صراع أم حوار الثقافات؟
صراع أم حوار الثقافات؟
محمد سبيلا
يبدو لي من الصعب الحديث عن حضارات بالجمع اللهم إذا كان ذلك على سبيل التجاوز أو في استعمال بلاغي· فالأسلم هو أن نتحدث عن حضارة إنسانية واحدة ساهمت فيها كل الثقافات وكل الشعوب وإن كانت قائمة في يد قوى الغرب التي تستعمل نتائج هذه الحضارة خدمة لتفوقها وسيطرتها… الأنسب أن نقول بأن هناك حضارة إنسانية واحدة باعتبار أن هناك طريقة واحدة لصنع الميكروفون والقنبلة النووية… الخ· وأن الثقافات مبنية على التفسير المنشئي للعالم، ولمعنى الخير والشر، وللحياة والموت، إلى غير ذلك... أود أيضا أن أضع كلمة حوار بين قوسين لأقول بأن ما يسم العلاقة بين الثقافات هو الصراع أو التنافس أو التنابذ· فالأمر لا يتعلق بحوار حقيقي بين الثقافات اللهم إذا اعتبرنا الصراع والعنف شكلا من أشكال الحوار· إن مقولة الصراع التي يبدو لي أنها تحكم العلاقة بين الثقافات السائدة في هذا العصر تعود إلى عدة أسباب، من بينها درجة التفاوت في التطور التاريخي بين هذه الثقافات·
وهذا التفاوت العميق في درجة التطور العلمي والمعرفي والتكنولوجي ومستتبعاته يخلق سياقا موضوعيا للتنافس خارج الإرادات والنيات· هناك واقع موضوعي ميداني للتفاوت والتفوق، يحكمه القانون الذي حكم تاريخ البشرية لحد الآن، وهو ان الغلبة والسيادة للأقوى، إلى أن يثبت العكس· هناك تفاوت يقيسه البعض بالسنوات الضوئية، تفاوت تكنولوجي، تفاوت عسكري، والأفظع هو التفاوت في درجة التطور الثقافي، أي التفاوت في الذهنيات وفي العقليات، والتفاوت في رؤى العالم وفي درجات العقلنة· والأمر هنا لا يتعلق بكمية المعلومات أو بمجموعة من النظريات بقدر ما هو تفاوت فكري·
إن كل منظومة ثقافية هي منظومة حمائية ودفاعية بالدرجة الأولى، حمائية للذات، للهوية، للمتخيل الجماعي، لتصور الجماعة لنفسها ولثقافتها ولتاريخها ولدورها… ولما يميزها عن الآخرين· كل منظومة ثقافية تتضمن قسطا من النرجسية، أي تمجيد الذات وتبخيس الآخر· وكل ثقافة تختزن جملة من الأحكام المسبقة أي غير الخاضعة للتحليل العقلي، لأنها أحكام وتصورات في خدمة صورة الجماعة عن ذاتها· ولدينا في الصراع الثقافي كثير من الأمثلة في هذا الباب·
ولعل الصراع الأقرب إلى همومنا هو الصراع بين الإسلام والغرب، بين الإسلام والمسيحية· فنحن نجد عند هذا الطرف أو ذاك أحكاما مسبقة تعود إلى عدة قرون: أحكاما مسيحية حول الإسلام وأحكاما إسلامية حول المسيحية، وهذه الأحكام تتفاوت في درجة موضوعيتها ودرجة تحيزها وربما في شراستها، وذلك حسب الفترات وحسب الموضوعات· هناك صراعات حول طبيعة الدين وحول النبي وحول النص الديني وحول كثير من المعتقدات· فمثلا، في حين يعترف المسلمون بعيسى وبنبوته حتى وإن اختلفوا مع تصوره الديني للاهوتية، ولا نجد على العموم طعنا في قيمة النبي عيسى نجد في التراث المسيحي سواء اللاهوتي أو الأدبي أو الفلسفي، الكثير من الإساءات للإسلام، فالأدباء الكلاسيكيون الغربيون يتحدثون عن الرسول ويصفونه بكثير من الصفات السلبية (البداوة والعنف والجنس والشبقية…) بل إن هذه الصورة السلبية عن الإسلام نجدها أيضا لدى بعض الفلاسفة الذين يفترض أنهم فئة تعتمد التمحيص العقلي والتخلص من المسلمات والأحكام المسبقة والشائعات· مثال ذلك هيجل الذي يشير في كتاباته إلى أن عالم الإسلام هو عالم انعدام الحرية الذي يسود كل ثقافات ومجتمعات الشرق·
كل ثقافة إذن تتضمن قسطا من النرجسية، ومن الأوهام الذاتية ومن الأحكام المسبقة المتعلقة بالآخر· وفي كل ثقافة هناك رفض ومقاومة لكل شكل من أشكال النقد الذاتي، أي لمراقبة الذات ومحاسبتها، ولفحص الأحكام المسبقة· من بين الآليات الفكرية لدى كل ثقافة دفاعها عن الذات وإسقاط الشعور السلبي على الآخر واجتناب التصور الإيجابي، فالآخر دوما هو الشر والنقص·
هذا الصراع الثقافي أو الفكري هو وجه وخلاصة، وتركيبة إيديولوجية تخفي وتعكس صراعات أخرى أي صراعات المصالح· فالصراع بين الثقافة الإسلامية والمسيحية هو من جهة صراع ثقافي لكنه يمكنه أن يضمر صراعات أخرى ظهرت قبل العصر الحديث، بل تعود إلى فترة انتشار الإسلام ذاته· هناك صراع بين منظومتين دينيتين ـ ثقافيتين تتنافسان بقوة على ضفتي البحر الأبيض المتوسط من أجل الامتداد أو الانتشار أو احتياز أكبر عدد من المناطق والنفوس· وقد مرَّ هذا الصراع بمراحل طويلة... تعود مرحلة أولى إلى الاستيلاء على القسطنطينية ثم مرحلة فتح الأندلس والامتداد في أوروبا، وصولا إلى الحروب الصليبية أو حروب المائة عام·
والمرحلة الثانية لهذا الصراع تعود إلى سقوط الأندلس التي يسميها الأوروبيون بالاسترداد، واحتلال الشواطئ العربية والإسلامية وعلى الخصوص الشواطئ المغربية· تمتد هذه المرحلة الطويلة إلى مرحلة العولمة نفسها باعتبارها نوعا من "الاستعمار العذب" كما سماها ادونيس أي استعمار شفاف يطلبه المستعمر نفسه أو يحتاج إليه· فهو شكل من أشكال السيطرة الموسعة على العالم الإسلامي وعلى العالم المتخلف كله، لكن برضا الدول وموافقتها·
المرحلة التي نعيشها اليوم والتي تمثل ذروة الصراع هي مرحلة ما بعد 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وهي مرحلة لا يمكن لأي أحد أن ينكر بأنها مرحلة صدام ومرحلة صراع بين الغرب والعالم الإسلامي· لقد تحدث هنتنغتون عن الإسلام معتبرا إياه مصدر عدم استقرار في العالم، وأنه كائن مزعج، حسب وصفه، ونجد برنارلويس يتحدث عما يسميه الحدود الدموية للإسلام، بمعنى أنه حيثما حضر الإسلام فهناك دائما دماء، وأن العالم الإسلامي مبني على العنف أو كما يقول… "الإسلام انتشر بالسيف وبالعنف وبالإرهاب وليس بالتقبل الطوعي، ولذلك فدين من هذا القبيل، والذي يشكل النواة الثقافية للعالم الإسلامي لا يمكن أن يتفاهم معه إلا بلغة السيف والنار". فهو يؤكد بأن الإسلام دين السيف ودين العنف والانتشار العنيف، وأنه يخلط بين السياسة والدين ويعتقد بأن الإيمان الحقيقي يوجد لديه·· وأن الآخرين عليهم اتباعه وأنه يفتقد لمركز مهم موجه، وأنه يعادي الغرب فطريا·· ويقترح هنتنغتون على الإدارة الغربية أن تبلور استراتيجيةت لمواجهة العالم الإسلامي، وذلك بتعميق سيطرة الغرب، على كل البقاع وكل المحيطات وكل الدول، وإقامة قواعد عسكرية لمراقبته، والتحكم في التكنولوجيا، وفي الثورة المعلوماتية، وفي دورة المعلومات في العالم، كما يدعو الغرب إلى المحافظة على التفوق وعلى السيطرة على كل هذه المنافذ حتى يحكم الطوق على العالم الإسلامي، وعلى الثقافة الإسلامية التي يبدو في نظره أنها لا تستحق إلا هذه المعاملة· وهذا العداء ليس مجرد أفكار وكتابات فقط، بل هو أيضا سياسة فعلية وسياسة فكرية نشاهد مظاهرها يوميا.
وهي وقائع ومظاهر يغلب فيها منطق الصراع على منطق الحوار، بل يبدو وكان منطق الحوار هو لغة الضعيف، أي أن القوي والغالب حتى عندما يستعمل الحوار فإنه يستعمله للتمويه ولفرض وجهة نظره، فالحوار وسيلة من وسائل الضغط· ولكن الطرف الضعيف، أي الطرف العربي والإسلامي يكاد يصدق الحوار أو يبدي حسن النية لعله يجد في الحوار مخرجا· بل إن الغرب بالإضافة إلى الأدبيات التي أشرنا إليها وإلى السياسة الفعلية، يستعمل مقولات ذات طابع إنساني. فالدعوة إلى حقوق الإنسان وإلى الديمقراطية وإلى الإصلاح وإلى مناهضة الإرهاب، هي في حد ذاتها مقولات وأفكار جيدة لأنها نتيجة التجربة الإنسانية والعطاء الإنساني، لكن مع الأسف تطرحها بعض الأوساط الغربية باعتبارها أداة لترويض هذه الشعوب أو لحماية نفسها من الأذى· هناك إذن صراع على عدة مستويات : على المستوى الفكري، وعلى المستوى السياسي والعملي، وعلى مستوى استخدام المقولات الإيديولوجية وتكييفها لتحويلها إلى أداة للصراع· إذن فهل نحن أمام حوار؟ حوار مبني على تساوي الأطراف، وعلى استعداد الأطراف لسماع بعضها، وعلى حقها في إبداء رأيها··؟ كل هذه معطيات تدل على أن منطق الصراع ما يزال إلى الآن يغلب على منطق الحوار القائم على الندية، والرغبة في التفاهم وذلك لأن الطرف القوي يملي ويفرض قوته، يملي الحق باسم القوة ويحول القوة إلى حق، بل يعتبر أن تصريفه للقوة واستعماله للقوة حق من حقوقه الطبيعية·
يرى الباحث الأمريكي رويرت كاغان في كتابه "القوة والضعف" أن القوي يميل دائما إلى استعمال قوته باعتبار أن هذا شيء جبلّي وطبيعي ومشروع إلى حد ما في السلوك البشري فإذا كان شخص ما في الغابة وليست لديه أداة للمقاومة فإنه يكون خنوعا ومستسلما، وعندما يمتلك موسى أو سكينا، تتزايد قوته شيئا ما، وعندما يمتلك سيفا تزداد قوته، وعندما يمتلك أسلحة نارية فهنا يجد نفسه أقوى بسلاحه ومضطرا لاستعماله· هذا هو منطق القوة كحق طبيعي· فإذن الحوار حوار غير متكافئ، مقابل ذلك فإن استراتيجيةت الضعف، ورد الفعل، فهي من جهة تعبر عن الرغبة في الحوار ولكنها من جهة أخرى تمارس نوعا من التحايل على الصراع عبر ما يسمى بمقاومة الضعيف أو تحايل الضعيف· استراتيجيةت رد الفعل متعددة المستويات، أولاها استراتيجيةت النفاق أو ازدواجية الموقف التي تمارسها بعض الدول الإسلامية· حيث أن بعضها من جهة يتملق الدول العظمى ويمالئها ويستثمر أمواله لديها، ومن جهة ثانية أي على المستوى المحلي أو الإقليمي ينشر التشدد والتطرف حتى يبعده عن نفسه· هذا شكل من أشكال الموقف الملتبس التحايلي· من جهة هناك مداهنة وممالأة ونفاق، ومن جهة ثانية هناك تشدد في الداخل وتصدير لثقافة العنف للضواحي·
الاستراتيجية الثانية هي استراتيجية الانتقام التي تمارسها بعض الدول والمنظمات المتطرفة والمتشددة القائمة، ومختلف السلفيات التي تؤمن بالعنف· إنه "عنف انتقامي أو "حوار" انتقامي" لأنه ينبني على رؤية قصيرة، فهو يعرف أن الآخر متقدم ومتفوق ومسيطر، وأنه لا يمكن اللحاق به في المدى القصير وأنه متواطئ مع الأنظمة القمعية وناهب للثروات ومساند لاسرائيل فيلجأ إلى استراتيجية الانتقام·
والاستراتيجية الثالثة هي الاستراتيجية التي يفتقدها العالم العربي والإسلامي، وهي استراتيجية البناء الحضاري الطويل المدى، والنفس الطويل المتمثل في الاستيعاب العميق لمكتسبات الحداثة، للمكتسبات الفكرية وليس فقط المكتسبات التقنية لأن الوعي العربي والإسلامي يعتقد أن امتلاك التقنية واقتناءها هو الحل· فالتصور التقنوي للحداثة تصور غير دقيق لأنه يتناسى أن اكتساب التقنية يتطلب أيضا استيعاب ثقافة التقنية، فبدون اكتساب الثقافة العقلانية والعلمية الحديثة التي هي أساس التقنية لا يمكن ردم الهوة الحضارية· المسلمون والعرب يقطفون ثمار التقنية ولا يستنبتون شجرتها، يستعملون التقنيات على نطاق واسع ويستهلكون التقنية ولكنهم يستبعدون ثقافتها· فهناك حلقة أساسية غائبة، "هي ثقافة وعقلية التقنية"، العقلية العلمية. تتجه هذه المجتمعات إلى اقتطاف ثمار التقنية واستعمال نتائجها لكن مع مناهضة الفكر العقلاني، والفلسفة، والعلوم الإنسانية والاجتماعية التي هي نتاج الحداثة التقنية وأداتها الفكرية· فالعلوم الإنسانية الحديثة هي شرط لازم لكل تقدم ثقافي وفكري، بل هي الشرط المسبق الذي يجب توفيره لاستعمال واقتناء التقنية· فالتقنية بدون ثقافة عقلانية، أو الحداثة التقنية بدون حداثة ثقافية هي دوران في حلقة مفرغة، ونكوص تحت وهم التقدم·
إن تصور الطرفين لبعضهما، ونرجسية كل طرف وأوهام كل طرف، والمقاومات الداخلية لكل طرف هي عوائق موضوعية وذاتية وفكرية لأي حوار، سواء من طرف القطب المسيطر، أو من طرف المسيطر عليه· ولا يبدو في الأفق أن هذه السيطرة ستزول، بل إن السيطرة ستستديم، وستتقوى وستشمل مجالات لم تشملها من قبل، والتخلف والتبعية والضعف ستظل· مادام هناك تفاوت فهناك حوار صم، حوار الغالب "مع" المغلوب، حوار إملاءات وضغوط أكثر مما هو حوار إصغاء وتفاهم. لكي يدرك العالم الإسلامي القدرة على الحوار وإمكانية الحوار ولغة الحوار يجب أن يكون في موقع المحاور الحقيقي، أي في موقع الكيان الذي تسمع كلمته في هذا العالم الذي هو عالم القوة· فأي تصور للعالم غير هذا التصور وهم وتصور لمثال جميل لكنه غير واقعي· فإذا أرادت المجتمعات العربية والإسلامية أن تكون في موقع الحوار يجب عليها أن تسلك استراتيجية النفس الطويل المدى في التحديث، في تحديث العقل وفي تحديث الذهن وفي تحديث البنيات الاجتماعية، وفي تحديث البنيات السياسية دون عُقَد· نعم إن الصراع مع الغرب يدفع بعض القوى الاجتماعية للقول بأن هذه أدوات الغرب المستعمر· وهذه العقدة تنفذ منها بعض الاتجاهات التقليدوية فتعلن رفضها الصريح لقيم الحداثة والعقلانية، وهو تصور غير دقيق لأن هذا بالضبط ما يريده الغرب : يريد أن يستغلك باسم هذه القيم الحديثة ويسيطر عليك باسمها وربما تعجبه النتيجة وهي أنك تتخلى عنها، وأن هذه هي الضمانة الوحيدة بأنك ستبقى في ذلك التخلف، في أفق الحاجة والتبعية· إن استراتيجية البناء الحضاري الشامل تفترض أن الحوار الحقيقي يكون باكتساب القدرة على اكتساب صفة المخاطَب والمخاطِب للمجتمعات المتأخرة، في عالم يحكمه القانون التاريخي الذي لا مرد له : إما التقدم أو الموت التاريخي· إن منطق العصر يبين أن مواجهة الغرب ومحاورته لا تكون إلا باكتساب وتبني مقومات الحضارة الحديثة·
المصدر: http://science-islam.net/article.php3?id_article=792&lang=ar