الديمقراطية في الميزان السلفي
على عبدالعال |
على الرغم من القبول الواسع الذي تلقاه "الديمقراطية" ـ كنظرية سياسية للحكم ـ بين شعوب العالم بما تكفله من حريات للأفراد والجماعات وما تخلقه من حقوق وضمانات، إلا أنها ظلت مرفوضة بالنسبة للإسلاميين، وخاصة لدى أصحاب المنهج السلفي. وبعيداً عن موقف بعض فصائل الصحوة الإسلامية ممن قبلوا العمل تحت راية الديمقراطية، واحترموا لعبتها، وحرصوا على مكتسباتها، كما هو الحال بالنسبة لبعض الجماعات والأحزاب في (تركيا، والمغرب، وماليزيا، وفلسطين، والأردن، والجزائر، والكويت، ومصر)، ظل السلفيون على مبعدة من كل ذلك، متمسكين بتأصيلهم الشرعي للمباديء والأسس التي تقوم عليها الديمقراطية. ولعل رفض السلفيين للمشاركة السياسية في بعض المجتمعات والبلدان الإسلامية ينبع من رفضهم للمنظومة الأيديولوجية الكلية التي تحكم وتسير هذا العمل، وعلى رأس هذه المنظومة تبرز "الديمقراطية" كنظرية سائدة، ناصبها السلفيون العداء وانتقدوها وأصلوا لهذا النقد تأصيلاً شرعياً.. فلم يكن رفضهم رفضاً عبثياً بل انطلق من فروق جوهرية تصادمت فيها "الديمقراطية" مع النظرية السياسية في الإسلام، وهذه الرؤية ليست وقفا على أصحاب المنهج السلفي، بل تبناها في الماضي وتتبناها في الحاضر شرائح عديدة من المفكرين والمنظرين الإسلاميين. ففي كتابه "حكم الإسلام في الديمقراطية" يقول عبد المنعم مصطفى حليمة: "الديمقراطية ليست هي خيارنا الوحيد، بل خيارنا الوحيد هو الإسلام.. وأي خيار نرتضيه غير الإسلام؛ يعني الانسلاخ كلياً من دين الله تعالى والدخول في دين الطاغوت". بينما يقول د.علاء بكر: إن "الإسلام يجعل الهداية في شرع الله - تعالى- ويستمد قوانين الأمة منه، في ظل ثوابت عقائدية وأخلاقية وتعبدية لا تتغير ولا تتبدل". وفي كتابه "معركة الثوابت بين الإسلام والليبرالية" يرى الدكتور عبد العزيز كامل، أن الديمقراطية "إن كانت نوراً في الغرب النصراني، فللشرق الإسلامي ظلامها، وإن كانت عدلاً هناك فهي هنا للشقاء والشقاق، (..) حتى لو جلبت شيئاً من سعادة الدنيا ـ في حال تطبيقها بشفافية في بعض بلاد المسلمين ـ فإن ذلك سيكون على حساب العديد من ثوابت الدين وأصول التشريع وأركان الاعتقاد". خصائص الديمقراطية "الديمقراطية" مصطلح يوناني الأصل مكون من مقطعين: (ديموس) ويعني الشعب، و(قراتوس) ويعني الحكم، فصارت الكلمة المركبة من هاتين الكلمتين تعني: "حكم أو سلطة الشعب"، ومن ثم فهي نظام للحكم يعني أن يحكم الشعب نفسه بنفسه لنفسه. ويتميز النظام الديمقراطي بمجموعة من الخصائص الأساسية التي لا قيام له بدونها، بحيث يصدق القول على كل نظام لا توجد فيه هذه الخصائص بأنه نظام غير ديمقراطي، وأبرز هذه الخصائص الأساسية وأظهرها: أ - سيادة الشعب: ظهرت الديمقراطية في أوروبا لتبرير انتقال السلطة من أمراء الإقطاع ورجال الكنيسة ـ الذين كانوا قد استبدوا بالأمور ـ إلى الشعب أو من يحكم باسمه، فصار الحكم وسلطة إصدار القوانين والتشريعات من حق الشعب أو من ينوب عنه، ومن ثم برزت نظرية "سيادة الشعب" على اعتبار أنه "مصدر كل السلطات". ومع هذا المبدأ تجلت أولى صدامات الديمقراطية بالإسلام، إذ أن التشريع لازم من لوازم العقيدة الإسلامية التي تجعل التشريع والحكم لله تعالى وحده.. فبينما المُشرِّع في الديمقراطية هو الشعب، فإن المُشرِّع في الإسلام هو الله، وحيث يقول الله تعالى: "وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ"(الشورى: 10)، تقول الديمقراطية: وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الشعب، وهو ما يصفه المفكر الإسلامي الأستاذ أبو الأعلى المودودي، بـ: "حاكمية الجماهير وتأليه الإنسان". وفي كتابه "أزمة العصر" يقول الدكتور محمد محمد حسين: "الحاكمية في الإسلام لله، فكتاب الله وسنة رسوله مصدر الأحكام.. بينما الأمة أو الشعب ممثلاً في نوابه هو عند الديمقراطية مصدر الأحكام، فالأمم محكومة في الإسلام بتشريع الله الحكيم العليم.. وهي في الديمقراطية محكومة بقوانين صادرة عن شهوات الناس ومصالحهم.. فالأحكام مستقرة دائمة في الإسلام، وهي متبدلة متغيرة لا تستقر في الديمقراطية". وفي "ظلال القرآن" يقول المفكر الأستاذ سيد قطب رحمه الله: "إن أخص خصائص الألوهية هي الحاكمية، فالذي يُشرع لمجموعة من الناس يأخذ فيهم مكان الألوهية، ويستخدم خصائصها، فهم عبيده لا عبيد الله، وهم في دينه لا في دين الله". ب - العلمانية: يلزم لتطبيق الديمقراطية تهيئة أرضية علمانية تترعرع فيها، إذ أن منطلقاتها لا تفرق بين الأشخاص بحسب معتقداتهم (مسلمون، نصارى، يهود، وثنيون)، ولا تمايز بين الأحكام التي توافق الدين أو تلك التي تتناقض مع مبادئه. فمنذ ظهورها جاءت الديمقراطية: "ناقمة على تعاليم الكنيسة وكل شيء اسمه دين، ووقفت الموقف المغالي والمغاير لتعاليم الكنيسة (..) فعملت على نزع سلطة السيادة عن باباوات الكنيسة لتجعلها حقاً خالصاً لباباوات المجالس النيابية، فكانت الديمقراطية بذلك أول من تبنى عملياً مبدأ فصل الدين عن الدولة وعن الحكم والحياة، ورفعت الشعار المعروف: (دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله)". في كتابه "حقيقة الديمقراطية" يقول محمد شاكر الشريف :إن "العلاقة بين الديمقراطية والعلمانية هي علاقة الفرع بأصله، أو علاقة الثمرة الخبيثة بالشجرة التي أثمرتها (..) فالديمقراطية إذن هي التعبير السياسي أو الوجه السياسي للعلمانية، كما أن الرأسمالية تعبير اقتصادي عن العلمانية، وهذه العلاقة بين الديمقراطية والعلمانية نستطيع أن ندركها بكل سهولة ويسر إذا علمنا أن نظرية العقد الاجتماعي التي تمثل الأساس الفلسفي لنظرية السيادة التي تقوم عليها الديمقراطية، كانت في نفس الوقت تمثل الركن الأساس في فكر زعماء الثورة الفرنسية التي أقامت دولة علمانية لأول مرة في تاريخ أوروبا النصرانية". وفي "معركة الثوابت بين الإسلام والليبرالية" يذهب د.عبد العزيز كامل إلى أن الديمقراطية "علمانية المنبع والمصب، ولا يمكن أن يحملها على عاتقه إلا من يضع مسئولية أخذ الدين بقوة عن كاهله، لأنه لابد أن يحمل شعار : (لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة)". ج - حكم الأكثرية: تعد ممارسة السلطة باسم الأغلبية محور النظام الديمقراطي وجوهره: "فالحق ـ في نظر الديمقراطية الذي لا يجوز الاستدراك أو التعقيب عليه ـ هو ما تقرره الأكثرية وتجتمع عليه لا غير..!". وهنا يفترقان الإسلام والديمقراطية لأن الحق في الإسلام لا يُعرف بكثرة مؤيديه. يقول الله تعالى: "وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله"، "وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين"، "وما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون". وفي الصحيحين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة"، أي لا تكاد تجد فيهم من يتحمل أعباء السفر وتكاليف وتبعات طريق هذا الدين إلا واحد من كل مائة. وبالرجوع إلى السنة الفعلية نجد أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد خالف رأي الأكثرية في التشريع، وذلك في صلح الحديبية بقوله: "والذي نفسي بيده لا يسألونني (يقصد مشركي مكة) خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها"، وكان أكثر المسلمين يومئذ يرون أن في الصلح إجحافاً بهم، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمرهم أن يحلقوا رؤوسهم وينحروا هديهم تباطئوا. من جهة أخرى، يرى مفكرون إسلاميون في مسألة "التصويت" المعروفة في النظام الديمقراطي "تعبير عن الصراع الذي تأسست عليه الحضارة الغربية، ففلسفة الديمقراطية تقوم على الصراع من أجل السلطة، والتنافس من أجل الحصول على الأغلبية العددية". أما النظام الإسلامي فإن القرار في الشورى ثمرة حوار وتشاور بين أهل الاختصاص، يهدف إلى الإجماع، أو الاتفاق على حل يحوز الإجماع، أو يرضي الأغلبية بسبب اقتناعهم بأدلته وأحقيته وفائدته.. فالشورى حوار فكري وجهد عقلي ومنطقي ـ في ما ليس فيه نص ـ يؤدي إلى القرار الصواب والوصول إلى الحق، أما التصويت فما أشبهه بعملية صراع وتناطح من أجل الغلبة. د - إطلاق الحريات: قامت الديمقراطية على أساس إطلاق كافة الحريات والاختيارات للأفراد والجماعات، في مجال الاقتصاد ومثلتها "الرأسمالية"، وفي السياسة والأخلاق والاعتقاد ومثلتها "الليبرالية" التي تعتبر الحرية "المبدأ والمنتهى، الباعث والهدف، الأصل والنتيجة في حياة الإنسان". فقد أكدت على حرية الفرد في السلوك والاختيار والاعتقاد بما في ذلك حقه في الإلحاد نفسه، "فالليبرالي يصبو على نحو خاص إلى التحرر من التسلط بنوعيه: تسلط الدولة، وتسلط الجماعة، لذلك نجد الجذور التاريخيَّة لليبرالية في الحركات التي جعلت الفرد غاية بذاته". لكن الإسلام لا يقبل إطلاق الحريات بلا ضوابط ، فالحرية في المجتمع الإسلامي مبنية على آداب الشرع وحدوده، وما يُملي على الإنسان من التزامات وواجبات وسنن تجاه خالقه ثم تجاه شركائه في الحياة والأوطان، كما أنها مقيدة بمراعاة تقوى الله ومخافته في السر والعلن، في الغاية والوسيلة.. إذ لا يعطي الإسلام الحق للإنسان في أن يرتكب ما يشاء من محظورات (أخلاقية، واجتماعية، وفكرية، وسياسية، ومالية) تحت لافتة الحرية أو باعتبارها حق شخصي يصبغه بالشرعية والقانون، {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}الأنعام162 هـ - التعددية: ومن بين الأسس التي تقوم عليها الديمقراطية "التعددية" الأيدلوجية والسياسية التنظيمية الحزبية، وهي التي تستلزم أن يكون هناك أناس في الحكم وآخرين في المعارضة، وذلك كنتيجة مباشرة للحرية المطلقة في الاختيار. إلا أن الإسلام يفترض في الأمة كلها أن تكون حزبًا واحدًا، وصفًا واحدًا، {ألا إن حزب الله هم المفلحون} وفي آية وصفهم أيضا بأنهم: {هم الغالبون}، وإن كان لا ينفي عن أفرادها الاختلاف المبني على أسس معتبرة في الاجتهاد والنظر. فمع تعدد الأحزاب السياسية يحتد الصراع ويتكرر الصدام بين أفراد المجتمع الواحد، وقد يصل إلى حد الاقتتال في بعض الأحيان على السلطة، حيث يتقلد حزب الأغلبية وظائف السلطة التنفيذية (الحكومة) وتتحول باقي الأحزاب الأخرى إلى معارضة، حتى لو لم تجد شيء تختلف عليه مع الحكومة عارضت فقط من أجل المعارضة.. كما تتصارع أحزاب المعارضة فيما بينها نتيجة لاختلاف برامجها السياسية وأهدافها ومطامعها، كل حزب يسعى للكسب على حساب الآخرين. والله تعالى يقول: "وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ"، وهو موجب أيضاً لبراءة الله ورسوله، قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ". والصراعات التي تنتج عن "التعددية" و"المعارضة" صراعات مستمرة، لا تتوقف، ولا نهاية لها، فإذا وصلت المعارضة إلى الحكم صارت هي (الحكومة) وتحول حزب الأغلبية إلى صفوف المعارضة، وهكذا. أما الإسلام فيأبى أن يتحزب أهل القبلة ويكونون مع أحزابهم سواء كانت على الحق أو على الباطل، بل الذي تقتضيه الروح الإسلامية أن يدور أفراد الأمة مع الحق حيثما دار. كما تتناقض فكرة "التعددية" من جهة أخرى مع "الفرقة الناجية" التي قال صلى الله عليه وسلم عنها: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة"، وهي الفرقة التي يفترض أن يسعى إليها جميع أفراد الأمة ليدخلوا في إطارها. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم الأمة من التفرق، حيث يقول: "ستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة"، وفي الحديث: "لا تحدثوا حلفاً في الإسلام". ويقول ابن تيمية رحمه الله: "فكل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة يجب جهادها، حتى يكون الدين كله لله، باتفاق العلماء"، "كما قاتل أبو بكر الصديق وسائر الصحابة مانعي الزكاة". رفض الديمقراطية لا يعني قبول الاستبداد وفي نهاية رسالته التي هي بعنوان "حقيقة الديمقراطية" حرص محمد شاكر الشريف، على التأكيد على أن رفض الديمقراطية الغربية لا يعني بأي حال القبول بالدكتاتورية والخضوع للإستبداد، حيث يقول : "فإننا حيث دعوناك إلى الكفر بالنظام الديمقراطي والبراءة منه وعدم قبوله والرضى به، فما أردنا بذلك أن نَرُدك إلى قبول النظم الظالمة المستبدة التي تنـزل بأهل بلادها وشعوبها من ألوان الظلم والطغيان ما الله به عليم، وإنما أردنا بذلك أن نردك إلى النظام الإسلامي نظام الحق ونظام العدل ونظام الخير؛ النظام الذي تكون فيه الحقوق والحريات مبنية على إذن الله العلي الكبير ورضاه الذي يُعرف من نصوص الوحي المعصوم: الكتاب والسنة". ومن منطلق هذا الإذن والرضى فإن الحقوق والحريات في النظام الإسلامي تكون خيراً خالصاً مبرّءاً من العيب أو القصور، وتكون أيضاً حريات وحقوقاً لصالح الفرد ولصالح الجماعة في توازن لا جور فيه، وتكامل لا تناقض فيه. |