العالم ودولة الشرفاء

عبد الأحد السبتي

لطفي بوشنتوف، العالم والسلطان. دراسة في انتقال الحكم ومقومات المشروعية. العهد السعدي الأول. الدار البيضاء، جامعة الحسن الثاني- عين الشق، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، سلسلة "أطروحات ورسائل"، 2004 .

يبدو أن مرحلة الانتقال من حكم دولة الوطاسيين إلى حكم دولة السعديين استقطبت اهتماما ملحوظا لدى الباحثين في تاريخ المغرب السياسي، مما ساهم في تجديد معرفتنا بوقائع تلك المرحلة. والراجح أن هذا الإقبال يعود إلى أن الأمر يتعلق بنقطة انعطاف أساسية داخل التحقيب السائد في تاريخيات المغرب، ونعني بذلك الانتقال من مغرب "العصر الوسيط" و"الإمبراطوريات الأمازيغية"، إلى مغرب "العصر الحديث" وحُكم الشرفاء. وخلال عقود عديدة، هيمنت أطروحة مفادها أن وصول السعديين إلى السلطة جاء نتيجة لالتقاء مجموعة من العوامل، من بينها بالأساس حركة مقاومة المغاربة للاحتلال الإيبيري، وتصاعد حركة الزوايا الصوفية، ومساندة رجال الزاوية الجزولية للسعديين الأوائل الذين اكتسبوا صفة أبطال الجهاد وتحرير الثغور المحتلة.

ومنذ سبعينات القرن العشرين، تم إنجاز أبحاث سلطت أضواء جديدة على المرحلة المذكورة. أبرز البعض دور الظرفية الاقتصادية- الديموغرافية التي أضعفت بشكل حاد قدرات "مملكة فاس" والسهول الأطلنتية، ووفرت شروطا أفضل لمنطقة الجنوب الغربي حيث منطلق حركة السعديين. وأبرز آخرون أهمية العامل العسكري وظهور أسلحة جديدة وأعاد آخرون النظر في الفكرة القائلة بعدم اعتماد السعديين على عنصر العصبية، إذ يجوز القول بأن السعديين اعتمدوا على عصبية قبائل جزولة. وذهب آخرون إلى أن النسب الشريف كظاهرة اجتماعية-سياسية نشأ في عصر سابق، في إطار استراتيجية دولة بني مرين التي كانت تبحث عن مشروعية دينية، بينما جاء صعود السعديين كنتيجة للتحالف الذي قام بين "الصوفية النضالية" في البوادي وبين شرفاء الأطراف. واعتبرت مقاربة أخرى أن السعديين وظفوا تركيبة ثقافية تقوم على ثلاثة نماذج: المهدي، والشريف، والمرابط. واعتمدت دراسات أخرى على وثائق الأرشيف العثماني، فكشفت عن دور الرهانات ذات البعد الجهوي، ولاسيما صراع النفوذ بين الباب العالي وإسبانيا المسيحية.

في هذا الكتاب، وهو في الأصل أطروحة لنيل دكتوراه الدولة (تمت مناقشتها سنة 2001)، تناول لطفي بوشنتوف نفس الملف من زاوية جديدة تتمثل في موقع ودور العلماء، وصيَغ شرعنة السلطة، ومختلف المكونات الرمزية والإيديولوجية التي تحيط بوصول السلالة الجديدة إلى الملك. ومن أجل المزيد من الدقة في دراسة الموضوع، ركز المؤلف على تطورات النصف الأول من القرن السادس عشر للميلاد، وهو ما يوافق زمن الزعماء السعديين الثلاثة الأوائل، محمد بن عبد الرحمان وابنيه أخمد الأعرج ومحمد الشيخ.

يتكون الكتاب من ثلاثة أبواب. يصف الباب الأول المسلسل الذي نرى فيه علماء الجنوب يسهلون وصول السعديين إلى "الإمامة الكبرى". قدم هؤلاء العلماء دعما نشيطا، وقاموا بعملية تأسيس سياسي. وقد أولى لطفي بوشنتوف اهتماما كبيرا لأخبار البيعة الأولى التي حصل عليها محمد بن عبد الرحمان السعدي. والملاحظ أن هذه البيعة قامت على عدد من التبريرات من بينها شغور الحكم الوطاسي، والهجوم الإيبيري على الساحل، وانتشار أعمال قطع الطرق، وتعثر محاور المبادلات التجارية. وقد كانت مساندة العلماء ثمينة وحاسمة في بعض اللحظات الدقيقة مثل حدث تامدولت، وثورة سعيد الحاحي، والصراع الذي انفجر سنة 1541 بين الأخوين السعديين أحمد الأعرج ومحمد الشيخ.

وصف المؤلف مجتمع العلماء بالمنطقة، واستعرض نماذج من رجاله وبيوتاته، وتناول علاقته مع السعديين الأوائل. وهكذا نتعرف على بعض مسارات التكوين العلمي، والشبكات التي ترتبط بمهنة التدريس ببلاد سوس ودرعة. وتبرز بعض الشخصيات مثل علي السكتاني، والحسن التملي، وأحمد الأخصاصي، وعبد الله المدغري، وسعيد الحاحي، وأحمد المسجدادي، ومحمد الدرعي، ومحمد بن إبراهيم التمنارتي، وسعيد الحميدي. لم يكن دعم العلماء للدولة الناشئة بدون مقابل، فقد استعرض المؤلف بعض حالات الإثراء العقاري، والتعيين في خطط الخطابة والقضاء، والإشراف على تعليم الأمراء، وتولي كتابة السلاطين. ومن شأن مثل هذه المعطيات أن تصحح الصورة النمطية التي ترسمها كتب التراجم والمناقب، حيث تنسب لنفس الرجال صفات الزهد والورع ورفض الامتيازات.

ويتيح لنا الباب الثاني أن نتتبع تقدُّم السلطة الجديدة في اتجاه الشمال، من مراكش إلى فاس، والمواقف التي اتخذها العلماء إزاء الصراع الدائر بين الوطاسيين والسعديين. فقد درس لطفي بوشنتوف بدقة تقدم السعديين، حيث وقف على عدد من الأحداث العسكرية، وعمليات الهدنة بين الطرفين، والتقسيم الترابي الذي زكاه العلماء وأضفوا عليه صفة شرعية، ولاسيما التقسيم الذي تلا معركة بوعقبة، حيث اعتُرف للسعديين بمجموع الأراضي الواقعة جنوب وادي أم الربيع.

وفي نهاية المسلسل نتتبع مع المؤلف "أزمتيْ فاس"، وفي كلتا الحالتين كان الاحتلال العسكري للمدينة، ورفض بعض العلماء أن يعترفوا بالسلطة الجديدة، وأعلنوا بصرامة تمسكهم ببيعة دولة الوطاسيين. وقد انتهت الأزمة الأولى باغتيال عبد الواحد الونشريسي، ابن أحمد الونشريسي صاحب المعيار، وهي مهمة كلف بها بعض "سُياب" المدينة فيما يبدو.

رسَم بوشنتوف ملامح العالم المذكور، واستعرض خمس روايات حول حدث تصفيته الجسدية. أما الأزمة الثانية فقد انتهت باغتيال عبد الوهاب الزقاق، ومحمد الطرون، والحسن ومحمد حرزوز المكناسي.

وبين الأزمتين، تناول المؤلف أزمة الزوايا، فقد درس عن قرب الانقلاب الذي شهده موقف الحكام الجدد إزاء التنظيمات الصوفية، والإجراءات الزجرية، ومختلف المواقف التي اتخذها العلماء إزاء هذا الصراع الذي نشأ بين حلفاء الأمس. فمن بين المدافعين عن الزوايا هناك موسى الوزاني، ومن بين مؤيدي الحكام السعديين هناك محمد التمنارتي، ومحمد الخروبي الذي عُرف بسجاله ضد أبي عمرو القسطلي.

ثم يأتي الباب الثالث وعنوانه "مكامن الاختلاف وأبعاد المواجهة"، وهو يشكل لحظة تركيب وتأويل. يعود المؤلف إلى مسألة تبدو مركزية، وهي صلابة المعارضة التي ظلت تبديها مدينة فاس في وجه الدول "الأسر" الحاكمة الجديدة. وقد استعاد لطفي بوشنتوف بعض السوابق التاريخية التي بصمت ذاكرة علماء فاس، وطرحت بحدة مشكلة مشروعية الحكم في حالة الصراع العنيف، ومن منظور "شروط الإمامة". ويرد هنا انقلاب الأدارسة الذي أطاح بدولة المرينيين سنة 1465، وثورة الأمير النصري محمد الزغل ضد أخيه علي بن سعيد سنة 1477، وثورة بني راشد، أمراء مدينة شفشاون، ضد السلطان الوطاسي سنة 900 للهجرة. وفيما يخص علاقة فاس مع الحكم السعدي الناشئ، تبنى المؤلف فرضيتين. تتمثل الأولى في مواجهة المركز للطرف، فموقف فاس تجاه السعديين، هو موقف الحاضرة تجاه العصبية والبداوة والعُرف. وتتمثل الفرضية الثانية في التعارض بين "مدرسة فاس" العتيقة و"مدرسة الجنوب" (سوس ودرعة) الفتية. تقترن المدرسة الأولى بالمحافظة، والثانية بالتجديد، ويهم هذا التمايز المستويات المؤسساتية والبيداغوجية إلى جانب مستوى الممارسة القانونية.

يمتاز كتاب لطفي بوشنتوف بدقة التوثيق والتحليل، وهو إلى جانب ذلك عمل محفِّز يثير قضايا تاريخية هامة، سوف نذكر من بينها أربعة.

أولا، هناك قضية معارضة مدينة فاس للسلطة الحكام الجدد. يبدو لنا أن المؤلف بالغ في تقدير عامل الاختلاف الثقافي، دون أن يُقيم ما يكفي من التمييز بين العناصر التي تتصل ببعض الثوابت، والعناصر التي تتصل بظرفية قيام دولة السعديين. من الممكن أن نطرح السؤال التالي: كيف نبرر أن قضية استعلاء أهل فاس الحضريين في وجه الحكام البدويين طُرحت في الظرفية السعدية بشكل أقوى؟ ويمكن أن نطرح سؤالا مماثلا على سبيل المقارنة بالنسبة لمبادرة محمد الشيخ السعدي حين قرر تعيين عددا من علماء سوس في مناصب هامة بمدينة فاس. وفيما يخص ثنائية البادية / المدينة، ينبغي التذكير بأن المدن المغربية عرفت في تلك الحقبة مسلسل ترييف (ruralisation ) نستشفه من مصادر متعددة.

ثانيا، يستفاد من الكتاب أن عملية الانتقال من حكم الوطاسيين إلى حكم السعديين عرفت عددا من الخصوصيات. هناك وضعية مشروعية مزدوجة اعترف بها الطرفان خلال مدة طويلة، وربما كانت هذه الوضعية سبب ورود تسمية "مملكة فاس" و"مملكة مراكش". وقد استفاد السعديون من بيعة محلية قامت على أساس مفهوم شغور السلطة في سياق تهديد خارجي. وطيلة المدة التي احترم فيها الطرفان مبدأ التقسيم الترابي، ظل الوطاسيون يعترفون بالسلطة الجديدة التي نشأت في منطقة سوس.

ثالثا، يتناول الكتاب مسألة العلماء كفاعلين في وضعية انتقال سياسي. وخلافا لبعض المسلمات المقبولة على نطاق واسع، لا يمثل العلماء في هذه الحالة فئة تكتفي بأن تضفي المشروعية، بعد حين، على تحول سياسي تم التفاوُض حوله وحسمُه في دوائر أخرى. وقد أغنى المؤلف معرفتنا بمجتمع العلماء من خلال شبكاته وقيمه وثقافته، غير أنه تجنب سؤالا هاما يتعلق بالفرق بين "العالم" و"الفقيه". هل تطرقت مصادر الحقبة المدروسة للتمييز بين المصطلحين؟ وبأية فئة من الفئتين يتعلق الأمر في مختلف الوقائع التي تعرض لها بحث لطفي بوشنتوف ؟

رابعا، استعمل المؤلف متنا كثيفا من المصادر المغربية والأوربية. وتضعنا المرحلة المدروسة أمام وجوه لا تخلو من خصوصية. يرد على سبيل المثال الجغرافي المغربي المشهور حسن الوزان (ليون الإفريقي) فيقدم لنا توضيحات جديدة، وهو حاضر كفاعل تاريخي، إذ يحكي مساهمته في مفاوضات لصالح الطرف السعدي. ونلتقي كذلك بنموذجين متفردين بالنسبة لرصيد المصادر السردية المتعلقة بالتاريخ السياسي المغربي. الأول هو الجنابي، مؤلف إخباري من بلاد الشام، تناوله السلطانُ أحمد المنصور بالنقد بشكل تفصيلي فيما يخص وقائع الدولة السعدية1 . والثاني هو كتاب تاريخ الدولة السعدية التاكمدارتية ، لمؤلف مجهول، وهو تأليف يتناول السلطة السعدية بنقد لاذع، ويساعد على تمحيص الروايات الموجَّهة التي وضعت من أجل تجميل صورة الدولة الجديدة.

غير أن لطفي بوشنتوف، عندما قدم مصادر بحثه، اكتفى بالتعريف بجنس كتب الأخبار والحوليات. بيد أن فائدة الكتاب الجديد تكمن في ذلك التاريخ المتوتر لبناء مشروعية الدولة الجديدة، وهو تاريخ يتيح لنا أن نتتبع، بطريقة تفهُّمية، ترسانة اللغة والمفاهيم والأدلة التي تم توظيفها في مختلف المراحل من طرف مختلف الأطراف. ولذلك كان من الملائم أن يعمد الباحث إلى التعريف بمختلف الكتابات المذهبية التي تم إنتاجها خلال الحقبة المدروسة، وتحديد موقعها بالنسبة لأنواع الخطابات المعيارية والشرعية التي تناولت مسألة الحكم السلطة السياسية في الإسلام.

وفي الختام، نود التأكيد بأن هذا الكتاب يمثل، بصرف النظر عن جانبه المونوغرافي، مساهمة نوعية تذكِّرنا بقضية منهجية لا يُستهان بها، وهي أن الاهتمام السائد في العقود الأخيرة بموضوع العلاقة بين التصوف والسلطة السياسية أدى إلى إخفاء ضرورة كتابة تاريخ اجتماعي للعلماء والفقهاء2 .

وهكذا يفتح لطفي بوشنتوف مسالك قد تساعد على إضاءة عصور تاريخية أخرى، بما فيها العصر "الوسيط".

الهوامش:

1. انظر تقديم المؤلف وتحقيق الفصلين المتعلقين بالوطاسيين والسعديين في عبد الحفيظ الطبايلي، "مصدر عثماني حول تاريخ المغرب السعدي، البحر الزخار والعيلم التيار، لمؤلفه مصطفى الجنابي"، مجلة التاريخ العربي (الرباط)، عدد 12، خريف 1420 / 1999، ص. 197-233.

2 . من بين الأبحاث الحديثة التي تناولت الموضوع بمجهود توثيقي ملحوظ، نذكر بحثا جامعيا غير منشور. عبد الرحمان حوسني، العلماء في المجتمع المغربي خلال القرن التاسع عشر، رسالة مرقونة، دبلوم الدراسات العليا في التاريخ، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، 1993- 1994، 502 ص.

 

لبمصدر:http://www.ribatalkoutoub.com/index.php?option=com_content&view=article&...

 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك