالة إلى النص الشرعي الثابت -؛ لأنه معصوم– في وصف المُغَيَّب، وإلى لقاء قريب عاجل إن شاء الله. 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك