الواقع المتخيل
يصدر قريبا في مجال السميائيات والأدب الشعبي الشفوي كتاب بعنوان: الإنسان وانسجام الكون، سميائيات الحكي الشعبي، لمحمد حجـو، أستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. الكتاب دراسة في الحكاية الشعبية المغربية، تعتمد المزاوجة بين طرائق السميائيات ونظرية التحليل النفسي. وتستمد هذه الدراسة مشروعيتها من طبيعة النصوص المكونة للمتن. هذه النصوص التي لا تخلو من مناح أسطورية وخرافية تجعلها متجذرة الارتباط بأغوار النفس البشرية، لما لها من بنيات مناظرة لبنيات الأحلام والاستيهامات وأحلام اليقظة.
إن عوالم الأساطير الموغلة في الزمن، والحكايات، بصفة عامة، مرتبطة بلاشعور الإنسانية، ما يمنح الربط بين التحليل السميائي والاتجاه النفسي في تحليل الأدب أهمية وفاعلية تخدمان منطلقات وغايات المنهج والمضمون في مجال الدراسة السميائية المتعلقة بتحليل الأدب الشعبي. وذلك لتصل بنا الدراسة في هذا المؤلف إلى المشترك والمطرد، أو تجليات وحدة الذهن البشري، أي ما يسميه الباحث: الإنسان وانسجام الكون.
ويرتبط هذا الانسجام، أو الإحساس بالانسجام، كحلم أبدي لدى البشرية بتمثلات الجنة كرحم أولى. والخرافات والأساطير والحكايات كحلم جماعي متجذر في حياة البشرية، هي وسائلها المتاحة للاتصال بزمن الجنة المتخيل والمشتهى، لأن الحكايات بكل أشكالها لا تبتعد عن طبيعة الحلم في كونها ترجع بالإنسان إلى ذاته العميقة وخافيته الدفينة، تماما كالحلم الذي يعبر بالرموز عن مشاعر الناس. ولعل المكبوت/ المرغوب الذي يطرق باب الشعور بإلحاح يتجلى أكثر وضوحا في المشهد الفني بشتى أشكاله، وفي كل ما يصدر عن المخيلة الجماعية والفردية من مأثور شفوي.
ويرى الباحث أن الأصل لدى الإنسان أو الشيء الأساس يعبر الأزمنة ليرافقه في حاضره، لأنه دافع ومحرك في حياته الانفعالية وناظم رؤياه للمستقبل، به وإليه يؤول كل طارئ في مسيرة حياته. وعليه فإن الحكايات والأساطير تمثل، بدون شك، وسيلة للتحرر من ضغط التاريخ والانفلات من تعاقب الزمن اللاارتدادي، وتعبيرا عن رغبة دفينة في الامتداد عبر الزمن. ذلك أن التاريخ بتعاقبيته يمثل سجنا يشد بخناق الإنسان ويرهنه بزمن "الحقيقة" اليومي، بينما تخول الحكايات والأساطير للإنسان أن يرتبط بالزمن الأولي؛ زمن الخلق المفعم بالقدسية وعبق الطفولة، والزمن اللاحق الممتد نحو الخلود؛ الزمن الحلمي المشتهى.
فإذا كان التاريخ ذكرى، فالحكي والأسطورة أحلام، لأن الزمن التاريخي لا يتكرر، في حين يبقى زمن الحكي الأسطوري زمنا قابلا للإعادة والاستعادة. يسترجع من خلال ممارسة الطقوس والاحتفالات الدالة على زمن الخلق، زمن الانسجام الذي كانت الموجودات فيه منصهرة ومتجانسة، بحيث كانت تتواصل وتتواشج، تتحدث إلى الإنسان ويتحدث إليها، إذ هو ليس إلا جزءا منها. ولذلك ابتدع الإنسان السحر، علمه الأول، ليحاور الطبيعة ويؤثر فيها ويسيطر عليها، وابتدع الأسطورة ليفهمها ويفك ما انغلق عليه من رموزها وأحداثها.
ولعل ما يجعل الأسطورة حية ومستمرة في حياة الإنسان هو كونها تتيح له إمكانية الهروب من الزمن الخطي، ومداراته للوصول إلى نشوة الإحساس بتجاوز محدوديته وضعفه. فمن محدودية قدرة الإنسان إذن، ومن ضعفه يتولد النفور من الزمن الخطي والأفقي الذي لا يلبي صوت الحلم الدفين في عمق ولا شعور الإنسان.
وهكذا نخلص مع الباحث إلى أن عالم الحكي الشعبي عالم خيالي، ونحن نعرف أنه غير واقعي، ولا يمكنه أن يكون واقعيا يوما ما، ولكنه يعجبنا لأنه يعبر عن مرامينا الحلمية التي تحبب لنا كل ما هو جميل. وحبنا للحكايات والأساطير، إنما هو بسبب من هذا التطابق أو التشابه بين عوالمها وما نتمناه في عالمنا "الواقعي". إن عوالم الحكي الشعبي، على الرغم من ارتباطها بسراديب الماضي البشري وخافية الإنسان، قالت وستقول الحقيقة دوما. وحقيقتها هي أن الإنسان سيظل يجري وراء حلمه الأبدي المتمثل في إدراك الانسجام.
وهذا يعني أن الحمولة النفسية هي قوام الإبداع في الأساطير والحكايات الشعبية؛ بمعنى أن الفكر يسبق المادة وليس العكس، كما هو سائد في بعض أشكال ما يسمى ظلما وبهتانا بالفنون الشعبية الموجهة أساسا للتسويق؛ إذ تصبح صفة الشعبي، بحكم التسلط الواقع عليها، نعتا للابتذال والسوقية والإسفاف، والهبوط بروح الإنسان إلى متاهات السقوط وفقدان المعنى.
وتعتبر الطفولة من منطلقات التحليل النفسي، وينطلق الحكي الشعبي من الطفولة. ولذلك تجب الإشارة إلى أن التحليل النفسي استفاد من الحكايات والأساطير لبناء مفاهيمه النظرية والتطبيقية أكثر مما استفاد الحكي من هذه الاكتشافات في مجال التحليل النفسي. وسواء كانت الحكاية الشعبية أسطورة أم خرافة أم حكاية جن أم حكاية حيوان... فمحورها هو الإنسان، يخلقها ليرتاد عوالمها بحثا عن نفسه، وتخلقه هي من خلال اختزانها واختزالها لتاريخه الرمزي وحياته الانفعالية، لتبعثهما وتبعثه عبر لحظات الحكي التي تربطه بإحساس الطفولة وحلم الخلود. فمهما تناسلت فيها عناصر السحر والخوارق والعجائب والغرائب... فإنها مجرد استعارات وانزياحات فنية لا تحيد عن الواقع قيد أنملة.
المصدر: http://www.ribatalkoutoub.com/index.php?option=com_content&view=article&...