بين القبليّة والدينية والمدنية
مرّت الديانة اليهودية بمراحل ونجحت في صناعة شخصية يهودية ناجحة، وهي من عند الله، ومرّت النصرانية بتحولات وصنعت مجتمعات حضارية وهي من عند الله، فهل سينجح المجتمع المسلم اليوم في صناعة الأنموذج الفريد في الفرد والمجتمع وهو يؤمن بنصوص هي من عند الله؟ أعتقدُ أن طرح مثل هذا السؤال ضروري اليوم أكثرَ من أي وقت مضى، فالذهنية الشعبية ترسخت فيها نمطية «العربي المتعصّب لقناعته» وتَرَاكمَ التعصبُ باستنبات نماذج طموحة للسلطة ومغرمة بالتسلط وفق مُعطيات نصوصية وترديد ورفع شعارات دينية الدولة في ظل تغافل معلن للفكرة المدنية، وبالعودة لتاريخنا العربي الاجتماعي سنلحظ أن الروابط بين جدودنا الأُول روابط نسبية قائمة على منظومة اجتماعية تعاونية ومتعصّبة وشُغلها الشاغل «الإنتاج»، تُمثّلها القبيلة، وإن تعرَّضت للنقد والملاحظات كونها لم تنجح في تطوير نفسها والحفاظ على هويتها، بل كان من السهل اختراقها إما بسطوة استدلال أو بشهوة مال، وتدرّجت القبيلة في سلم الحراك حتى تعلقت بالدين، ومن خلال منظومة الحلال والحرام ومن خلال التعصب أيضاً تتجلى «التعبئة والشحن ضد المجتمع»، وكل من حاول أن يكون فرداً حُراً أو كائناً مستقلاً عن القبيلة أو الأيديولوجيا يُعدّ متمرداً وخائناً وشاذاً وزنديقاً «فيد الله مع الجماعة»، وفي الصورة الشاخصة اليوم أمامنا يطغى حماس الإسلامويين على ما سواهم لإضفاء الشرعية الدينية على برنامجهم وتأكيد حقهم في كرسي الدولة مع أنهم لا يؤمنون بفكرة الدولة، فتاريخهم التنظيمي سريّ وخاضع لبرنامج دولي في إطار «أُمّة»، وحين ينادي بعضهم ويقبل ظاهرياً بقانون المجتمع المدني فلا يتجاوز الأمر حيلة أو تُقية، فآلية المجتمع المدني كفرية وحكم بغير ما أنزل الله في راسخ قناعاتهم، وربما غاب عن أذهان بعضهم أن التأصيل لمنهج الأُمّة بمفهومهم الخلافي لا وجود له ولا إمكانية لتطبيقه، كون الكيان العام للدولة لا يقوم إلا وفق أفكار مدنية والمجتمع المدني تعددي بالطبع، وكل من يتلمس النصوص لن يقف على شيء مما يدّعون من دينية الدولة، فالحكم والسياسة من لوازم الحياة الدنيا والأعراف البشرية، وليست من أسس وقواعد الدين، وكل من يقول بذلك فهو متعسف -الدين ثوابت والسياسة تحولات- والحركات والتنظيمات الدينية تنامت خارج إطار النظام السياسي وفقدتْ بمرور الزمن القدرة على الحضور ببرنامج حياة، ولذا من السهل عليهم أن يُكفّروا ويقتلوا عكس جميع التيارات المدنية، إذاً نحن أمام أزمة خانقة تتكامل خلالها رؤى أحزاب دينية مسيّسة لا ترى غيرها أحق وأجدر بالملك منها، وتستند للنص المقدّس لإسناد حضورها، وهي تخلط بالطبع بين (الديني والمدني)، ولو سلمنا بحُسن نية بحقهم في الحكم وفق معطى (دولة دينية) سيطبّقون مبدأ فرز المجتمع إلى مسلمين وغير مسلمين، متدينين وغير متدينين، سنة وشيعة، ويوم تقوم جماعة على تكفير المخالف وترى المجتمع غير المنتمي إليها جاهلياً، والديمقراطية نبتاً شيطانياً، والتعددية مفهوماً إلحادياً، فكيف سيقبل بهم المجتمع حُكّاماً؟ حتى وإن جاؤوا بطريق ديمقراطي هم أول كافر به! ثم إن دينية الدولة تتنافي مع مبادئ حقوق الإنسان وخصوصاً في تحقيق حريّة الاختيار، ومن الواضح اليوم ارتكان خطاب الحزب على النصوص الحديثية الضعيفة لتمرير المشروع علّها تعود بهم ولهم دولة الخلافة؟ ولعلّهم لا يدركون استحالة الجمع بين (دولة وخلافة)، فالدولة فكرة مدنية والخلافة اعتقاد تنظيمي.
وبما أن للتاريخ حركته المميتة للجهل والمعلية شأن العقل والعلم، فإن الوقائع تؤكد أن عجلة الزمن لن تعود للوراء، والدولة المدنية أقرب النماذج توافقاً مع الطبيعة البشرية ومع حقوق الإنسان كون المواطنين سواسية أمام القانون دون تفريق على أساس المعتقد أو ممارسة الشعائر، وبما أننا خرجنا من إطار قبلي إلى إطار ديني فمن طبيعة التدرج والتراكم الحضاري أن نصل ونبلغ المدنية، ومن حق الرموز الدينية أن تحظى بقبول شعبي، إلا أنهم بطرح خطابهم الحزبي يفقدون كثيراً من شعبيتهم لأنهم لا يمكن أن يكونوا زعماء دنيا وزعماء دين، والذين يرفضون تحديث الإسلام لا يمكنهم أسلمة الحداثة.