1.  
  2. حين تكون العلوم عامة في الامم وتكون الثقافات خاصة يمكن للامم كلها أن تفيد من تطور العلوم والتقنيات مع ابقاء التمايزات الحضارية التي تثري الوعي الانساني وتصب في مجراه الذي تتعدد روافد خلاصات التجارب العقلية والوجدانية التي عرفتها البشرية منذ كانت لأجدادنا الاوائل وقفة تأمل أمام ظاهرات الوجود الى ان ذهب بنا الظن مذاهب شتى في دركها وتفسير قوانينها.
  3. أما حين تكون العلوم خاصة في أمم دون أمم وتفرض ثقافة واحدة محدودة الابعاد على الشعوب كافة, فإن محصلة ذلك أن تتعاظم القوة المدمرة لدى بعض الدول وتنمحي شخصيات الدول الاخرى او تغدو ظلالاً شائهة لها, على نحو ما نجد اليوم في العالم العربي الاسلامي ازاء الغرب المستعمر, صراحة واحتلالاً مباشراً, أو ضمنياً عبر الاستقلالات الزائفة.
  4. ولقد تأدت هذه المفارقة بالعالم كله الى ان يكون في فقر روحي وقيمي, وأن لا يعرف من الاخلاق الا دماثة «ذرائعية» سرعان ما تتحول الى شراسة دموية, كما هو الامر مع الاميركان والفرنسيين والانجليز وبقية الدول المستعمرة التي امتصت خيرات افريقيا واسيا وغيرهما, واقامت مدينتها الباذخة على حساب الاخرين, وعلى غير قوانين مما يدّعون, سوى قانون القوة الباطشة التي لا رادع قيمياً أو اخلاقياً لها.
  5. لقد غدا العلم المتطور حكراً على دول معدودة استبقاء لقوة القوي وضعف الضعيف في الارض, وفرضت انماط معيشية واخلاقية واقتصادية على الضعفاء حتى لا يستشعروا كرامة قومية أو ارادة ذاتية للنهوض, وعملت ماكينة الاعلام الهائلة على اعتبار ذلك حتمية تاريخية, وأمراً مقضياً لا بد من التسليم به, وعولمة لا فكاك من براثنها. واستؤجرت لذلك عقول, واقلام, ومراكز دراسات واكاديميات واستحكم البلاء بقوة خبيث الذكاء من جانب, وبليد الغباء من جانب وظهر في الارض كما تعلمون الفساد..
  6. ولو كان التناظر في تطور العلوم هو السائد في الامم, وكانت كلها على قدم المساواة في اجتياز مناهج العلوم وتقنياتها لاستحال ان تكون لقوة متفردة ان تفرض اسلوبها في الحياة (والثقافة اسلوب حياة في واحد من تعريفاتها), ولكانت الحضارة التي تكرم الانسان وتقيم له مجتمع العدل والمساواة وتوفر له مناخ الترقي الروحي هي الحضارة الظاهرة على غيرها، ولامكن لحوار الحضارات ان يقوم على اسسه الموضوعية، من الحرية وانتفاء القهر وان لا يعز فريق فريقا اخر في الخطاب، ومن التكافؤ الذي قوامه التناظر في المستوى العلمي، ومن كون «الحقيقة» هي مطلب المتحاورين.
  7. ان التقدم المادي وحده غير مشفوع بالقيم والاخلاق لا يعدو كونه تزويدا للوحش في الانسان بجوارح اكثر قدرة على القتل والتدمير، وفي ضوء ذلك يكون الصاروخ عابر القارات امتدادا للاظفار او لاية اداة بدائية لقتل الاخرين وفي ضوء ذلك لا تقاس الحضارة بالتقدم المادي وحده، ولا بد من اعتبار انماط العلاقات بين الافراد والمجتمعات والنظر في ايها اكثر تكريما للانسان.
  8. وفي الحق ان هذه كلها رؤوس مسائل حسب وان الموضوع أبعد آفاقا من ان يقضى فيه بمقالة او حتى بكتاب.
  9. وان حسبنا هنا التنبه الى ان العبرة انما تكون بكرامة الانسان (ولهذه الكرامة شروطها الموضوعية) لا بالقدرة متطورة الوسائل على قهره والاستبداد به، او على تدميره وجعل هذه الارض منه صعيدا زلقا.