لا تحقرن صغيرا في الدعوة إلى الله
مولاي المصطفى البرجاوي/ الألوكة |
قد يتبادر إلى الذهن:
أيُّ دور لهؤلاء الصغار في الدعوة إلى الله؟ هل يمتلكون أساليب الدعوة إلى الله؟ هل أصبح هذا الفن فوضى عارمة يتقمَّصه كلُّ مَن هبَّ ودبَّ أم له ذَوُوه وأُناسه الأفذاذ والشموس الربانيون؟
لكن! بداية لا يمكن ألبتةَ لأحدٍ منَّا أن ينكر أهمية هذه المرحلة العمرية؛ فهي البذرة الأولى وعصب الأمة بعد توفيق الله؛ إن صلح أفرادها صلحت وإن فسدت دب فيها العجز والخور، ولعلنا لا نغفل قول الله في أهل الكهف: ﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً ﴾ [الكهف: 13]، فدور تربية الأطفال والاهتمام بالشباب في هذا العالم هو الفَأْل الأكبر، فهم مستقبل الأمة الزاهر والقريب إن شاء الله، وعلى عاتقهم تقع مسؤولية إيصال الدين إلى عباد الله؛ عملاً وتطبيقًا لا قولاً وشعارات.
ولعلَّ ما استوقَفَنِي في هذه اللحظات، ما تُسَبّبه قوَّة التَّأثير وفنون الإثارة في الدعوة إلى الله؛ خاصَّة عندما يتعلَّق الأمر بفِتْيَة في عُمر الزهور، تدفع بهم فطرتهم الإسلامية المنبتة والمتجذّرة فيهم، من تغيير معالم الخطل والاعوجاج المستحكم في جسد الأمة والرد بها إلى المنهج السوي؛ بمواقفَ عجيبةٍ - والغريبُ في الأمر أنَّ وقْعَها أعمقُ إيجابًا - ولا تعجبون إلى ما سَأَسْرده عليكم فهي مشاهِدُ تبعث روح الأمل في الأُمَّة، وتبشِّرُ بدوام خيريَّتها المباركة إن شاء الله؛ يقول تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ ﴾ [آل عمران:110].
إليك أخي الكريم مجموعة من القصص الدعوية؛ التي غيَّرتْ أخلاق ومواقف الكثير من الناس؛ وهي قصص ليستْ من نسج الخيال، بل هي واقعية:
1- مشهد عجيبٌ من قصَّة قرآنية:
هنا نقف مع قصَّة ذلك الغلام الشجاع في علاقته مع الرَّاهب والساحر والملك، وهي قصة وردت في سورة البروج:
قال الإمام مسلم رحمه الله: حَدَّثَنا هَدَّابُ بْنُ خالِدٍ، حَدَّثَنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنا ثابِتٌ عَنْ عبدالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ صُهَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ: ((كانَ مَلِكٌ فيمَنْ كانَ قَبْلَكُمْ وَكانَ لَهُ ساحِرٌ، فَلَمَّا كَبِرَ قالَ لِلمَلِكِ: إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلامًا يُعَلِّمُهُ فَكانَ في طَرِيقِهِ إِذا سَلَكَ راهِبٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلامَهُ فَأَعْجَبَهُ، فَكانَ إِذا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ فَإِذا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ فَشَكا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ، فَقالَ: إِذا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ حَبَسَنِي أَهْلِي، وَإِذا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ حَبَسَنِي السَّاحِرُ.
فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ، فَقَالَ: اليَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ؟ فَأَخَذَ حَجَرًا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ، فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ اليَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلا تَدُلَّ عَلَيَّ، وَكَانَ الغُلامُ يُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الأَدْوَاءِ، فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ، فَقَالَ: مَا هَاهُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي، فَقَالَ: إِنِّي لا أَشْفِي أَحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ، فَآمَنَ بِاللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ فَأَتَى المَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ، فَقَالَ لَهُ المَلِكُ: مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ قَالَ: رَبِّي، قَالَ: وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَ: رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الغُلامِ، فَجِيءَ بِالغُلامِ، فَقَالَ لَهُ المَلِكُ: أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ، فَقَالَ: إِنِّي لا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ، فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ، فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى، فَدَعَا بِالمِئْشَارِ، فَوَضَعَ المِئْشَارَ في مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ المَلِكِ، فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى، فَوَضَعَ المِئْشَارَ في مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِالغُلامِ، فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى، فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، فَاصْعَدُوا بِهِ الجَبَلَ، فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلا فَاطْرَحُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الجَبَلَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَرَجَفَ بِهِمُ الجَبَلُ فَسَقَطُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى المَلِكِ، فَقَالَ لَهُ المَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ، فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ في قُرْقُورٍ فَتَوَسَّطُوا بِهِ البَحْرَ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاقْذِفُوهُ. فَذَهَبُوا بِهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَانْكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى المَلِكِ، فَقَالَ لَهُ المَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ. قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ، فَقَالَ لِلمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ. قَالَ: وَمَا هُوَ. قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ في كَبِدِ القَوْسِ، ثُمَّ قُلْ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الغُلامِ، ثُمَّ ارْمِنِي، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي. فَجَمَعَ النَّاسَ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ في كَبْدِ القَوْسِ، ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الغُلامِ. ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ في صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ في صُدْغِهِ في مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الغُلامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الغُلامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الغُلامِ، فَأُتِيَ المَلِكُ، فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ قَدْ آمَنَ النَّاسُ، فَأَمَرَ بِالأُخْدُودِ في أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ، وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فيهَا، أَوْ قِيلَ لَهُ اقْتَحِمْ، فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فيهَا، فَقَالَ لَهَا الغُلامُ: يَا أُمَّهِ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الحَقِّ))[1].
2- المشاهد من السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي:
القصة الثانية:
الطفلان اللَّذان قتلا أبا جهل فرعون هذه الأمة، اللذان لبَّيا دعوة النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - دعوة المحبَّة دعوة الجِهاد في الذَّود عنه وإعلاء كلمة الحقّ في ربوع الجزيرة العربية؛ روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه - قال: بينما أنا في الصف يوم بدر إذ رأيتُ غُلامَيْنِ من الأنصار حديثةً أسنانهما - ما بين الاثني عشر سنة والأربعة عشر سنة - قال: فجاءني أحدهما فغمزني، وقال: يا عم، هل تعرف أبا جهل؟ فقلت: يا ابن أخي، وما تريد منه؟ قال: أُخْبِرت أنه يسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذي نفسي بيده لئن التقى سوادي بسواده - أي: جسمي بجسمه أو شخصي بشخصه - ما أتركه حتى يموت الأعجل منا، يقول تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 165] هذا هو دليل الانتماء ﴿ أشد حبًّا لله ﴾. - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتَّفق عليه من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يُحب الرجل أخاه لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُقْذَف في النار)) هذا هو داعية الانتماء - قال: لئن الْتقى سوادي بسواده لا أتركه حتى يموت الأعجل منا.
قال: وجاءني الغلام الآخر فغمزني وقال لي مثلما قال الأوَّل، وكل منهما حريصٌ على أن يقتل أبا جهل قبل أخيه - تلبية لدعوة الإسلام -؛ لأنَّ عدوَّ الله ورسوله لا يَجوز له أن يحيا بيننا أبدًا، ولا يَحلُّ لنا أن نلقي إليه بالود أبدًا، هذا قادح في المحبَّة والانتِماء، قال: فلم أنشب - أي: لم يمر إلا وقت قصير- حتى رأيت أبا جهل يجول في الناس - أي: يضطرب، قلق، يَذْهب ويأتي ليس له مكان ثابت - قال: فلمَّا رأيته، قلتُ لَهُما: هذا صاحبُكما، قال: فابْتَدراه فضربه كلٌّ بِسَيْفه فقتلاه، ثُمَّ اختَصَما على سلبه - السلب: ما يكون عند الرجل المقتول من المغانم، والمجاهد إذا قتل الكافر فله سلبه؛ متاع ويكون ملكًا للمجاهد الذي قتله، فاخْتَصَم هذان الغُلامان فذهبا إلى النَّبيّ - صلى الله عليه وسلَّم - كلّ يقول: أنا - لأنَّ قتل عدوِّ الله ورسوله شرف - فقال عليه الصلاة والسلام: ((هل مَسَحْتُما سيفَيْكُما؟ قالا: لا، فقال: أرِياني، فلمَّا نظر إلى سيفهما، قال: كلاكما قتله)).
• الغلام الأول: معاذ بن عمرو بن الجموح، والغلام الآخر: معاذ بن عفراء، وفي رواية أخرى أن اللَّذَيْنِ قتلا أبا جهل: هُما معاذ بن عفراء ومعوذ بن عفراء.
القصة الثالثة:
فقد كان الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يصطحب ابنه عبدالله - رضي الله عنه - في حضور مَجالس الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكان عبدالله دون الحُلُم - أي طفل لم يبلغ سن البلوغ - كما كان عمرُ ابن الخطاب - رضي الله عنه - يُدْخِل عبدالله بن عبَّاس - رضي الله عنه - في أيَّام خلافة عمر في مَجالس الشورى مع أشياخِ بدر؛ ليعوّدهم على مُجالسة الأخيار وأخذ العلم الشرعي منذ مرحلة مبكرة، وانظروا الآنَ إلى من يُعَرّض ابنه للتشرُّد، أو يترُك أولادَه للخادمات بل الخطير في الأمر إن كانت لا تدين دين الإسلام!
ومِمَّا تناقلته كتب الأدب أنَّ صبيًّا تكلم بين يدي الخليفة المأمون فأحسن الجواب فقال له المأمون: ابن من أنت؟ فقال الصبي: ابن الأدب يا أميرَ المؤمنين.
فقال المأمون: نعمَ النسب وأنشد يقول:
كُنِ ابْنَ مَنْ شِئْتَ وَاكْتَسِبْ أَدَبًا يُغْنِيكَ مَحْمُودُهُ عَنِ النَّسَبِ
إِنَّ الفَتَى مَنْ يَقُولُ هَا أَنَا ذَا لَيْسَ الفَتَى مَنْ يَقُولُ كَانَ أَبِي
ومِمَّا يروى أيضًا دخل المأمون مرَّة بيتَ الدّيوان فرأى غُلامًا صغيرًا على أُذُنِه قلم، فقال له: من أنت؟ قال: أنا الناشئ في دولتك والمتقلّب في نعمتك والمؤمّل لخدمتك، أنا الحسن بن رجاء، فعجب المأمون من حسن إجابته، وقال: بالإحسان في البديهة تفاضَلَتِ العقول، ارفعوا هذا الغلام فوق مرتبته.
3- مشاهد من الواقع المعاصر:
وهذه المشاهد التي أعرضها بين أيديكم أمثلة ناصعة على بقاء الخير في الأمة الإسلامية، مادام كتاب الله يُتْلى آناءَ اللَّيل وأطراف النَّهار، ومادامتِ الغيرة على الإسلام، وثوابته همّ - المسلمين وخاصَّة الصِّغار - لم يتجاوزوا مرحلة المراهقة التي هي مرحلةٌ عصيبة - المجبولين على الفطرة: ((كل مولودٍ يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو يُنَصّرانه أو يُمَجّسانه))؛ رواه مسلم.
هذا الحديث يدلُّ دلالة قاطعة - كما قال الشيخ جعفر إدريس أستاذ الثَّقافة الإسلامية -:
"إنَّ الإنسان وإن كان لا يولد عالماً بشيء، إلا أنَّه لا يُولَد بعقلٍ فارغ، وإنَّما يُولَد وفي عقلِه بُذور علم تنمو بنموّه وتبلغ كمالَها بنضجه، لكن هذا العلم المبذور أصله في الإنسان يُمكن أن تعارضه المؤثرات الخارجية، وإن كانت لا تملك إزالته"[2].
إليك أخي القارئ الكريم مجموعة من القصص الواقعية:
القصة الخامسة:
التلميذ (الطالب) في المرحلة الثانوية الذي كان سببًا - بعد توفيق من الله - في تخلّص أستاذتِه من تبرّجها: المناسبة وقع سوءُ تفاهُم بين التلميذ والأستاذة، لكنَّ هذه المربّية، تَحيَّنتْ فُرصة نِهاية الحصَّة الدراسيَّة لتُناقِشه ومن ثَمَّ التَّقرّب من الطالب لفهم حيثيَّات إثارته للزَّوبعة في الفصل.. وأخذتِ الأستاذة تُظْهِر له حنُوَّها عليه، وأنَّها بمثابة أمٍّ له.. لكنَّ التلميذ ردَّ عليها ردًّا لم يكن في الحسبان: كيف يُعقل أن تكوني لي بمرتبة أمي وأنت متبرّجة وأمّي متحجبة.. صراحة صعقت الأستاذة ولم يكن هذا قصدها في المناقشة، لكنها فوجئت بجواب التلميذ الذي كان له أكبر الأثر في عقْل الأستاذة وفي كيانِها كلّه!.. وما كان منها إلا أن أخذت قرارها في اليوم الموالي.. قرار ارتدائِها لحجابها.. انبهر لها القاصي والداني في المؤسَّسة التعليميَّة، كيف يعقل لمتبرّجة لا تَعرف لِباس الحياء والحشمة أن تُضيف للمؤسَّسة بريقًا ونورًا في أمسّ الحاجة إليه.. وما كان من الأُستاذة إلا أن شكرت التلميذ على سلوكه الرَّاقي.. لكنَّ التلميذ اعتذر لها هو الآخر على أسلوبه في الكلام.. الأسلوب البعيد عن تواصُل رقيق يليق بمقام الأستاذة، فالأوْلى أن يستعمل كلامًا لطيفًا، وهو الكلام الحسن، خاصة وأن الله تعالى يقول: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر: 23].
لكنَّ العجيب في رَدِّهِ - عفوًا نُصْحِهِ - كان انفراديًّا، وليس أمام الملأ، ورحم الله الشافعي؛ إذ يقول:
تَغَمَّدْنِي بِنُصْحِكَ في انْفِرَادٍ وَجَنِّبْنِي النَّصِيحَةَ في الجَمَاعَهْ
فَإِنَّ النُّصْحَ بَيْنَ النَّاسِ نَوْعٌ مِنَ التَّوْبِيخِ لا أَرْضَى اسْتِمَاعَهْ
فَإِنْ خَالَفْتَنَي وَعَصَيْتَ أَمْرِي فَلا تَجْزَعْ إِذَا لَمْ تُعْطَ طَاعَهْ
...فالأستاذة حمِدت الله الذي قيَّض لها طالبًا يأمُرُها بأمر رباني كانت غافلة عنه، وكانت تَحسبه هينًا، ولكنه عند الله عظيم! والعجيب أنَّ كلامَ الطَّالِب كان له أكبر الأثر في نفس الأستاذة.. إذْ لو لم يكن كذلك لَما أقدمتْ على استِجابة نداء ربِّها واقتِداء سنَّة حبيبها المصطفى - صلى الله عليه وسلم -!...بل الأكثر من هذا أنَّ الأستاذة بحمد الله سلكتْ سلوكًا عمليًّا داخل أسرتِها؛ إذ وفَّقها الله سبحانه أن تردَّ زَوْجَها - المَخْمور - وهو أستاذ لمادَّة الرّياضيات إلى زوجٍ صالح بإذن الله يُواظِب على الصلوات الخمسة...
القصَّة السادسة:
هي لتلميذٍ في المرحلة الإعدادية (أقلّ مستوى في التعليم من الطالب السابق) - وهو لا يَختلف كثيرًا عن الأول من حيث المضمون - الذي طلب من أستاذته التي تدرسه اللغة الفرنسية، أن تغيّر من لباسها الفاضح؛ وأكَّد لها بِلسان البراءة؛ قائلاً: إنَّنا أوَّلاً لا ننتبه إلى الدَّرس بقدر ما ننتَبِهُ إلى حركاتك ولَحْمِك العاري - خاصَّة أنَّ الطَّالب في أوج مراهقته - وثانيًا أنَّنا على أبواب شهر رمضان شهر الرحمة والغفران والعِتْق من النار.. كانت هذه الدعوة من هذا الابن على الأستاذة كالصَّاعقة.. فما كان منها إلى أن فكَّرَتْ مليًّا فغيَّرت من شكْلِها المُغري للذّئاب البشريَّة.. فأحبَّها التلاميذ واحترَمَها الأساتذة.. وما هي إلا أيَّام حتى عقدت القران وتزوَّج بِها أحد الأساتذة..
وللإشارة: فهذا التلميذ الذي أخبرني القصة، الآن داعية إلى الله..
القصَّة السابعة:
هي لابنٍ مَحبوب عند والديه، اتَّخذ قرارًا حاسمًا لِما رآه في أبويه من معصية عظيمة لم تقبلها فطرته السليمة؛ ألا وهي ترك للصلاة.. إذ قرَّر الابن البارّ بربه قبل أبويه ألا يذوق طعامًا ويعرض نفسه للموت حتى يعدل والداه عن قرارهما المغضِب لله جل علاه؛ يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر))؛ رواه أحمد والترمذي والنسائيوابن حبان والحاكم. ورغم اختلاف العلماء بشأن تارك الصلاة إلا أنَّ ظاهر النَّصّ يبين أنَّ الأمر جلل وخطير.. بقي على حاله هذا.. لكن الوالدين خشيا على ابنيهما الوحيد.. فما كان منهما إلا أن توضَّآ وصلَّيا.. فما أروع وما أجْمل مواقف هؤلاء الأشبال عفوًا الأسود!
هذه القصص المعاصرة عاينت بعض أحداثها وروي لي البعض الآخر، لكن الغريب في الأمر أنها وقعت في منطقة واحدة.
القصة الثامنة:
هي مِمَّا روى أحدُ الدُّعاة المُعاصرين، بطل هذا الموقف مُعلم بالمرحلة الابتدائية رزقه الله الاستِقامة على دينه، فكان واعيًا لدوره التربوي، ناصحًا لتلاميذه، مُحبًّا لهم، قدوة في سلوكه، مؤثرًا في كلماته، تفانى في عمله وأخلص فيه، وأحب تلاميذه فأحبوه، مزج بين تربيتهم وبين تعليمهم، فكان تأثيره على تلاميذه كبيرًا، لدرجة أنه أصبح ميزان الصواب والخطأ عندهم، فتشوقوا إلى الجنة من كثرة ما حدَّثهم عنها، وخافوا من النار من كثرة ما حذرهم منها، وأخبرهم أن الصلاة هَمُّ المسلم لا يفتر عنها ولا يَمل، فهي طريقه لهذه الجنة وهي نجاته من هذه النار، فأصبحت الصلاة شُغْلَ تلاميذه الشاغل، وكان من بين تلاميذه طفل من أُسرة مُترفة وتسكن في قصر مجاور للمدرسة، فسأله المعلم عن والده ولماذا لا نراه في المسجد، فردَّ الطفل ببراءة: ولكن والدي لا يصلي يا أستاذ وأنا كذلك، ولكني لن أتركها بعد اليوم أبدًا، فلمَّا عاد الطفل إلى منزله طلب من والدته أن تُوقظه لصلاة الفجر في المسجد، فأخذت الأمُّ الأمر بشيء من الهَزل، وعاد الطفل وردَّد على والدته: ولكني لن أذهب إلى المدرسة إذا لم توقظيني لصلاة الفجر، ونسيت الأم أو تناستْ إيقاظ الابن لصلاة الفجر، وأيقظَتْهُ لِلمدرسة فرفض الذَّهاب للمدرسة، وأمام إِصْرار الابن ما كان من الأمّ إلا أن أيقَظَتْه في اليوم التالي للصلاة، ولكنَّ حنانَ الأمّ وخوفَها عليه منعها أن تدَعَه يذهب للمسجد وحده، فأيقظتْ والده الذي لم يَعْتَدِ الصلاة، فأخذ ابنَه بالسَّيَّارة ووقف به عند باب المسجد وانتظره حتَّى أدَّى الصلاة وعاد، ثُمَّ رجع به إلى المنزل، واستمرَّ الأبُ على هذه الحال عدَّة أيَّام وهو يذْهَبُ به لِلمسجد وينتَظِرُه عند باب المسجد حتَّى يُصلي ويعود، عندها تَحرَّكت مشاعر الأب وانْجَلتْ عن بصره غشاوة الظلال، فقال: أذهبُ بِهذا الطفل فيصلي وأنا أقِف أنتظره، والله إنَّ هذا لهو الضلال، هل هذا الطفل أنضج مني عقلاً، أو أكثر مني رُشدًا وشرح الله صدره للحقّ واستقام على شرع الله المطهَّر، فصَلَحَت الأسرة كلها بفضل الله تعالى، ثم بصدق نيَّة هذا المعلم وحسن تدبيره وأثره على هذا الطفل الصغير الذي لم يتجاوزِ الثامنة من عمره.
هذه قائمةٌ من أبناء الفِطْرة السويَّة التي حَملتْ لواء التغيير والإصلاح، وعزمت عزمة قوية على مواصلة الطريق في خدمة المجتمع والنهوض به، والمساهمة في تَخفيف العِبْءِ عن كاهله، أحسب أنَّها من بُشريات النَّصر والتَّمكين لهذا الدين فإلى الأمام وإلى غدٍ مشرق وضَّاح في فوز جديد بإذن الله.
...لكن في المقابل، وسعيًا إلى لملمة بعض الشقوق التي تثخن الجراح، وحتى نسم الموضوع بموضوعية.. انظروا حاليًّا إلى بعض الدعاة الذين همُّهم فقط جمع الأموال من القنوات من مواعظهم.. وإني - والله - عندما اطَّلعت في جريدة المساء المغربيَّة على الأرقام والمبالغ الخيالية التي يتقاضَوْنَها (ولن أسمّيهم فهذا ليس ديدني وقصدي؛ شرح الواضحات من المفضحات!).. والله يكاد يجن جنون اللبيب ويطيش عقل كلّ مُسلم غيور على دينه وأمته.. فتذكرتُ قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سيكون قومٌ يأكلون بألسِنَتِهم؛ كما تأكلُ البقرَةُ من الأرضِ))[3]، ويقول أيضًا: ((تعَلَّموا القرآنَ، وسَلُوا الله به الجنَّة قبلَ أن يتعلَّمَهُ قومٌ يسألونَ به الدنيا؛ فإنَّ القرآن يتعلَّمهُ ثلاثةٌ: رجلٌ يُباهي به، ورجلٌ يَستأكِلُ به، ورجلٌ يَقرؤهُ لله))[4]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن تعلَّمَ عِلمًا مِمَّا يُبتغَى به وجهُ الله، لا يتعلَّمهُ إلا ليُصيبَ به عَرَضًا من الدنيا، لم يجدْ عَرْفَ الجنَّة يومَ القيامة)) يعني ريحها[5].. وهذه ليست دعوة إلى إفقار الدعاة والعلماء.. ولكن أن يصبح شغلهم الشاغل هو تحقيق النجومية والشهرة وجمع الأموال مقابل آية يتلونها، هذا ما لا ترضاه الفطرة الإسلامية الصحيحة!
بل الأدهى والأمرُّ وأشدّ الظلم أن يتمَّ التطاول على الفتوى من قبل دعاة ليسوا أهلاً لها.. فالله الله على العبودية لله وإخلاص العمل لله!
وختامًا:
وحتَّى لا تكون - كما قلت في البداية - الدعوة فوضى عارمة؛ فأساليب الدعوة أدب واحترام وعفة.. ليس فيها ما يخدش الحياء أو ينافي الفضيلة، أو يساعد على تحريك الغرائز الحيوانية الممقوتة الممجوجة في الإنسان. لا بد من تربية الأبناء على سلوك القرآن ﴿ إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: 9] وعلى سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وعلى الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125].
ولا عسر ولا حرج ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78] ولا لغو ولا لهو.. ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ﴾ [الأنبياء: 16- 18].
عمومًا - كما قال أحد الدّعاة المعاصرين - الدَّعوة إلى الله وظيفةٌ من أشرف الوظائف، ومهمةٌ من أعظم المهمَّات، كيف لا؟ وهي وظيفة الأنبياء والرُّسل ومهمَّة كلّ مَن أراد الله به خيرًا ورفعةً وسعادةً في الدنيا والآخرة، ولا أعظم وصفًا ولا أصدق قولاً من قول ربنا - جل وعلا - حيث يقول: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33] قال الحسن البصري عند هذه الآية: "هو المؤمن أجاب الله في دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته وعمل صالحًا في إجابته، فهذا حبيب الله هذا ولي الله"، فمقام الدعوة من أشرف المقامات، فيا خسارة من قامت حياته، وذهبت أيامه ولم يكن له نصيب من هذه العبادة العظيمة، فيا عبد الله تدارك أيَّامَك واضرِبْ بسهم في هذا الميدان المبارك بعلمك أو بجهدك أو بمالك أو برأيك على قدر استطاعتك؛ حتى تنال هذا الشرف العظيم.
وفَّقنا الله وإيَّاكم لكلّ ما يُحِبّه ويرضاه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــ
[1] رواه مسلم في الزهد باب قصة أصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام، وأحمد (6 /17، 18)، والنسائي في الكبرى كما في التحفة (4 /198)، والطبراني في الكبير (7319، 732)، وعبد الرزاق في المصنف (9751)، وابن حبان (873)، والترمذي (3340).
[2] منار السبيل، السنة الثانية، العدد: 8، صفحة: 4 - 6، رمضان 1414هـ الموافق فبراير- مارس 1993م.
[3] أخرجه أحمد، السلسلة الصحيحة (419).
[4] رواه ابن نصر في قيام الليل، وغيره، السلسلة الصحيحة (258).
[5] رواه الترمذي، وأحمد، وابن ماجه، وأبو داود، صحيح سنن أبي داود (3105).
المصدر: http://www.awda-dawa.com/Pages/Subjects/default.aspx?id=13152