الحوار مع أتباع الأديان (مشروعيته وآدابه)
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أنبياء الله أجمعين، عليهم وعلى نبينا أزكى الصلاة وأتم التسليم، وبعد:
فقد خلق الله آدم عليه السلام، وندبه وذريته من بعده إلى عمارة الأرض بمنهج الله: إني جاعل في الأرض خليفة (البقرة: 30)، ودعاهم تبارك وتعالى إلى التمسك بهديه الذي أرسل به أنبياءه: فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (البقرة: 38).
وشاء الله بحكمته البالغة أن يختلف البشر في اتباعهم لأنبياء الله ورسله، فمنهم شقي وسعيد، وأرسل الله الأنبياء يقيمون حجته على خلقه، يدعونهم إلى دين الله الذي ارتضاه لخلقه ديناً ليكونوا من السعداء، ويحذرونهم من عصيان أمره حتى لا يكونوا من الأشقياء، ولكن إرسالهم لن يمنع تحقق ما قد سبق في علم الله، فإن أكثر الناس لا يؤمنون وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين (يوسف: 103).
وأمام هذه السنة الكونية فإن المسلم مطالب بدعوة الآخرين إلى الحق الذي شرح الله به صدره، وهو على يقين بأن هداية الله قد لا تكتب لكثيرين ممن يدعوهم، فلا يمنعه ذلك من بلاغهم: إن عليك إلا البلاغ (الشورى: 48).
وحين يعرض الناس عن دعوة الله ولا يؤمنون بها، فإن المسلم لا يتوقف عن التفاعل مع الآخرين اجتماعياً وحضارياً، رائده في ذلك كتاب ربه، وأسوته نبيه ، إذ القرآن أمر بالإحسان إلى الوالدين والجار، ولو كانوا على غير دين الإسلام، كما حثّ على البر وحسن العشرة مع الذين لم يتصدوا لمقاتلة المسلمين والاعتداء عليهم، كما كانت حياته نبراساً في التسامح وحسن التعايش مع الآخرين، ممن اختاروا إلفهم من العقائد والأديان.
واليوم وقد أصبح العالم قرية صغيرة تتلاقح فيها الثقافات عبر وسائل الإعلام المختلفة، تزداد الحاجة إلى الحوار، وإلى ضرورة تأصيله من الناحية الشرعية، والمسلمون حين يمارسونه هم بأمسِّ الحاجة إلى معرفة مسوغاته الشرعية وآدابه ومحظوراته.
وإسهاماً منا في هذا الباب نضع بين يدي القارئ الكريم هذا الجهد المتواضع ، والذي نرجو أن يعالج بموضوعية علمية هذه المسألة الشائكة، التي كثر الجدال حولها بين مؤيد مندفع ومعارض متشكك.
وحين نتحدث عن الحوار فإنا لا نقصد بحال من الأحوال الحوار الذي يقوم على وحدة الأديان والتلفيق بينها وصهرها في دين عالمي جديد قائم على الجمع بين المتناقضات، الكفر والإيمان، التوحيد والوثنية، فتلك الدعوة دسيسة تسترت بالحوار ينأى المسلم بنفسه عنها ، كما سنبينه في حينه.
واللهَ نسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
التعريفات
أ. الحوار
أصله من الحور، وهو الرجوع عن الشيء إلى الشيء.
يقول ابن منظور: " الحَوْر: هو الرجوع عن الشيء إلى الشيء .. والمحاورة: المجاوبة، والتحاور التجاوب، والمحاورة: مراجعة المنطق، والكلام في المخاطبة ".
وقال الراغب الأصفهاني: "المحاورة والحوار: المرادّة في الكلام، ومنه التحاور".
وهذه المعاني اللغوية وردت في سياق الآيات الكريمة التي ورد فيها مادة (حور).
قال تعالى: إنه ظن أن لن يحور (الانشقاق:14). قال القرطبي : "أي لن يرجع حياً مبعوثاً.. فالحور في كلام العرب الرجوع".
وقال تعالى: فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً (الكهف 34). قال القرطبي: " أي يراجعه في الكلام ويجاوبه، والمحاورة: المجاوبة. والتحاور التجاوب".
وقال تعالى: قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما (المجادلة: 1)، قال في الجلالين: "تراجعكما" أي في الكلام.
وورد هذا المعنى أيضاً في غير ما حديث نبوي, من ذلك أن النبي كان يستعيذ من : ((الحَوْر بعد الكَوْر)). قال القرطبي : "يعني من الرجوع إلى النقصان بعد الزيادة".
وقال : (( من دعا رجلاً بالكفر أو قال: عدو الله. وليس كذلك، إلا حار عليه )) قال النووي: " رجع عليه ".
ومما سبق تبين أن الحوار في معناه اللغوي هو مراجعة الكلام وتداوله، وهو ما يكون عادة بين شخصين أو بالأحرى بين طرفين أو أكثر.
ولم تبعد تعريفات أهل الاصطلاح للحوار عن المعاني اللغوية السابقة، فقد أكدتها وأضافت إليها بعض المعاني والقيم الأخلاقية التي ينبغي توفرها في الحوار.
ومن هذه التعريفات تعريف الدكتور صالح بن حميد، إذ اعتبر الحوار: " مناقشة بين طرفين أو أطراف، يُقصد بها تصحيح كلامٍ، وإظهار حجَّةٍ، وإثبات حقٍ، ودفع شبهةٍ، وردُّ الفاسد من القول والرأي ".
وعرّفه بسام داود عجك بأنه: "محادثة بين شخصين أو فريقين , حول موضوع محدد , لكل منهما وجهة نظر خاصة به، هدفها الوصول إلى الحقيقة , أو إلى أكبر قدر ممكن من تطابق وجهات النظر، بعيداً عن الخصومة أو التعصب، بطريقة تعتمد على العلم والعقل , مع استعداد كلا الطرفين لقبول الحقيقة, ولو ظهرت على يد الطرف الآخر".
وهكذا فالمحاورة هي تجاذب الكلام بين المختلفين، وما أضافه العلماء في تعريفه من شروط إنما هي ضوابط أخلاقية يفترض توفرها في الحوار ليكون مثمراً ومجدياً.
ب. الجدال
الجدال لغة: من جَدَلَ الحبل إذا فَتَلَه، قال ابن منظور: "الجدل: اللدد في الخصومة والقدرة عليها.. ويقال: جادلت الرجل فجدلته جدلاً، أي: غلبته. ورجل جدِل، إذا كان أقوى في الخصام. وجادله أي: خاصمه مجادلة وجدالاً ".
وعن معنى الجدل عند أهل الاصطلاح يقول ابن منظور: "الجدل مقابلة الحجة بالحجة، والمجادلة: المناظرة والمخاصمة".
وعرفه الجرجاني بأنه: "القياس المؤلف من المشهورات والمسلمات، والغرض منه إلزام الخصم، وإفحام من هو قاصر عن إدراك مقدمات البرهان"، كما عرَّفه أنه: "دفع المرء خصمه عن إفساد قوله بحجة أو شبهة".
وأما الجويني فيرى أن الجدال: "إظهار المتنازعَيْن مقتضى نظرَتهما على التدافع والتنافي بالعبارة أو ما يقوم مقامها من الإشارة والدلالة".
وفي المعجم الوسيط: "طريقة في المناقشة والاستدلال، وهو عند مناطقة المسلمين قياس مؤلف من مشهورات أو مسلمات".
وقد ورد إطلاق (الجدل) في نصوص القرآن والسنة على نوعين متباينين:
الأول: الجدل المذموم، وهو الذي يدور في طلب المغالبة لا الحق، أو الذي فيه نوع من الخصومة واللدد، ومنه قول الله تعالى: وقالوا ءآلهتنا خيرٌ أم هو ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قومٌ خصمون (الزخرف: 58)، ومثله قول الله تعالى في ذم جدال الكافرين : ما يجـادل فى آيـات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد (غافر: 4) ، وقولـه تعالى: وجـادلوا بالبـاطل ليدحضوا به الحق (غافر: 5)، وقوله تعالى: لا جدال في الحج (البقرة: 197) قال ابن منظور: "قالوا: معناه لا ينبغي للرجل أن يجادل أخاه، فيخرجه إلى ما لا ينبغي".
وفي الحديث: ((ما ضَلَّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أُوتوا الجدل)).
والمراد بذلك كله الجدل على الباطل وطلب المغالبة به، لا الجدل بحثاً عن الحق وفي طلبه، فإن ذلك اللون من ألوان الجدل محمود.
والثاني : الجدل المحمود، وهو الذي يكون في طلب الحق بالأسلوب الحسن بعيداً عن الخصومة، ومنه قوله عز وجل: وجادلهم بالتي هي أحسن (النحل: 125).
وهو بهذا المعنى مرادف للحوار، قال تعالى واصفاً حديث المرأة إلى النبي بالحوار والجدال، فقال: قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير (المجادلة: 1). قال ابن كثير: " وهو يحاوره، أي: يجادله ".
وهكذا فالجدال صورة من صور الحوار، وقد أمر بها الله ورسوله، وتجنباً لما قد يكتنفه من اللدد في الخصومة فإنهما أمرا بالمجادلة بالتي هي أحسن، بعيداً عن ضروب الجدل المذموم الذي يفضي إلى الشقاق.
ج. المناظرة
المناظرة لغة "من النظير، أو من النظر بالبصـيرة" كما عند الجرجاني، وقال ابن منظور: "والمنظر والمنظرة: ما نظرت إليه فأعجبك أو ساءك ... النظر: الفكر في الشيء تقدره وتقيسه منك ".
أما في الاصطلاح فقد عرفها الجرجاني: "النظر بالبصيرة من الجانبين في النسبة بين الشـيئين إظهاراً للصواب".
وعرفها ابن منظور: "أن تناظر أخاك في أمر إذا نظرتما فيه معاً كيف تأتيانه".
وقال الزَّبيدي: "والمناظرة المباحثة والمباراة في النظر واستحضار كل ما يراه ببصيرته".
قال محمد الأمين الشنقيطي في تعريف المناظرة: "المحاورة في الكلام بين شخصين مختلفين يقصد كل واحد منهما تصحيح قوله وإبطال قول الآخر، مع رغبة كل منهما في ظهور الحق".
فالمناظرة تفيد النظر والتفكر في الأمور والبحث عن الحق عن طريق المحاورة مع الآخرين.
وحوار المناظرة يكون بين شخصين أو فريقين حول موضوع معين، بغية الوصول إلى تبيان الحق وكشف الباطل، مع توفر الرغبة الصادقة في ظهور الحق والانصياع له.
حتمية الخلاف
إن التعدّد في المخلوقات وتنوّعها سنة الله في الكون وناموسه الثابت، فلكل شيء في هذا الخلق طبيعته وخصائصه وصفاته التي تقارب غيره أحياناً، وتتنافر عنها في أحايين أخرى، وهكذا فطبيعة الوجود في الكون أساسها التّنوّع والتّعدّد.
والإنسانية خلقها الله وفق هذه السنة الكونية، فاختلف البشر إلى أجناس مختلفة وطبائع شتى، وكلّ من تجاهل وتجاوز أو رفض هذه السُّنة الماضية لله في خلقه، فقد ناقض الفطرة وأنكر المحسوس.
وقد جاء في القرآن الكريم ذكر بعض صور الاختلاف بين البشر، كاختلاف الألوان واللغات، وهما فرع عن اختلاف الأجناس والقوميات: ومن آياته خلق السّموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إنّ في ذلك لآيات للعالمين ( الروم: 22).
وقد أكدت الآيات أن اختلاف البشر في شرائعهم هو أيضاً واقع بمشيئة الله تعالى ومرتبط بحكمته، يقول الله: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً (المائدة: 48).
قال ابن كثير : "هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث اللّه به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام المتفقة في التوحيد ".
وقال تعالى: ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدةً ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ( هود : 118– 119).
قال ابن حزم: "وقد نص تعالى على أن الاختلاف ليس من عنده، ومعنى ذلك أنه تعالى لم يرض به، وإنما أراده تعالى إرادة كونٍ، كما أراد الكفر وسائر المعاصي".
قال القرطبي: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة قال سعيد بن جبير: على ملة الإسلام وحدها.. ولا يزالون مختلفين أي: على أديان شتى قاله مجاهد وقتادة ".
وقال ابن كثير: "ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك أي: ولا يزال الخلف بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم .. قال الحسن البصري: الناس مختلفون على أديان شتى إلا من رحم ربك، فمن رحم ربك غير مختلف".
ويقول الفخر الرازي : " والمراد اختلاف الناس في الأديان والأخلاق والأفعال".
بل يرى الحسن البصري ومقاتل وعطاء وغيرهم من المفسرين أن الله خلق الناس ليختلفوا، وذلك لقوله : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ( هود : 118– 119).
وذهب آخرون من المفسرين ومنهم ابن عباس ومجاهد وقتادة إلى أن اسم الإشارة يعود إلى الرحمة، أي: خلقهم ليرحمهم.
وذهب ابن جرير الطبري وابن كثير وغيرهما إلى عود الإشارة إلى الإثنين معاً، أي: خلقهم ليختلفوا، وليرحم من سلك الصراط المستقيم.
يقول ابن سعدي: " يخبر الله تعالى أنه لو شاء لجعل الناس أمة واحدة على الدين الإسلامي، فإن مشيئته غير قاصرة، ولا يمتنع عليه شيء، ولكنه اقتضت حكمته أن لا يزالوا مختلفين، مخالفين للصراط المستقيم، متبعين للسبل الموصلة إلى النار..".
وعن قوله سبحانه: ولذلك خلقهم قال : "أي اقتضت حكمته، أنه خلقهم ليكون منهم السعداء [و]الأشقياء، والمتفقون والمختلفون، والفريق الذي هدى الله، والفريق الذي حقت عليهم الضلالة، ليتبين للعباد عدله وحكمته، وليظهر ما كمن في الطباع البشرية من الخير والشر.. ".
وفي معنى الآية يقول محمد رشيد رضا : " لو شاء ربك أيها الرسول الحريص على إيمان قومه الآسف على إعراض أكثرهم عن إجابة دعوته واتباع هدايته لجعل الناس أمة واحدة على دين واحد بمقتضى الغريزة والفطرة، لا رأي لهم فيه ولا اختيار، وإذاً لما كانوا هم هذا النوع من الخلق المُسمّى البشر وبنوع الإنسان، بل كانوا في حياتهم الاجتماعية كالنحل أو كالنمل، وفي حياتهم الروحية كالملائكة مفطورين على اعتقاد الحقِّ وطاعة الله عز وجل، فلا يقع بينهم اختلاف. ولكنّه خلقهم بمقتضى حكمته كاسبين للعلم لا مُلْهَمين. وعاملين بالاختيار".
ولما كان الاختلاف والتّعدّد آية من آيات الله، فإنّ الذي يسعى لإلغاء هذا التّعدّد كلية، فإنما يروم محالاً ويطلب ممتنعاً، لذا كان لابد من الاعتراف بالاختلاف.
والاعتراف بوقوع هذا الخلاف لا يعني إقرار هذه المختلفات ولا تسويغ الاختلاف فيها، لكنه يفرض على أهل الحق أن يتصدوا لهداية من قدروا على هدايته من المختلفين عنهم، مع يقينهم بالعجز عن إنقاذ الكثيرين ممن اختار العماية، قال تعالى: أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً (الرعد: 31).
قال القرطبي: " والمعنى على هذا: أفلم يعلم الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً أن يشاهدوا الآيات ".
وعليه فإن هداية الجميع من المحال، فإن أكثر الناس لا يعلمون الحق، وأكثرهم لا يؤمنون به إن علموا به، وواجب الدعاة الدأب في دعوتهم وطلب أسباب هدايتهم، أي بذل الجهد في إزالة الخلاف ورفعه.
فإن أعرض من أعرض عن الإسلام فإنما أمر الله المسلمين بإبلاغ رسالاته في الدنيا، والله يتولى حساب المعرضين في الآخرة، قال الله مخاطباً نبيه : فإن تولوا فإنما عليك البلاغ (النحل: 82).
قال القرطبي: " فإن تولوا أي أعرضوا عن النظر والاستدلال والإيمان؛ فإنما عليك البلاغ، أي ليس عليك إلا التبليغ، وأما الهداية فإلينا".
وقال تعالى: فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصيرٌ بالعباد (آل عمران: 20).
قال الطبري: " وإن أدبروا معرضين عما تدعوهم إليه من الإسلام وإخلاص التوحيد لله رب العالمين، فإنما أنت رسول مبلغ، وليس عليك غير إبلاغ الرسالة إلى من أرسلتك إليه من خلقي وأداء ما كلفتك من طاعتي، والله بصير بالعباد يعني بذلك: والله ذو علم بمن يقبل من عباده ما أرسلتك به إليه، فيطيعك بالإسلام، وبمن يتولى منهم عنه معرضاً فيرد عليك ما أرسلتك به إليه، فيعصيك بإبائه الإسلام ".
قال الشوكاني في سياق شرحه لقول الله تعالى: فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب (الرعد: 40): " أي: فليس عليك إلا تبليغ أحكام الرسالة، ولا يلزمك حصول الإجابة منهم، لما بلّغته إليهم، وعلينا الحساب أي: محاسبتهم بأعمالهم ومجازاتهم عليها، وليس ذلك عليك.
وهذا تسلية من الله سبحانه لرسوله ، وإخبار له أنه قد فعل ما أمره الله به، وليس عليه غيره، وأن من لم يجب دعوته ويصدق نبوته، فالله سبحانه محاسبه على ما اجترم واجترأ عليه من ذلك".
وقال تعالى: فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر (الغاشية: 21-22).
قال الطبري: " يقول: لست عليهم بمسلَّط، ولا أنت بجبار تحملهم على ما تريد، يقول: كِلْهم إليّ، ودعهم وحكمي فيهم... ".
قال ابن كثير: " فإن أعرضوا يعني المشركين فما أرسلناك عليهم حفيظاً (الشورى: 48) أي: لست عليهم بمصيطر (الغاشية: 22)، وقال عز وجل: ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء (البقرة: 272)، وقال تعالى: فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب (الرعد: 40)، وقال جل وعلا في آية الشورى: إن عليك إلا البلاغ (الشورى: 48) أي: إنما كلفناك أن تبلغهم رسالة الله إليهم".
فالإسلام - كما رأينا - يعترف بوجود الاختلاف وعدم إمكانية جمع الناس على دين واحد، ويطلب من الدعاة ورثة الأنبياء القيام بواجب البلاغ في الدنيا واستفراغ الوسع في الإرشاد والنصح للعالمين، ثم الله يتولى - بحكمه وعدله - يوم القيامة حساب المعاندين وجزاء المؤمنين.
تاريخ الحوار
منذ سطع نور الإسلام على الدنيا أدرك المسلمون طبيعة دينهم وعالمية رسالته، فقاموا يدعون الناس إلى هديه، فبدأ الحوار بين المسلمين ومشركي قريش، وسجل القرآن في آياته الكثير من هذه الحوارات، وتولى فيها الرد على المشركين.
وكان من أهم مناسبات الحوار هجرة أصحاب النبي إلى الحبشة، وحوارهم مع النجاشي حول قول المسلمين في المسيح وأمه عليهما السلام.
وحين انتقل النبي إلى المدينة بدأ الحوار مع أهل الكتاب من قطّان المدينة المنورة، وقد نقل القرآن الكثير من الحوارات التي طَلب من النبي أن يجريها مع أهل الكتاب، والكثير منها كان يبدأ بقوله تعالى: يا أهل الكتاب (النساء: 171، المائدة: 15، 19، 59، 68، 77).
ومن حواره مع يهود المدينة أن حبراً من اليهود يقال له مالك بن الصيف جاء يخاصم النبي ، فقال له النبي : ((أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين؟)) وكان حبراً سميناً.
فغضب فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء. فقال له أصحابه الذين معه: ويحك، ولا موسى؟ فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء. فأنزل الله: وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى (الأنعام: 91).
وكان أهم اتصال بالنصرانية قدوم وفد نصارى نجران إلى المدينة وبقاؤهم فيها أياماً يناظرون رسول الله وقد أذن لهم رسول الله بالصلاة في مسجده، وقال لأصحابه: ((دعوهم)) ، ونزل بسبب هذه الزيارة بضع وثمانون آية من صدر سورة آل عمران.
ولم تنقل إلينا كتب السنة إلا النـزر اليسير عما دار بينهم وبين رسول الله .
ومما نقل في ذلك ما ذكره ابن جرير في تفسيره أنه جاء راهبا نجران إلى النبي ، فعرض عليهما الإسلام ، فقال أحدهما : إنا قد أسلمنا قبلك . فقال: ((كذبتما. إنه يمنعكما عن الإسلام ثلاثة : عبادتكم الصليب، وأكلكم الخنزير، وقولكم لله ولد)).
قال : من أبو عيسى ؟ وكان لا يعجل حتى يأتي أمر ربه ، فأنزل الله تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (آل عمران: 59).
وذكر الطبري بإسناده أيضاً أن نصارى نجران قالوا: " ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه ؟ قال: بلى. قالوا: فحسبنا. فأنزل الله عز وجل: فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله (آل عمران : 7).
لكن الذي يثير الانتباه في زيارة وفد نصارى نجران ما نقله الطبري من اجتماع النبي بهم في حضور وفد من يهود المدينة، فقد روى بإسناده إلى ابن عباس أنه "اجتمعت نصارى نجران وأحبار اليهود عند رسول الله، فتنازعوا عنده ، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهودياً. وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانياً. فأنـزل الله: ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً (آل عمران: 67).
وحين رجع وفد نجران إلى بلاده لم ينقطع حوارهم مع المسلمين ، ذلك أن النبي أرسل معهم المغيرة بن شعبة، فكانوا يحاورونه ويطرحون عليه الأسئلة عن القرآن، ومن ذلك أنه أشكل عليهم مؤاخاة القرآن بين مريم وهارون، وبينهما زمن مديد، فقالوا للمغيرة: "ألستم تقرؤون: يا أخت هارون (مريم: 28) ، وقد علمتم ما بين موسى وعيسى ... ".
كما استقبل النبي في مسجده عدي بن حاتم الطائي ، وحاوره في أخذه المرباع من قومه ، وهو لا يحل له في دينه ، ودعاه للإسلام فأسلم.
واستقبل أيضاً الجارود بن عمرو في وفد عبد القيس، وكان نصرانياً؛ فدعاه إلى الإسلام، فأسلم.
كما كانت مراسلة النبي لملوك النصارى ومقدميهم نوعاً من الحوار، فقد أرسل أصحابه بكتبه إلى النجاشي وهرقل والمقوقس عظيم القبط وهوذة الحنفي صاحب اليمامة؛ يدعوهم للإسلام.
مع أن كتب التاريخ لم تنقل إلينا الكثير مما جرى بين سفراء النبي والمرسلين إليهم إلا أنه من المؤكد تحاورهم، إذ هو ما تقتضيه السفارة.
ومما نقل في ذلك حوار حاطب بن أبي بلتعة مع المقوقس، فقد سأله المقوقس عن حرب النبي مع أعدائه، فأجابه حاطب بأنه يَغلِب ويُغلَب، فقال المقوقس: أنبي الله يُغلب؟ فأجاب حاطب: أولد الله يُصلب؟
ومثله ما رواه ابن عبد البر في الاستيعاب من حديث حاطب بن أبي بلتعة أن المقوقس جمع بطارقته فقال: إني سأكلمك بكلام أحب أن تفهمه مني. قال: قلت: هلم. قال: أخبرني عن صاحبك أليس هو نبياً؟ قلت: بلى، هو رسول الله.
قال: فما له حيث كان هكذا لم يدع على قومه، حيث أخرجوه من بلدته إلى غيرها؟ فقلت له: فعيسى ابن مريم، أتشهد أنه رسول الله؟ فما له حيث أخذه قومه، فأرادوا صلبه ألّا يكون دعا عليهم بأن يهلكهم الله حتى رفعه الله إليه في سماء الدنيا؟ قال: أحسنت، أنت حكيم جاء من عند حكيم.
وحين دخل المسلمون مصر وبلاد الشام تحولت تلك الشعوب النصرانية إلى الإسلام دين الفاتحين الجدد، وهذا التحول ثمرة لأسباب متضافرة، أهمها الحوار الذي شاع بين المسلمين والنصارى في تلك الربوع.
ولئن كان التاريخ ذهل عن تسجيل حوارات عوام المسلمين مع غيرهم، والذي أسفر عن دخولهم الإسلام ، فإنه لم يغفل عن تسجيل الحوارات التي جرت في قصور السلاطين من المسلمين وغيرهم .
ومنه حوار الخليفة هارون الرشيد مع طبيبه النصراني ، واستعانته بعالم خراسان محمد بن عمر بن واقد.
كما جمع الخليفة المأمون بين كلثوم بن عمرو العتابي وابن فروة النصراني، وتناظرا بين يديه في قول النصارى بألوهية المسيح.
كما وفد القاضي أبو بكر محمد الباقلاني على ملك الروم في القسطنطينية بأمر من المعتضد العباسي، والحوار الذي جرى بينه وبين ملك الروم وراهبهم مشهور في كتب التاريخ.
ونقل صاحب عيون المناظرات قصة فيلسوف نصراني قدم بغداد، وأسلم بعد حواره مع نخبة من علماء المسلمين ، جمعهم الخليفة في قصره ، منهم الصالحي والجبائي والكعبي والأشعري.
وبعيداً عن قصور الأمراء تحاور العلماء المسلمون مع غيرهم ، ولعل من أوائل ما نقل في هذا الصدد حوار أبي حنيفة النعمان بن ثابت مع طائفة من الملاحدة حول سببية العالم.
وكذلك حوار الفخر الرازي الطويل مع قسيس في خوارزم في موضوعات أهمها نبوة النبي وهل معجزات عيسى تدل على نبوته أو ألوهيته؟
ثم مناظرة ابن القيم لأحد رؤساء اليهود حول نبوة النبي .
كما كتب العلماء العشرات من الكتب والردود على مختلف محاوريهم، فازدهر حوار الكتب، ومنه كتاب "الجواب الصحيح" لابن تيمية، وهو يرد فيه على كتاب ورد من قبرص بعنوان: "الكتاب المنطيقي الدولة خاني المبرهن عن الاعتقاد الصحيح والرأي المستقيم " لراهب صيدا الأسقف بولص الراهب.
كما كتب أبو الوليد الباجي رسالة رد فيها على رسالة وجهها راهب فرنسا إلى المقتدر أمير سرقسطة يدعوه فيها للدخول في النصرانية.
وكتب أبو عبيدة الخزرجي القرطبي كتابه المشهور باسم " مقامع هامات الصلبان، ومراتع روضات الإيمان " رداً على أسئلة كان يثيرها قسيس من القوط على نفر من المسلمين بطليطلة.
ولم تنقطع الحوارات والكتب المتبادلة بين المسلمين وغيرهم، وإن خَفَت بريقها مع تراجع الحركة العلمية عند المسلمين.
ومع بداية الحركة الاستعمارية الغربية تجدد الحوار بين المسلمين ومستعمريهم، ولعل من أبرز ما يذكر في هذا الصدد الحوار الذي جرى بين العلامة رحمة الله الهندي والقس كئي ومساعده القس فرنج، ثم جرت المناظرة الكبرى بينه وبين القس فندر في شهر رجب من عام 1270هـ رداً على النشاط التنصيري في الهند.
وفي القرن الميلادي العشرين نشط الحوار بين الأديان ، ودعي المتحاورون إلى عدد من المؤتمرات، منها مؤتمر تاريخ الأديان الدولي في بروكسل في عام 1935م، والمؤتمر العالمي للأديان المنعقد في لندن عام 1936م ، ثم في جامعة السوربون عام 1937م.
ونشطت الدعوة إلى حوار الأديان إثر انعقاد مجمع الفاتيكان الثاني 1965م والذي دعا لاستئناف الحوار مع الأديان، وأنشأ مؤسسات خاصة بذلك داخل الفاتيكان تولت الدعوة لعدد من المؤتمرات واللقاءات بين القيادات الدينية في العالم، ثم توالت الحوارات والدعوات من مختلف المؤسسات والمنظمات والدول الإسلامية وغيرها.
والمتأمل في هذه القراءة التاريخية السريعة في تاريخ الحوار؛ لن تخطئ عينه رؤية ما قدمه الإسلام من نماذج حوارية فريدة منذ بعث النبي ، نماذج لم تتوقف في تاريخنا الطويل، وهي تدعونا لاستئناف الحوار الحضاري وتنشيطه من جديد، وأخذ زمام المبادرة إليه، استجابة لأمر الله تعالى، وتأسياً واتباعاً لنهج نبينا .
أنواع الحوار ومشروعيتها
إن المتتبع لتاريخ الحوار بين أهل الإسلام وغيرهم من أتباع الملل في القديم والحديث يجد أنواعاً ثلاثة من الحوار تتداخل فيما بينها أحياناً، وتفترق في أحايين أُخر.
وفي هذا المبحث نود الوقوف مع كل نوع منها وبيان حكمه وأهم موضوعاته وخصائصه.
أ. حوار الدعوة
وهو أهم أنواع الحوار وأعظمها، حيث عمد أنبياء الله وورثتُهم من العلماء والدعاة إلى حوار الكافرين بغية تعريفهم بدين الله وإنقاذهم به، فالحوار الدعوي أحد أعظم وسائل الدعوة إلى الإسلام، حيث يعمد المحاور المؤمن إلى تبيان مبادئ الإسلام وفضائله ويوضح لمحاوريه ما أعده الله للمؤمنين به من عظيم الأجر وحسن المثوبة، وما توعد به الكافرين من أليم عذابه وعقابه.
ولما كان لا يتصور رجوع الناس عن معتقداتهم وإلفهم لمجرد عظة سمعوها، إذ تثور في الأذهان تساؤلات تبحث عمن يجيب عنها، ويجلي الحق فيها، كان لا بد من الحوار.
لذا تتركز موضوعات حوار الدعوة حول التعريف بالله تبارك وتعالى وصفاته، وبالإيمان ونواقضه، وباليوم الآخر وسبيل النجاة والخلاص فيه.
ويمتاز حوار الدعوة عن غيره من أنواع الحوار بخصائص وسمات، منها:
– الهدف من حوار الدعوة، الدعوة إلى الإسلام والسعي إلى إقناع الآخرين بأن الإسلام هو دين الله الذي لا يقبل الله من العباد غيره.
– التركيز في مجادلة أهل الكتاب على القضايا العقدية الفاصلة، ومحاجتهم، ومناظرتهم، لدحض شبهاتهم، ونقض حججهم، بأسلوب علمي رفيق، ثم مباهلتهم إن لزم الأمر.
- أخذ المسلمين بزمام المبادرة في هذا اللون من الحوار، إذ هو استجابة لطبيعة دينهم، ويتحقق ذلك باستضافتهم في دار المسلمين، واستقبال وفودهم، والكتابة إليهم، وغشيانهم في محافلهم وبيوتهم لدعوتهم، إذ الدعوة والبلاغ واجب المسلم بمقتضى إسلامه.
- تغلب الصفة والعلاقات الشخصية على هذا اللون من ألوان الحوار الذي يبتعد عن الصفة الرسمية التي تغلب على حوار التعامل والتعايش كما سيتبين في حينه.
والمتتبع لما ورد ذكره في القرآن عن أحوال الأنبياء يظهر له أهمية هذا اللون من ألوان الحوار ، الذي لم تُغفِله دعوة نبي منهم أو مصلح ممن تبعهم بإحسان.
فها هو نوح عليه السلام يجادل ويحاور قومه قروناً طويلة، من غير كلل ولا ملل، دعاهم ليلاً ونهاراً، أسر لهم، وأعلن لهم جهاراً، فقالوا : يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين (هود: 32).
وعلى هذا الهدي سار أنبياء الله من بعد نوح، فقصَّ الله علينا في القرآن حوار إبراهيم مع النمرود، وحوار موسى مع فرعون، بل وذكر لنا الكثير من حوار الأنبياء مع أقوامهم.
قال ابن تيمية: " فأما المجادلة الشرعية كالتي ذكرها الله تعالى عن الأنبياء عليهم السلام وأمر بها في مثل قوله تعالى: )قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا( (هود: 32) وقوله: )وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه( (الأنعام: 83) وقوله: )ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه( (البقرة: 258) وقوله: )وجادلهم بالتي هي أحسن( (النحل: 125) وأمثال ذلك فقد يكون واجباً أو مستحباً، وما كان كذلك لم يكن مذموماً في الشرع".
وأرسل الله محمداً خاتم الرسل داعياً إلى الله ومبشراً بدينه، آمراً إياه بدعوة العالمين إلى هذا الدين: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن (النحل : 125).
وقد اعتبر العلماء المجادلة والمناظرة والحوار من واجبات الإسلام التي أوجبها الله على أهل العلم والبصيرة، واستدلوا بما سبق ذكره من نصوص قرآنية تحدثت عن أمر الله لأنبيائه بالحوار أو فعلهم عليهم الصلاة والسلام.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في سياق حديثه عن قول الله تعالى : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن (النحل : 125): "والدعاء إلى سبيل الرب بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن ونحو ذلك مما أوجبه الله على المؤمنين، فهذا واجب على الكفاية منهم. وأما ما وجب على أعيانهم، فهذا يتنوع بتنوع قدرهم وحاجتهم ومعرفتهم ".
وفي هذا الصدد يستدل ابن حزم على وجوب الجدال والمناظرة بقول النبي : ((جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم)). ويقول: "وهذا حديث في غاية الصحة، وفيه الأمر بالمناظرة وإيجابها كإيجاب الجهاد والنفقة في سبيل الله".
وبالنظر إلى آثار الحوار ونجاعة طريقته في نشر الحق يجزم ابن حزم بفضل هذا الأسلوب من أساليب الدعوة، ويراه أنجع من غيره من وسائل حماية الدعوة كالجهاد في سبيل الله، إذ "قد تُهزم العساكر الكبار، والحجة الصحيحة لا تُغلب أبداً، فهي أدعى إلى الحق، وأنصر للدين من السلاح الشاكي والأعداد الجمّة .. لأن السيف مرة لنا، ومرة علينا، وليس كذلك البرهان، بل هو لنا أبداً، ودامغ لقول مخالفينا، ومزهق له أبداً.
ورُبَّ قوة باليد قد دمغت بالباطل حقاً كثيراً، فأزهقته … وقد قتل أنبياء كثير وما غُلبت حجتهم قط ".
وفي المقابل، فإن "أفاضل الصحابة الذين لا نظير لهم؛ إنما أسلموا بقيام البراهين على صحة نبوة محمد عندهم، فكانوا أفضل ممن أسلم بالغلبة بلا خلاف من أحد المسلمين".
ويثني ابن حزم بدليل آخر، فيقول: "أول ما أمر الله عز وجل نبيه محمداً أن يدعو له الناس بالحجة البالغة بلا قتال، فلما قامت الحجة وعاندوا الحق أطلق الله تعالى عليهم السيف حينئذ، وقال تعالى: )قل فلله الحجة البالغة( (الأنعام: 149). وقال تعالى: )بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق( (الأنبياء: 18)".
يقول ابن تيمية: "فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه، ولا وفّى بموجب العلم والإيمان، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس، ولا أفاد كلامه العلم واليقين".
وكأني به - رحمه الله - يرد على ما سيقول الصفدي في ترجمته ، فقد قال: "وضيّع الزمان في رده على النصارى والرافضة ومن عاند الدين وناقضه، ولو تصدى لشرح البخاري أو لتفسير القرآن العظيم لقلّد أعناق أهل العلوم بدرِّ كلامه النظيم".
ويقول ابن القيم داعياً إلى محاورة أهل الكتاب: "جواز مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم، بل استحباب ذلك، بل وجوبه إذا ظهرت مصلحته من إسلام من يرجى إسلامه منهم وإقامة الحجة عليهم، ولا يهرب من مجادلتهم إلا عاجز عن إقامة الحجة، فليولِ ذلك إلى أهله، وليخلِ بين المطي وحاديها، والقوس وباريها ".
وأما موضوع الدعوة والحوار فإنه حول أصول الدين وسبيل سعادة الدارين: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون (آل عمران: 64).
قال الطبري : " قل يا محمد لأهل الكتاب - وهم أهل التوراة والإنجيل – تعالوا هلموا إلى كلمة سواء، يعني إلى كلمة عدل بيننا وبينكم، والكلمة العدل هي أن نوحد الله، فلا نعبد غيره، ونبرأ من كل معبود سواه، فلا نشرك به شيئاً.
وقوله: ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً يقول: ولا يدين بعضنا لبعض بالطاعة فيما أمر به من معاصي الله ويعظمه بالسجود له كما يسجد لربه، فإن تولوا يقول: فإن أعرضوا عما دعوتهم إليه من الكلمة السواء التي أمرتك بدعائهم إليها، فلم يجيبوك إليها، فقولوا أيها المؤمنون للمتولين عن ذلك: اشهدوا بأنا مسلمون ".
والنبي كانت دعوته ترجماناً واقعاً لما أمر الله تعالى به من دعوة، فقد دعا المشركين إلى الإسلام على اختلاف مذاهبهم ومللهم، وكان يدعوهم ويحاورهم، وخص أهل الكتاب بمزيد من عنايته، وكان أبرز هذه الحوارات حواره مع نصارى نجران، ومكاتباته لملوك الأرض.
كما كان رسول الله يغشى الناس في مجالسهم يدعوهم ويحاورهم، ومنه ما رواه الإمام أحمد من حديث عوف بن مالك قال: انطلق النبي يوماً وأنا معه، حتى دخلنا كنيسة اليهود بالمدينة يوم عيد لهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول الله : ((يا معشر اليهود أروني اثني عشر رجلاً يشهدون أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، يحبط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضبَ الذي غضب عليه)). قال: فأسكتوا، ما أجابه منهم أحد، ثم رد عليهم، فلم يجبه أحد، ثم ثلّث فلم يجبه أحد.
فقال: ((أبيتم، فوالله إني لأنا الحاشر، وأنا العاقب، وأنا النبي المصطفى، آمنتم أو كذبتم)).
ثم انصرف وأنا معه، حتى إذا كدنا أن نخرج، نادى رجل من خلفنا: كما أنت يا محمد. قال: فأقبل. فقال ذلك الرجل: أي رجل تعلمون فيكم يا معشر اليهود؟ قالوا: والله ما نعلم أنه كان فينا رجل أعلم بكتاب الله منك ولا أفقه منك ولا من أبيك قبلك ولا من جدك قبل أبيك.
قال: فإني أشهد له بالله أنه نبي الله الذي تجدونه في التوراة. قالوا: كذبت. ثم ردوا عليه قوله، وقالوا فيه شراً.
قال رسول الله : ((كذبتم، لن يقبل قولكم، أما آنفاً فتثنون عليه من الخير ما أثنيتم، ولما آمن كذبتموه، وقلتم فيه ما قلتم، فلن يقبل قولكم)).
قال: فخرجنا ونحن ثلاثة رسول الله وأنا وعبد الله بن سلام، وأنزل الله عز وجل فيه: قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين (الأحقاف: 10).
ومن صور الحوار في الصدر الأول ما يحكيه ثوبان رضي الله عنه، إذ يقول: كنت قائماً عند رسول الله ، فجاء حبر من أحبار اليهود فقال: السلام عليك يا محمد. فدفعتُه دفعة كاد يصرع منها. فقال: لم تدفعني؟ فقلت: ألا تقول: يا رسول الله؟ فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله. فقال رسول الله : ((إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي)). فقال اليهودي: جئت أسألك. فقال له رسول الله : ((أينفعك شيء إن حدثتك؟)) قال: أسمع بأذني. فنكت رسول الله بعود معه فقال: ((سل)).
فقال اليهودي: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال رسول الله : ((هم في الظلمة دون الجسر)).
قال: فمن أول الناس إجازة؟ قال: ((فقراء المهاجرين)).
قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: ((زيادة كبد النون)).
قال: فما غذاؤهم على إثرها؟ قال: ((ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها)).
قال: فما شرابهم عليه؟ قال: ((من عين فيها تسمى سلسبيلا)). قال: صدقت.
قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان؟ قال: ((ينفعك إن حدثتك؟)) قال: أسمع بأذني. قال: جئت أسألك عن الولد. قال: ((ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا منيُُّ الرجل منيَّ المرأة أذكرا بإذن الله، وإذا علا منيُّ المرأة منيَّ الرجل آنثا بإذن الله)).
قال اليهودي: لقد صدقت، وإنك لنبي، ثم انصرف فذهب، فقال رسول الله : ((لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه، وما لي علم بشيء منه، حتى أتاني الله به)).
إذاً نخلص إلى القول بأن حوار الدعوة واجب ديني تتابعت النصوص على الدعوة إليه، وهو مطلب أخلاقي يفرضه علينا رحمتنا بالآخرين، وحرصنا على هدايتهم، واستنقاذهم من أوضار الكفر والعقاب الأخروي.
ب. حوار التعامل
رأينا أن بقاء الاختلاف بين البشر في أديانهم ومللهم واقع، شاءه الله بمشيئته وإرادته الكونية، فكيف يتعايش المختلفون؟ وماهو الأسلوب الأمثل لبناء العلاقات البشرية؟ أوليس هو الحوار والتعايش والبحث عن القواسم الحياتية المشتركة؟
إن الضرورة الحياتية تؤزنا للبحث عن قواسم مشتركة نبني عليها علاقاتنا، وهو ما يملي على المختلفين في عقائدهم ومذاهبهم اللجوء إلى لون آخر من ألوان الحوار، وهو حوار التعامل، وهو حوار بعيد عن أصول الدين والمعتقد، حوار تفرضه السياسة الشرعية، وتمليه طبيعة التعايش بين البشر؛ بحكم الجوار والمصالح المتبادلة.
وقد بينت الشريعة بنصوصها أو بقواعدها العامة الأسس والضوابط المتعلقة بهذا اللون من ألوان الحوار.
وقد ظهر مثل هذا اللون من حوار التعامل والتقارب المعيشي منذ نشأة الدولة الإسلامية في المدينة، حيث عقد النبي عهوداً مع يهود المدينة، كما أبرم صلح الحديبية مع كفار قريش، وحوى الفقه الإسلامي بمذاهبه المختلفة تراثاً ضخماً في مجال العلاقات الدولية التي بينت للمسلمين أصول التعامل مع مختلف البشر.
ويركز هذا اللون من الحوار على النقاط المشتركة التي يتفق عليها المتحاورون، فيهدفون إلى تعميقها والتكاتف في سبيلها، وغالباً ما تصطبغ بالصبغة الأخلاقية أو المصلحية، كالحوار حول السلام العالمي والتعايش بين الأمم ومكافحة الشذوذ ومعالجة قضايا الانحلال الأخلاقي والتفكك الأسري.
وأبرز معالم هذا النوع من الحوار:
• الاعتراف بوجود الآخر واختياره للدين والمعتقد.
• الاعتراف باختلاف المتحاورين وخصوصية كل دين، ونبذ التوفيق والتلفيق بين أديان الأطراف المتحاورة.
• تجنب أو الحذر في البحث في المسائل العقدية الفاصلة، حفاظاً على استمرارية الحوار وضمان ديمومة التعاون على تحقيق القيم أو المصالح المشتركة.
• تجنب إطلاق الألفاظ المفسدة لأجواء الحوار، كإطلاق الكفر على المحاورين أو الحديث عن خلودهم في النار أو الطعن في مقدساتهم، وتجنب هذا ليس تسويغاً له البتة.
• إبراز أوجه التشابه والاتفاق بين الأطراف المتحاورة، والتركيز عليها لاستثمارها وتنميتها، وإقصاء أوجه التباين والافتراق لما لها من أثر سلبي على الحوار.
• الدعوة إلى معرفة الآخر كما يريد هو أن يُعرف، ورفع الأحكام المسبقة عنه، مع التأكيد على الدعوة إلى نسيان الماضي التاريخي، والاعتذار عن أخطائه، والتخلص من آثاره.
وهذا اللون من الحوار مشروع وجائز، فقد شهد النبي في شبابه حلف المطيبين الذين اتفقوا على رد المظالم وإعانة المظلوم، وهو لون من اللقاء حول أسباب التعايش.
وحين بُعث عليه الصلاة والسلام أكد مشروعية مثل هذا العمل النبيل والتزامه به فقال : (( ما شهدت من حلف إلا حلف المطيبين , وما أحب أن أنكثه، وأن لي حمر النعم))، وفي رواية أنه قال: (( ولو دعيت به اليوم في الإسلام لأجبت)). وفي رواية عزاها ابن كثير في السيرة إلى الحميدي: ((لو دعيت به في الإسلام لأجبت؛ تحالفوا أن ترد الفضول على أهلها، وألا يعز ظالم مظلوماًً)). فقد أقر اللقاء مع الكافر على مثل هذه القيمة النبيلة والخصلة الحميدة.
قال ابن حجر في الفتح: " وكان حلفهم أن لا يعين ظالم مظلوماً بمكة, وذكروا في سبب ذلك أشياء مختلفة محصلها: أن القادم من أهل البلاد كان يقدم مكة، فربما ظلمه بعض أهلها فيشكوه إلى من بها من القبائل، فلا يفيد , فاجتمع بعض من كان يكره الظلم ويستقبحه، إلى أن عقدوا الحلف , وظهر الإسلام وهم على ذلك ".
وقال القرطبي رحمه الله: "ذكر ابن إسحاق قال: اجتمعت قبائل من قريش في دار عبد الله بن جدعان لشرفه ونسبه، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه، حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، وهو الذي قال فيه الرسول : ((لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت))، وهذا الحلف هو المعنى المراد في قوله عليه السلام: ((وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة)) ، لأنه موافق للشرع إذا أمر بالانتصاف من الظالم".
قال المباركفوري : "قوله: (( أوفوا )) من الوفاء، وهو القيام بمقتضى العهد ((بحلف الجاهليّة)) أي العهود الّتي وقعت فيها، ممّا لا يخالف الشّرع لقوله تعالى: أوفوا بالعقود (المائدة: 1) لكنّه مقيّدٌ بما قال اللّه تعالى: وتعاونوا على البرّ والتّقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان (المائدة: 2)، (( فإنّه )) أي الإسلام (( لا يزيده )) أي حلف الجاهليّة الّذي ليس بمخالفٍ للإسلام (( إلّا شدّةً )) أي شدّة توثّقٍ، فيلزمكم الوفاء به".
قال ابن القيم: " وأمّا قول النّبيّ : ((شهدت حلفاً في الجاهليّة ما أحبّ أنّ لي به حمر النّعم , لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت))، فهذا - واللّه أعلم - هو حلف المطيّبين , حيث تحالفت قريش على نصر المظلوم , وكفّ الظّالم ونحوه , فهذا إذا وقع في الإسلام كان تأكيدًا لموجب الإسلام وتقوية له. وأمّا الحلف الّذي أبطله فهو تحالف القبائل : بأن يقوم بعضها مع بعض وينصره، ويحارب من حاربه , ويسالم من سالمه. فهذا لا يعقد في الإسلام".
قال ابن حجر : " ذكره ابن إسحاق وغيره , وكان جمع من قريش اجتمعوا فتعاقدوا على أن ينصروا المظلوم وينصفوا بين النّاس ونحو ذلك من خلال الخير , واستمرّ العمل بهذا الحلف بعد البعثة النبوية , ويستفاد من حديث عبد الرّحمن بن عوف أنّهم استمرّوا على ذلك في الإسلام , وإلى ذلك الإشارة في حديث جبير بن مطعم...".
ومما يؤكد ديمومة هذا الحلف في الإسلام أنه كان بين الحسين بن علي وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان منازعة في مال كان بينهما بذي المروة، فكان الوليد يتحامل على الحسين بن علي بسلطانه في حقه، فقال الحسين بن علي : أحلف بالله لتنصفني من حقي، أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله ، ثم لأدعون بحلف الفضول.
فقال عبد الله بن الزبير، وهو عند الوليد، حين قال الحسين ما قال : وأنا أحلف بالله لئن دعا بها لآخذن سيفي، ولأقومن عنده ومعه، حتى ينصف من حقه، أو نموت جميعاً".
وقد يشكل هنا قول النبي : ((لا حلف في الإسلام))، فيفهم منه قطع الحلف، وهذا المعنى غير صحيح، فالرواية في صحيح مسلم من حديث جبير بن مطعم: ((لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة)).
وتأكيداً لهذا الفهم نسوق رواية البخاري عن أنس بن مالك، لما سئل: أبلغك أن النبي قال: ((لا حلف في الإسلام))؟ قال: قد حالف النبي بين قريش والأنصار في داري.
قال الطبري: " ما استدل به أنس على إثبات الحلف لا ينافي حديث جبير بن مطعم في نفيه , فإنّ الإخاء المذكور كان في أوّل الهجرة ، وكانوا يتوارثون به , ثم نسخ من ذلك الميراث وبقي ما لم يبطله القرآن، وهو التّعاون على الحقّ والنّصر والأخذ على يد الظالم كما قال ابن عباس : إلا النصر والنصيحة والرفادة ويوصى له."
وقال القرطبي: "قال العلماء: فهذا الحلف الذي كان في الجاهلية هو الذي شده الإسلام، وخصه النبي عليه الصلاة والسلام من عموم قوله: ((لا حلف في الإسلام)) والحكمة في ذلك أن الشرع جاء بالانتصار من الظالم وأخذ الحق منه وإيصاله إلى المظلوم، وأوجب ذلك بأصل الشريعة إيجاباً عاماً على قدر من المكلفين، وجعل لهم السبيل على الظالمين، فقال تعالى: إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم (الشورى: 42)".
وقال ابن حجر: "ويمكن الجمع بأن المنفيّ ما كانوا يعتبرونه في الجاهليّة من نصر الحليف ولو كان ظالماً، ومن أخذ الثّأر من القبيلة بسبب قتل واحد منها، ومن التّوارث ونحو ذلك , والمثبت ما عدا ذلك من نصر المظلوم والقيام في أمر الدّين ونحو ذلك من المستحبّات الشّرعيّة كالمصادقة والمواددة وحفظ العهد".
وهكذا، فإن الأمة المسلمة لا تتوقف في حوارها مع الآخرين على القضايا الدينية، بل تمد أيديها إلى الآخرين ، وهي تسعى في حوارها إلى تحقيق المصالح المشتركة التي تنشدها الأطراف المختلفة ، عبر حوار التعامل والتعايش الذي يؤمِّن المزيد من الاستقرار والرخاء لشعوب الإنسانية، ويعين البشرية على تجاوز الكثير من الشرور على الصعيد الاجتماعي والأخلاقي والسياسي، وغيرها.
ج 0 حوار الوحدة
وهو الحوار الذي يهدف إلى إزالة الفروق والاختلافات العقدية والشعائرية بين المتحاورين وتمييع خصائص الأديان وتجاوزها تجاه وحدة الأديان والتقريب بينها.
وهذه الدعوة التلفيقية قديمة متجددة، ترعاها مؤسسات من مختلف الملل والنحل، ولكل منها أهدافه التي يرنو من خلالها إلى اجتذاب الآخرين وصهرهم في بوتقته.
ولعل من أبرز من ينادي بالوحدة بين الأديان؛ الحركة الماسونية بمناشطها ومؤسساتها المختلفة وامتداداتها المعاصرة، يقول محمد رشاد فياض رئيس محفل الشرف الأعظم الماسوني محققاً هدف الماسونية المزعوم المتمثل في الإخاء الإنساني: "الميمات الثلاثة في الموسوية والمسيحية والمحمدية يجتمعون [هكذا] في ميم واحدة هي ميم الماسونية، لأن الماسونية عقيدة العقائد.. وإن باءَيْ البوذية والبرهمية يجتمعان في باء البناء، بناء هيكل المجتمع الإنساني".
ووصل هذا الاتجاه التلفيقي إلى المسلمين أول ما وصل عن طريق غلاة الصوفية من القائلين بالحلول والاتحاد، كابن سبعين وابن هود والتلمساني .. حيث يجوزون التدين بمختلف الأديان، يقول ابن تيمية: " بل يجوزون التهود والتنصر، وكل من كان من هؤلاء واصلاً إلى علمهم فهو سعيد، وهكذا تقول الاتحادية منهم, كابن سبعين وابن هود والتلمساني ونحوهم، ويدخلون مع النصارى بيعهم، ويصلون معهم إلى الشرق، ويشربون معهم ومع اليهود الخمر، ويميلون إلى دين النصارى أكثر من دين المسلمين".
يقول ابن عربي:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إذا لم يكن دينه إلى ديني داني
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فـمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طـائف وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنّى توجهت ركائـبه فالحب ديني وإيمـاني
وقد كان جهل التتار بالإسلام سبباً في تبنيهم لهذه الدعوة أيضاً، يقول ابن تيمية رحمة الله عليه : "فهم يدعون دين الإسلام ويعظمون دين أولئك الكفار على دين المسلمين ويطيعونهم ويوالونهم أعظم بكثير من طاعة الله ورسوله وموالاة المؤمنين ... وكذلك الأكابر من وزرائهم وغيرهم يجعلون دين الإسلام كدين اليهود والنصارى، وأن هذه كلها طرق إلى الله بمنزلة المذاهب الأربعة عند المسلمين، ثم منهم من يرجح دين اليهود أو دين النصارى، ومنهم من يرجح دين المسلمين، وهذا القول فاش غالب فيهم حتى في فقهائهم وعبّادهم، لاسيما الجهمية من الاتحادية الفرعونية ونحوهم، فإنه غلبت عليهم الفلسفة، وهذا مذهب كثير من المتفلسفة أو أكثرهم".
ويقول رحمه الله: " وهذا من جنس جهال التتر أول ما أسلموا، فإن الإسلام عندهم خير من غيره، وإن كان غيره جائزاً ".
ثم دبَّت الحياة من جديد في فكرة وحدة الأديان على أيدي البهائية الباطنية، ثم جمال الدين الأفغاني ومدرسته العقلانية، فقد أسس محمد عبده، والقس الإنجليزي إسحاق تيلور، وجمال رامز بك (قاضي بيروت)، بمشاركة نفر من الإيرانيين، أسسوا جمعية سرية للتقريب بين الأديان في بيروت، وذلك عام (1301هـ/ 1883م).
يقول الأفغاني في الأعمال الكاملة: " هكذا نجد الأديان الثلاثة : الموسوية والعيسوية والمحمدية على تمام الاتفاق في المبدأ والغاية .. لقد لاح لي بارق أمل كبير: أن تتحد أهل الأديان الثلاثة مثل ما اتحدت الأديان في جوهرها وأصلها وغايتها".
ثم يشنع الأفغاني على الذين يصرون على اختلاف الأديان الذين أسماهم: "المزاربة الذين جعلوا كل فرقة بمنزلة حانوت، وكل طائفة كمنجم من مناجم الذهب والفضة، ورأس مال تلك التجارات ما أحدثوه من الاختلافات الدينية والطائفية والمذهبية".
وفي عام 1987م دعا المفكر الفرنـسي روجيــه جارودي ـ عقب إعلانه اعتناق الإسلام ـ إلى الملتقى الإبراهيمي في قرطبة، واتخذ من (القلعة الحرة) مقراً لمؤسسته ومتحفه ومناشطها التلفيقية التوحيدية.
يقول جارودي: "إنني عندما أعلنت إسلامي لم أكن أعتقد بأني أتخلى عن مسيحيتي ولا عن ماركسيتي، ولا أهتم بأن يبدو هذا متناقضاً أو مبتدعاً".
ويقول: "هذا النضال هو نضال كل أصحاب العقيدة أو المؤمنين بعقيدة، مهما يكن نوع إيمانهم، ولا يهمني ما يقوله الإنسان عن عقيدته: أنا مسلم، أو: أنا مسيحي، أو: أنا يهودي، أو: أنا هندوسي".
وأبرز معالم هذا الاتجاه من اتجاهات الحوار:
- اعتقاد كل طرف صحة إيمان الطرف الآخر، وتسويغه، من غير أن يقتضي ذلك الخروج عن المعتقد الأصلي.
- اعتقاد صحة جميع صور العبادات، فالكل يعتبرونه طريقاً موصلاً إلى رضا الله، لأنه تعظيم وعبادة لله، وعليه فلا يحكم على شيء من صور العبادة المختلفة بالبطلان.
- الاشتراك في صلوات وممارسات وطقوس تجمع بين أتباع الأديان في محل واحد، وذلك حرصاً على إزالة الفروق وتمييعها.
- تجنب البحث في المسائل المختلف عليها، والتي تظهر التناقض والاختلاف بين الفرقاء الذين يراد جمعهم في نسق واحد.
- اعتماد أسلوب التلفيق والتوفيق بين المتناقضات والمختلفات للوصول إلى صورة مشتركة، تتجاوز الاختلافات.
- تبادل التهاني والزيارات والمجاملات في المناسبات الدينية المختلفة.
وقد كان لعلماء الإسلام وقفات صارمة مع هذا الاتجاه التلفيقي أو التوفيقي بين الأديان، حيث رأوا مناقضته لأصول الإسلام ومبادئه، وأنه من المداهنة التي حرمها الله ورسوله، قال تعالى: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار (هود: 113)، قال أبو العالية: " لا ترضوا أعمالهم، فتمسكم النار " قـال ابن زيد: "الركون الإدهان، وقرأ: ودوا لو تدهن فيدهنون (القلم : 9)، قال: تركن إليهم، ولا تنكر عليهم الذي قالوا، وقد قالوا العظيم من كفرهم بالله وكتابه ورسله".
قال الطبري مبيناً ما في الآية من تحذير من اللين والمطاوعة في الدين: " ود هؤلاء المشركون يا محمد لو تلين لهم في دينك بإجابتك إياهم إلى الركون إلى آلهتهم، فيلينون لك في عبادتك إلهك".
ولا يخفى أن المداراة أو الرفق من آداب الإسلام في معاملة المخالفين، ولا يخفى على المحقق الفرق بينه وبين الإدهان المحرم، قال القرطبي في التفريق بينهما : "والفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معًا , وهي مباحة, وربما استُحبت , والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا ".
ومن صور المداهنة التي يقع بها المتحاورون في وحدة الأديان، تسميتهم للمعابد والكنائس بيوت الله، وهي إلى كفران الله وعصيانه أقرب.
قال شيخ الإسلام حين سئل عن تسمية البِيَع بيوت الله: "ليست بيوت الله، وإنما بيوت الله المساجد، بل هي [أي البيع] بيوت يكفر فيها بالله .. فالبيوت بمنزلة أهلها، وأهلها كفار، فهي بيوت عبادة الكفار".
لكن تلك المداهنة المحرمة دون الحكم بإيمان أهل الملل وتسويغ معتقداتهم،
أو حتى الارتياب في ثبوت كفرهم وبطلان عقائدهم وعباداتهم ، فإن الشك في كفرهم وفساد مذهبهم كفر مخرج من الملة.
يقول القاضي عياض: "ولهذا نكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام، واعتقده، واعتقد إبطال كل مذهب سواه، فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك".
يقول ابن تيمية: "ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وباتفاق جميع المسلمين أن من سوغ اتباع غير دين الإسلام، أو اتباع شريعة غير شريعة محمد فهو كافر، وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب".
وهكذا فإن الإسلام يرفض دعوات الحوار التي ترنو إلى إشاعة وحدة الأديان وصهرها ، ويراها ناقضاً من نواقض الإسلام.
وصدق الشاعر، وهو يصف حال أولئك الذين يرومون جمع النقائض:
أيها المنكح الثريا سهيلا عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت وسهيل إذا استقل يمان
وحدة الدين
إن من الضروري أن نفرق – في هذا الباب - بين وحدة الدين ووحدة الأديان، إذ وحدة الأديان دعوة للتلفيق بين الأديان المحرفة بما أضافه إليها البشر، فهو يهدف لصهر الحق في الباطل للوصول إلى صيغة مشتركة تجمع بينهما.
أما وحدة الدين فهي حقيقة لا مناص منها، إذ الدين الذي أرسل الله به جميع رسله دين واحد، هو الاستسلام لله وتوحيده جل وعلا.
فهذه لباب دعوة الأنبياء ومحورها، وعليه نستطيع القول بأن الإسلام والاستسلام لله هو دين الله الوحيد: ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين (آل عمران: 85).
وقد سجل القرآن هذا المعنى وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون (الأنبياء: 25).
فالتوحيد نداء الأنبياء، نبياً تلو نبي، إلى أقوامهم، فهو الأصل العظيم الذي نادى به نوح ودعا إليه هود وصالح وشعيب من بعده: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيره (المؤمنون: 23)، (هود: 50، 60)، (الأعراف: 85).
وفي مقابله حذر الأنبياء أقوامهم من الشرك ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين (الزمر: 65-66).
ومنه توعد المسيح قومه: وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصارٍ (المائدة: 72).
فهذا الدين العظيم حقيقته التوحيد والاستسلام لله تعالى، لذا أطبق الأنبياء على تسميته بالإسلام:
فأبو الأنبياء نوح يقول لقومه: وأمرت أن أكون من المسلمين (يونس: 72)، يقول ابن القيم: " فهذا نوح الذي غرق أهل الأرض بدعوته وجعل جميع الآدميين من ذريته يذكر أنه أمر أن يكون من المسلمين".
وإبراهيم يدعو ربه: ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمةً مسلمةً لك (البقرة: 128).
وإلى عبادة الله وتوحيده دعا لوط عليه السلام قومه، لكن النتيجة فما وجدنا فيها غير بيتٍ من المسلمين (الذاريات: 36).
وهذا الذي قرت به عين يعقوب قبل مماته إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون (البقرة: 133).
كما طلب موسى من قومه الإذعان لمقتضيات الإسلام الذي دخلوا فيه يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين (يونس : 84 )، فاستجاب لندائه سحرة فرعون وقالوا: ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين (الأعراف: 126).
وبمثل هذا دعا يوسف: توفني مسلماً وألحقني بالصالحين (يوسف: 101).
ولما دخلت ملكة سبأ بلاط سليمان نادت: رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين (النمل: 44).
وأنزل الله التوراة ليحكم بها أنبياء الله المسلمين: يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا (المائدة: 44).
فالدين عند الله واحد، اسمه الإسلام، وحقيقته الاستسلام لله بتوحيده وطاعته جل وعلا، وهذا فقط ما ينجي البشرية عند باريها: ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين (آل عمران: 85) فهذا الاسم اختاره الله لدينه وأوليائه: هو سماكم المسلمين من قبل ( الحج: 78).
وقال رسول الله : ((أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعَلّات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد)) ، قال ابن حجر: "ومعنى الحديث أن أصل دينهم واحد، وهو التوحيد، وإن اختلفت فروع الشرائع".
يقول ابن القيم: "فهؤلاء الأنبياء كلهم وأتباعهم، كلهم يذكر الله تعالى أنهم كانوا مسلمين، وهذا مما يبين أن قوله تعالى ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين (آل عمران: 85)، وقوله: إن الدين عند الله الإسلام (آل عمران: 19)، لا يختص بمن بعث إليه محمد ، بل هو حكم عام في الأولين والآخرين.
ولهذا قال تعالى: ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً واتخذ الله إبراهيم خليلاً (النساء: 125)، وقال تعالى: وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (البقرة: 111-112)".
قال شيخ الإسلام: " فدين الأنبياء واحد، وهودين الإسلام، كلهم مسلمون مؤمنون، كما قد بين الله في غير موضع من القرآن، لكن بعض الشرائع تتنوع ".
وصدق الله العظيم وهو يربط رسالته الخاتمة برسالاته السابقة: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه (الشورى: 13).
آداب الحوار
لن يجد المتأمل في آيات القرآن وهدي سيد الأنام كبير صعوبة في التوصل إلى آداب الحوار وأخلاقياته، فالقرآن أوضح بجلاء ما ينبغي على المسلم أن يتصف به وهو يحاور غير المسلمين، بينما كان هدي النبي ترجمان ذلك ومصداقه.
والآداب في هذا الباب كثيرة، منها:
1- القول الحسن أثناء الحوار
لما كان الحوار وسيلة من وسائل الدعوة والتعريف بالإسلام، توجب على الدعاة أن يتخلقوا حال دعوتهم بأخلاق الإسلام، ويجتنبوا السوء من القول، ويلتزموا الحسن منه، قال الله تعالى: وقولوا للناس حسناً (البقرة: 83).
قال القرطبي : " وهذا كله حض على مكارم الأخلاق، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس ليناً، ووجهه منبسطاً طلقاً مع البر والفاجر والسني والمبتدع مداهنة، أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه، لأن الله تعالى قال لموسى وهارون: فقولا له قولاً ليناً (طه: 44)، فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون، والفاجر ليس بأخبث من فرعون، وقد أمرهما الله تعالى باللين معه.
وقال طلحة بن عمر: قلت لعطاء: إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة، وأنا رجل فيّ حدة، فأقول لهم بعض القول الغليظ. فقال: لا تفعل، يقول الله تعالى: وقولوا للناس حسناً فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى ".
وقال الحسن : "لين القول من الأدب الحسن الجميل والخلق الكريم، وهو مما ارتضاه الله، وأحبه ... قال عطاء بن أبي رباح: من لقيت من الناس فقل له حسناً من القول ".
ويأمر الله عباده أن يقولوا التي هي أحسن: قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم (الإسراء: 53). قال القرطبي : " نزلت في عمر بن الخطاب، وذلك أن رجلاً من العرب شتمه وسبه، وهمّ بقتله، فكادت تثير فتنة، فأنزل الله تعالى فيه وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن "
قال الحسن: "هو أن يقول للكافر إذا تشطط: هداك الله، يرحمك الله.. وعلى هذا تكون الآية عامة في المؤمن والكافر، أي قل للجميع ".
قال ابن كثير: "وجادلهم بالتي هي أحسن، أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال، فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب.. فأمر تعالى بلين الجانب كما أمر به موسى وهارون عليهما السلام حين بعثهما إلى فرعون في قوله: فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى وقوله: إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله (النحل : 125) الآية، أي قد علم الشقي ".
ويلفت ابن تيمية النظر إلى أن الله قال: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن (النحل : 125)، فطلب الجدال بالتي هي أحسن، "ولم يقل بالحَسنة كما قال في الموعظة، لأن الجدال فيه مدافعة ومغاضبة، فيحتاج أن يكون بالتي هي أحسن، حتى يصلح ما فيه من الممانعة والمدافعة".
قال الشوكاني في تبيان معنى الحكمة: "أي بالمقالة المحكمة الصحيحة"، بينما فسّر الموعظة بأنها تلك "التي يستحسنها السامع، وتكون في نفسها حسنة باعتبار انتفاع السامع بها".
وإن من الحكمة والموعظة الحسنة أن لا نجبه من ندعوه بقولنا: يا كافر. في باب العيب واللمز ، وإن كنا لا نشك في كفره يقول نظام الحنفي: "لو قال ليهودي أو مجوسي: يا كافر. يأثم إن شق عليه" ، وذلك الإثم يلحق صاحبه لهجره الحكمة في الدعوة والتي هي أحسن في البلاغ.
2- الغض عن إساءة الآخر ومقابلتها بالإحسان
لا ريب أن اختلاف العقائد يورث الضغائن، وقد يصدر من اللسان ما يسوء المسلم سماعه، سواء ما كان متعلقاً بمعتقده أم بشخصه، وهذه الإساءة فرع عن الكفر الذي يتلبس به المحاور، فماذا يكون موقف المحاور المسلم؟ هل يغلق باب الحوار ويوقف مسار الدعوة، أم يتغاضى عن خطأ الآخر سياسة وصوناً لمصلحة الدعوة؟
لا ريب أن الموقف يفرض التصرف الأمثل الذي يسلكه الداعية تجاه هذا العدوان، إذ قد أذن الشرع برد العدوان : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين (النحل: 126)، قال القرطبي: " أيها المؤمنون من ظلمكم واعتدى عليكم، فعاقبوه بمثل الذي نالكم به ظالمكم، ولئن صبرتم عن عقوبته، واحتسبتم عند الله ما نالكم به من الظلم، ووكلتم أمره إليه حتى يكون هو المتولي عقوبته لهو خير للصابرين يقول: للصبر عن عقوبته بذلك خير لأهل الصبر احتساباً وابتغاء ثواب الله".
وفي الصبر على أخطاء المخالف يقول الله: ادفع بالتي هي أحسنُ السيئةَ نحن أعلم بما يصفون (المؤمنون: 96).
قال الطبري : "وخاصمهم بالخصومة التي هي أحسن من غيرها: أن تصفح عما نالوا به عرضك من الأذى، ولا تعصه في القيام بالواجب عليك من تبليغهم رسالة ربك".
ويقول ابن كثير: " أمر تعالى بمصانعة شيطان الإنس ومداراته بإسداء الجميل إليه، ليرده طبعه عما هو فيه من الأذى..".
ونقل الطبري عن مجاهد في سياق تفسيره لقوله تعالى: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن قولَه: "إن قالوا شراً، فقولوا خيراً: إلا الذين ظلموا منهم فانتصروا منهم".
وقال تعالى مبيناً للمؤمنين ما سيتعرضون له من أذى المشركين، وآمراً إياهم بالصبر والتقوى: )ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً( (آل عمران: 186).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فأمر سبحانه وتعالى بالصبر على أذى المشركين وأهل الكتاب مع التقوى .... وقد قال سبحانه وتعالى: )ولا يجرمنكم شنآن قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى( (المائدة: 8)، فنهى أن يحمل المؤمنين بغضهم للكفار على ألا يعدلوا عليهم... فهذا موضع عظيم المنفعة في الدين والدنيا..".
وفي آية أخرى أخبر الله بتنكب كثير من أهل الكتاب طريق الإيمان وإعراضهم عما تبين لهم من الحق، بل وصدهم عنه وحرصهم على إضلال المهتدين حسداً وبغياً ، وفي مقابله أمر الله بالعفو والصفح حتى يكون الجزاء في دار عدله : ] ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير [(البقرة :109). قال القرطبي: "والعفو ترك المؤاخذة بالذنب ، والصفح إزالة أثره من النفس".
وقد التزم أمر ربه فصبر على أذى المشركين وأعرض عنه، ولم يقابل إساءتهم بالمثل، وصور ذلك في سيرته كثيرة.
منها ما صنعه النبي مع اليهود الذين أتوا إليه يحاورونه، تقول عائشة رضي الله عنها: إن اليهود أتوا النبي فقالوا: السام عليك، قال: ((وعليكم))، فقالت عائشة: السام عليكم، ولعنكم الله، وغضب عليكم، فقال رسول الله : ((مهلاً يا عائشة، عليك بالرفق، وإياك والعنف أو الفحش)). قالت: أولم تسمع ما قالوا؟ قال: ((أولم تسمعي ما قلتُ؟ رددت عليهم، فيستجاب لي فيهم، ولا يستجاب لهم فيّ)).
ومثل هذا الأدب صنعه النبي حين قسم قسماً فقال رجل: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله، يقول ابن مسعود: فأتيت النبي فأخبرته، فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه، ثم قال: ((يرحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا، فصبر)).
ومن حسن المعاملة الإعراض ما أمكن عن المنازعة وأسبابها، ولو بالإعراض عن الإجابة، روى ابن مردويه وابن أبى حاتم بسندهما عن ابن عباس أن قريشاً دعوا رسول الله إلى أن يعطوه مالاً، فيكون أغنى رجل فيهم، ويزوجوه ما أراد من النساء، ويطأون عقبه أي يسودوه.
فقالوا: هذا لك عندنا يا محمد، وكفَّ عن شتم آلهتنا، فلا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة، وهي لك ولنا فيها صلاح، قال: ((ما هي؟)) قالوا تعبد آلهتنا سنة اللات والعزى، و نعبد إلهك سنة.
قال: ((حتى أنظر ما يأتيني من ربي)) فجاءه الوحي من الله من اللوح المحفوظ: قل يا أيها الكافرون [الكافرون: 1] إلى آخرها ".
و قوله في هذا الحديث: ((حتى أنظر ما يأتيني من ربي)) نوع من التلطف في الخروج من الموضوع.
قال ابن تيمية: "قد يقول هذا من يقصد به دفع الظالمين بالتي هي أحسن، ليجعل حجته أن الذي عليه طاعته قد منع من ذلك، فيؤخر الجواب حتى يستأمره، وإن كان هو يعلم أن هذا القول الذي قالوه لا سبيل إليه، وقد تخطب إلى الرجل ابنته فيقول: حتى أشاور أمها، وهو يريد أن لا يزوجها بذلك، و يعلم أن أمها لا تشير به، وكذلك قد يقول النائب: حتى أشاور السلطان ". فالإعراض عن الجواب نوع من التلطف وأدب من آداب الدعوة والحوار.
3- ترك الخوض فيما لا يحسنه
لعل من الضروريات التي لا يحسن بأحد تجاوزها عدم خوض المرء فيما لا يملك عليه بينة ولا برهاناً، والرزية أن يهرف المرء بما لا يعرف، وأن يقول ما لا يعلم، وهذا الذي نعاه القرآن على أهل الكتاب، وهو ذم لكل من صنع صنيعهم، قال الله تعالى: فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم (آل عمران: 66)، قال القرطبي : " دليل على المنع من الجدال لمن لا علم له، والحظر على من لا تحقيق عنده .. قد ورد الأمر بالجدال لمن علم وأيقن، فقال تعالى: وجادلهم بالتي هي أحسن ".
وقال تعالى: إن الذين يجـادلون فى ءايـات الله بغير سلطـان أتـاهم إن فى صدورهم إلا كبر مـا هم ببـالغيه فاستعذ بالله إنـه هو السميع البصير (غافر: 56).
وفي هذه الآيات تقريع من القرآن الكريم لأولئك الذين يخاصمون الأنبياء، ويلجون إلى الحوار دون دليل ولا برهان، ولأنهم لا يملكون علماً ولا حجة، فإنهم يعالجون مسائلهم بالهوى والجدال بالباطل والتكذيب والاستكبار عن قبول الحق.
والنبي - وهو أعلم الخلق - توقف في حواره مع أهل نجران حتى أتاه علم الله في المسألة التي يحاور فيها، إذ لما جاءه راهبا نجران عرض عليهما الإسلام، فقال أحدهما: إنا قد أسلمنا قبلك. فقال: ((كذبتما. إنه يمنعكما عن الإسلام ثلاثة: عبادتكم الصليب، وأكلكم الخنزير، وقولكم: لله ولد)).
قال [الحبر]: من أبو عيسى؟ وكان لا يعجل حتى يأتي أمر ربه، فأنزل الله تعالى: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (آل عمران: 59) )).
فالمشاركون في الحوار مدعوون لالتزام هذا الهدي النبوي، وعدم الخوض في قضايا الحوار المختلفة إلا ببينة من الله أو برهان من رسوله.
4- ترك المجال للمحاور بذكر معتقده
ولما كان الحوار يدور بين طرفين أو جهتين، فإنه من الطبيعي أن يعرب كل طرف عن معتقده، وأن يذكر ما يجول في خاطره من تساؤلات، يبحث عن إجابة لها، وقد يقع المحاور غير المسلم بما لم يعتده المسلم من أدب واحترام لشعائر الإسلام، فقد يذكر اسم النبي مجرداً، وقد يقول بأن القرآن من كلام محمد، أو أن المسيح هو الله، وغيرها مما يعتقده ويستنكره المسلم ويستقبحه، بل قد يرغب المحاور بممارسة طقوسه وعبادته، فهل يؤذن له بذلك طلباً لاستمرار الحوار وطمعاً في مصلحة غالبة؟
وفي الإجابة عنه نقول: وقع مثل هذا زمن النبي ، فقد قبِل من حَبر يهودي أن يخاطبه باسمه مجرداً من النبوة، إذ هو مما لا يعتقده محاوره، قال ثوبان: كنت قائماً عند رسول الله ، فجاء حبر من أحبار اليهود فقال: السلام عليك يا محمد. فدفعته دفعة كاد يصرع منها، فقال: لم تدفعني؟ فقلت: ألا تقول: يا رسول الله؟ فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله، فقال رسول الله : ((إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي... )).
وحين حاور النبي في مسجده بالمدينة وفد نصارى نجران الذي قدم على النبي في خمسة عشر رجلاً بقيادة أسقفهم أبي الحارث؛ أذن لهم النبي أن يقيموا صلاتهم في أحد أركان مسجده.
قال ابن القيم: "وفيها جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين، وفيها تمكين أهل الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين وفي مساجدهم أيضاً إذا كان ذلك عارضاً، ولا يمكنون من اعتياد ذلك ".
ويقول: "أما الآن فلا مصلحة للمسلمين في دخولهم مساجدَهم والجلوس فيها، فإن دعت إلى ذلك مصلحة راجحة جاز دخولها بلا إذن ".
ومن صور تسامح المسلمين في حوارهم مع أهل الكتاب تمكينهم من الإعراب عن عقائدهم ومحاورة المسلمين فيما يشكل عليهم فهمه من أمور الإسلام ، ومن ذلك أن المغيرة بن شعبة أتى أهل نجران "فقالوا: ألستم تقرؤون: يا أخت هارون (مريم: 28)، وقد علمتم ما بين موسى وعيسى. قال المغيرة: فلم أدر ما أجيبهم.
فرجعتُ إلى رسول الله فأخبرته. فقال: ((ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم)).
يقول ابن تيمية: " وهذا السؤال الذي هو سؤال الطاعن في القرآن لما أورده أهل نجران الكفار على رسول رسول الله ، ولم يجبهم عنه: أجاب عنه النبي ، ولم يقل لهم: ليس لكم عندي إلا السيف، ولا قال: قد نقضتم العهد إن كانوا قد عاهدوه، وقد عرف أن أهل نجران لم يرسل إليهم رسولاً إلا والجهاد مأمور به ".
وهكذا فالإفساح للمخالف في الإعراب عن دينه وممارسة شعائره لون فريد من ألوان التسامح الإسلامي، وهو أيضاً أدب آخر من آداب الحوار والجدال.
5- مداراة المحاور وإكرامه وحسن التعامل معه
ومن آداب الحوار حسن المعاملة مع المحاور، ومداراة المحاور الآخر وإكرامه وحسن استقباله، فعن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً استأذن على النبي فلما رآه قال: ((بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة)) فلما جلس تطلَّقَ النبي في وجهه وانبسط إليه.
فلما انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه، وانبسطت إليه فقال رسول الله : ((يا عائشة، متى عهدتني فحَّاشاً، إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره)).
وفي شرح الحديث ينقل ابن حجر عن القرطبي قوله: "في الحديث .. جواز مداراتهم اتقاء شرهم ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله تعالى ... والفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معًا , وهي مباحة, وربما استحبت , والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا , والنبي إنما بذل له من دنياه حسن عشرته والرفق في مكالمته ومع ذلك فلم يمدحه بقولٍ، فلم يناقض قوله فيه فعله , فإن قوله فيه قول حق , وفعله معه حسن عشرة ...".
وعقّب ابن حجر بقوله: " وهذا الحديث أصل في المداراة ".
ومن المداراة مناداة المحاورين غير المسلمين بما يليق بهم من ألقاب يستحقونها، وتحيتهم تحية مناسبة، كقوله : (( بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم )).
قال ابن حجر : "قوله: (( عظيم الروم )) فيه عدول عن ذكره بالملك أو الإمرة, لأنه معزول بحكم الإسلام , لكنه لم يخله من إكرام لمصلحة التألف..".
قال النووي: " ولم يقل : إلى هرقل فقط , بل أتى بنوع من الملاطفة فقال: ((عظيم الروم)) , أي الذي يعظمونه ويقدمونه , وقد أمر الله تعالى بإلانة القول لمن يدعى إلى الإسلام، فقال تعالى : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة (النحل: 125)، وقال تعالى : فقولا له قولاً ليناً (طه: 44) وغير ذلك".
وأيضاً من المداراة للآخرين الفعل الحسن، كعيادة مريضهم، وإكرام وفدهم، تأسياً بالنبي في صنيعه مع عدي بن حاتم الطائي وعكرمة بن أبي جهل قبل إسلامهما.
قال عدي بن حاتم: "أتيت رسول الله وهو جالس في المسجد، فقال القوم: هذا عدي بن حاتم. وجئتُ بغير أمان ولا كتاب، فلما دُفعتُ إليه أخذ بيدي .. حتى أتى بي داره، فألقت له الوليدة وسادة، فجلس عليها ".
ولما قدم عكرمة بن أبي جهل على النبي قال له : ((مرحباً بالراكب المهاجر))، وفي رواية الطبراني: فلما رآه النبي قام إليه، فاعتنقه، وقال: ((مرحباً بالراكب المهاجر)).
ومن قبل أحسن النبي معاملة أبيه على طغيانه وكفره، يقول المغيرة بن شعبة: إن أول يوم عرفت فيه رسول الله أني كنت أمشي مع أبي جهل بمكة، فلقينا رسول الله فقال له: ((يا أبا الحكم، هلم إلى الله وإلى رسوله وإلى كتابه، أدعوك إلى الله)). فناداه بأحب الأسماء إليه تألفاً لقلبه.
ومن المداراة وحسن التعامل مع الآخر صنيع مؤمن آل فرعون مع قومه، فقد كان يقول لهم مع كل نصيحة : يا قوم (غافر: 30، 32، 38، 39، 41). يتألفهم بذلك. قال القرطبي: "فقال: يا قوم ليكونوا أقرب إلى قبول وعظه".
فالمحاور المسلم يتأدب بالرفق و اللطف والمدارة، إذ الرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه.
6- التنـزل مع الخصم في الحوار ومجادلته بالحجج القريبة إليه
قال تعالى: وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين (سبأ: 24) قال القرطبي: "هذا على وجه الإنصاف في الحجة كما يقول القائل: أحدنا كاذب، وهو يعلم أنه صادق وأن صاحبه كاذب، والمعنى: ما نحن وأنتم على أمر واحد، بل على أمرين متضادين، وأحد الفريقين مهتد، وهو نحن، والآخر ضال، وهو أنتم".
ونقل القرطبي قول بعض أهل العلم : "وقد علم أنه على هدى، وأنهم على ضلال مبين، ولكنه رفق بهم في الخطاب، فلم يقل: أنا على هدى، وأنتم على ضلال".
ويعلمنا الله هذا الأدب في التعامل مع الآخرين، وهو يؤدب نبيه بقوله: قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين (الزخرف: 81)، قال القرطبي: "وقيل: المعنى: قل يا محمد: إن ثبت لله ولد فأنا أول من يعبد ولده، ولكن يستحيل أن يكون له ولد، وهو كما تقول لمن تناظره: إن ثبت ما قلت بالدليل، فأنا أول من يعتقده، وهذه مبالغة في الاستبعاد، أي لا سبيل إلى اعتقاده، وهذا ترقيق في الكلام كقوله: وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين (سبأ: 24)، والمعنى على هذا: فأنا أول العابدين لذلك الولد، لأن تعظيم الولد تعظيم للوالد ".
قال الطبري: " لم يكن على وجه الشك، ولكن على وجه الإلطاف في الكلام وحسن الخطاب، كما قال جل ثناؤه: قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين (سبأ: 24)، وقد علم أن الحق معه، وأن مخالفيه في الضلال المبين ".
ومثله صنيع إبراهيم عليه السلام من قبل، حيث قال لقومه: فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغةً قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريءٌ مما تشركون (الأنعام: 76-78).
قال الرازي: "هذه المباحثة إنما جرت مع قومه لأجل أن يرشدهم إلى الإيمان والتوحيد، لا لأجل أن إبراهيم كان يطلب الدين والمعرفة لنفسه".
وقوله عليه السلام عن الشمس والقمر والكوكب: هذا ربي إنما نوع من التدرج في إبطال ربوبيتها.
وقد ذكر الرازي وجوهاً في توجيه قول إبراهيم عليه السلام منها " أنه أراد أن يبطل قولهم بربوبية الكواكب، إلا أنه عليه السلام كان قد عرف من تقليدهم لأسلافهم وبُعد طباعهم عن قبول الدلائل؛ أنه لو صرح بالدعوة إلى الله تعالى لم يقبلوه ولم يلتفتوا إليه، فمال إلى طريق به يستدرجهم إلى استماع الحجة، وذلك بأن ذكر كلاماً يوهم كونه مساعداً لهم على مذهبهم بربوبية الكواكب، مع أن قلبه صلوات الله عليه كان مطمئناً بالإيمان، ومقصوده من ذلك أن يتمكن من ذكر الدليل على إبطاله وإفساده وأن يقبلوا قوله، وتمام التقرير أنه لما لم يجد إلى الدعوة طريقاً سوى هذا الطريق، وكان عليه السلام مأموراً بالدعوة إلى الله كان بمنزلة المكره على كلمة الكفر".
قال ابن القيم: " قاله على سبيل التقرير، لتقريع قومه أو على سبيل الاستدلال والترقي " ، وقال : "قيل: إنها على وجه إقامة الحجة على قومه، فتصور بصورة الموافق ليكون أدعى إلى القبول، ثم توسل بصورة الموافقة إلى إعلامهم بأنه لا يجوز أن يكون المعبود ناقصاً آفلاً ".
ودعا الله نبيه إلى تألف قلوب اليهود والنصارى ودعوتهم إلى الإسلام من خلال دعوتهم إلى محبب إليهم ، إلى اتباع ملة إبراهيم الذي يؤمنون به، وهي في الحقيقة دعوة كل الأنبياء، فقال: وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون (البقرة: 135-136).
قال الطبري: "احتج الله لنبيه محمد أبلغ حجة وأوجزها وأكملها، وعلَّمها محمداً نبيَه فقال: يا محمد، قل للقائلين لك من اليهود والنصارى ولأصحابك: كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا (البقرة: 135) : بل تعالوا فلنتبع ملة إبراهيم التي يجمِع جميعُنا على الشهادة لها؛ بأنها دين الله الذي ارتضاه واجتباه، وأمر به، فإن دينه كان الحنيفية المسلمة، ونَدَع سائر الملل التي نختلف فيها، فينكرها بعضنا، ويقر بها بعضنا، فإن ذلك على اختلافه لا سبيل لنا إلى الاجتماع عليه، كما لنا السبيل إلى الاجتماع على ملة إبراهيم".
ومن التنـزل مع الآخر والرفق في مجادلته مخاطبتُه باصطلاحاته ولغته، يقول ابن تيمية: "وأما مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم فليس بمكروه، إذا احتيج إلى ذلك، وكانت المعاني صحيحة، كمخاطبة العجم من الروم والفرس والترك بلغتهم وعُرفهم، فإنَّ هذا جائزٌ حسن للحاجة، وإنما كرهه الأئمة إذا لم يحتاجوا إليه".
وقال رحمه الله: "ولا ريب أن الألفاظ في المخاطبات تكون بحسب الحاجات كالسلاح في المحاربات، فإذا كان عدو المسلمين - في تحصنهم وتسلحهم - على صفة غير الصفة التي كانت عليها فارس والروم، كان جهادهم بحسب ما توجبه الشريعة التي مبناها على تحري ما هو لله أطوع وللعبد أنفع، وهو الأصلح في الدنيا والآخرة، وقد يكون الخبير بحروبهم أقدر على حربهم ممن ليس كذلك، لا لفضل قوته وشجاعته، ولكن لمجانسته لهم، كما يكون الأعجمي المتشبه بالعرب - وهم خيار العجم - أعلم بمخاطبة قومه الأعاجم من العربي ".
ويقول: "كما نتنـزل إلى اليهودي والنصراني في مناظرته، وإنْ كنا عالمين ببطلان ما يقوله اتباعاً لقوله تعالى: )وجادلهم بالتي هي أحسن( (النحل: 125) وقوله: )ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن( ( العنكبوت:46)، وإلا فعلمنا ببطلان ما يعارضون به القرآن والرسول ويصدون به أهل الإيمان عن سواء السبيل، وإن جعلوه من المعقول بالبرهان أعظم من أن يبسط في هذا المكان".
وقال الشيخ ابن سعدي: " فإن كان المدعو يرى أن ما هو عليه الحق أو كان داعية إلى الباطل، فيجادل بالتي هي أحسن، وهي الطرق التي تكون أدعى لاستجابته عقلاً ونقلاً، ومن ذلك الاحتجاج عليه بالأدلة التي كان يعتقدها، فإنه أقرب إلى حصول المقصود".
لكن هذا لا يعني موافقة الآخر على أصوله الباطلة قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والله تعالى لا يأمر المؤمنين أن يجادلوا بمقدمة يسلمها الخصم إنْ لم تكن علماً، فلو قُدرَ أنه قال باطلاً، لم يأمر الله أن يحتج عليهم بالباطل، لكنَّ هذا قد يفعل لبيان فساد قوله وبيان تناقضه، لا لبيان الدعوة إلى القول الحق ودعوة العباد إليه..".
7- إنصاف المخالف بذكر إيجابياته وموافقته فيما يصدر عنه من حق
المسلم رائده الحق، والحكمة ضالته، فهو يأخذها ويقر بها بلا غضاضة، من أي طريق جاءت، فالرسول قال لأبي هريرة عن الشيطان مصدر الشرور والآثام: ((صدقك، وهو كذوب، ذاك شيطان)).
وعلى هذا الأدب درج أصحاب النبي فأقروا لمخالفيهم ما عندهم من صور إيجابية، قال المستورد القرشي وهو عند عمرو بن العاص: سمعت رسول الله يقول: ((تقوم الساعة والروم أكثر الناس)). فقال له عمرو: أبصر ما تقول! قال: أقول ما سمعتُ من رسول الله .
قال: لئن قلت ذلك، إن فيهم لخصالاً أربعاً: إنهم لأحلَم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك.
ولا غرو في ذلك الإقرار للمخالف بمزيته، فقد أدبهم القرآن وصاغهم ، حين دعاهم إلى التزام العدل مع المخالفين ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى (المائدة: 2).
فقد قال تعالى مثبتاً بعض خصال الخير لأهل الكتاب: ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيلٌ ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون (آل عمران: 75).
وكذا أثنى النبي على النجاشي بما فيه من خِلال الخير، وهو يومئذ على الكفر، فقال لأصحابه: (( إن بالحبشة ملكاً لا يظلم عنده أحد , فلو خرجتم إليه حتى يجعل الله لكم فرجاً)).
وفي درس بليغ آخر يقبل النبي من يهودي نصيحته، ففي الحديث ترويه قتيلة بنت صيفي الجهنية قالت: أتى حبر من الأحبار رسولَ الله فقال: يا محمد، نِعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون؟ قال: (( سبحان الله! وما ذاك؟)) قال: تقولون إذا حلفتم: والكعبة.
قالت: فأمهل رسول الله شيئاً ثم قال: ((إنه قد قال [أي حقاً]، فمن حلف فليحلف برب الكعبة)).
وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول: "اقبلوا الحق من كل من جاء به، وإن كان كافراً – أو قال فاجراً – واحذروا زيغة الحكيم، قالوا: كيف نعلم أن الكافر يقول كلمة الحق؟ قال: إن على الحق نوراً".
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : " ولكنّ الحق يقبل من كل من تكلم به".
وهكذا فإن الحق رائد المحاور المسلم، كائناً من كان قائله، ورفض الحق والاستكبار عن قبوله من الآخر مجاف لآداب الإسلام، الذي يوصي المؤمنين: ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى (المائدة:2).
8- حسن الاستماع للمحاور الآخر
من أهم الآداب التي لا ينفك عنها الحوار؛ حسنُ الاستماع للمحاور الآخر، إذ لا يمكن تحقيق المرجو من الحوار إذا كان من طرف واحد، بل لا يمكن تسميته حينذاك حواراً، ولا يخفى أن المحاور المسلم سيسمع من محاوره نصرة لدينه الباطل وكفراً بالمعتقد الحق الذي يدعو هو إليه، لكن سماعه لذلك ضروري ليُسمع الآخرين هدي الله.
وقد جلس النبي إلى عتبة بن ربيعة يستمع إليه، وهو يعرض على النبي حطاماً من الدنيا، ويطلب منه التخلي عن دعوته ودينه في مقابلها، يقول ابن هشام: "حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله يستمع منه قال: ((أقد فرغت يا أبا الوليد؟)) قال: نعم. قال: ((فاسمع مني)) قال: أفعل ".
ومن هذا الأدب السامي استلهم عطاء بن أبي رباح خصلة من خصال الخلق الجم، فيقول : " إن الرجل ليحدثني بالحديث، فأنصت له، كأني لم أسمعه، وقد سمعته قبل أن يولد".
ولا ريب أن تخلق المحاور المسلم بهذه الآداب واجب شرعي، وهو أدعى إلى قبول دعوته وسماع حجته، فالدعوة إلى الإسلام بالحوار والجدال ينبغي أن تكون منضبطة بالوسائل والآداب الشرعية التي رأيناها في كتاب الله وسنة رسوله .
هل آيات الأمر بالدعوة والجدال والحوار منسوخة بآية السيف؟
لكن ما سقناه من آيات كريمة تحث على جدال المشركين بالتي هي أحسن، وتأمر المسلمين بحسن دعوتهم يراه بعض أهل العلم منسوخاً بآية السيف، وهي قوله تعالى : وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة (التوبة: 36)، حيث جعلت الآية - حسب رأيهم - شِرعة الجهاد وسيلة الدعوة للكفار، وحين تخضع أو تزول دولتهم وتذل بالجزية رقابهم، حينئذ يستيقظ ما غاب عنهم من عقولهم وما انطمس من فطرهم.
وقال ابن عطية في تفسيره لآية السيف : " وهذه الآية نسخت كل موادعة في القرآن أو ما جرى مجرى ذلك، وهي على ما ذكر مائة آية وأربع عشرة آية".
وهذا الرأي على شهرته في كتب التفسير تضعفه أمور:
- أن النسخ يتضمن رفع حكم شرعي ثبت بدليل شرعي، فلا يصح هذا الرفع والنسخ إلا بدليل معتبر شرعاً، يقول الشاطبي: "إن الأحكام إذا ثبتت على المكلف، فادعاء النسخ فيها لا يكون إلا بأمر محقق، لأن ثبوتها على المكلف أولاً محقق، فرفعها بعد العلم بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقق.
ولذلك أجمع المحققون على أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن ولا الخبرَ المتواتر؛ لأنه رفع للمقطوع به بالمظنون. فاقتضى هذا أن ما كان من الأحكام المكية يدعى نسخه، فلا ينبغي قبول تلك الدعوى فيه إلا مع قاطع بالنسخ، بحيث لا يمكن الجمع بين الدليلين، ولا دعوى الإحكام فيهما. وهكذا يقال في سائر الأحكام، مكية كانت أو مدنية".
ونقل السيوطي عن ابن الحصار الأنصاري قوله: "إنما يرجع في النسخ إلى نقل صريح عن رسول الله ، أو عن صحابي يقول: آية كذا نسخت آية كذا".
ثم ذكر السيوطي أمراً آخر يدفع العلماء إلى القول بالنسخ، وهو تعارض النصوص، الذي لا سبيل للجمع فيه، يقول: "وقد يحكم به عند التعارض المقطوع به، مع علم التاريخ، لنعرف المتقدم والمتأخر.. ولا يعتمد في النسخ قول عوامّ المفسرين، بل ولا اجتهاد المجتهدين من غير نقل صحيح، ولا معارضة بيّنة، لأن النسخ يتضمن رفع حكم، وإثبات حكم تقرر في عهده . والمعتمد فيه: النقل والتاريخ، دون الرأي والاجتهاد".
ويسوق ابن حزم ضابطاً ثالثاً لصحة ادعاء النسخ، ألا وهو الإجماع، فيقول: "فإذا اجتمعت علماء الأمة كلهم بلا خلاف من واحد منهم على نسخ آية أو حديث، فقد صح النسخ حينئذ".
أما إذا لم يحصل الإجماع - كما في مسألتنا – فإنه لا يُصار إلى النسخ إلا "إن وجدنا الأمرين لا يمكن استعمالهما معاً، أو وجدنا أحدهما كان بعد الآخر بلا شك، أو وجدنا نصاً جلياً يصرح بالنسخ، ووجدنا نصاً في ذلك من نهي بعد أمر، أو أمر بعد نهي".
أما إذا لم تقترن دعوى النسخ بدليلها، فإن ابن حزم يرد هذا، وينكره، فيقول: "لا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول في شيء من القرآن والسنة: هذا منسوخ إلا بيقين؛ لأن الله عز وجل يقول: وما أرسلنا من رسولٍ إلا ليطاع بإذن الله (النساء: 64) وقال تعالى: اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم (الأعراف: 3).
فكل ما أنزل الله تعالى في القرآن أو على لسان نبيه، ففرضٌ اتباعه، فمن قال في شيء من ذلك: إنه منسوخ، فقد أوجب ألا يطاع ذلك الأمر، وأسقط لزوم اتباعه، وهذه معصية لله تعالى مجردة وخلاف مكشوف، إلا أن يقوم برهان على صحة قوله، وإلا فهو مفترٍ مبطل... ولا يجوز لنا أن نسقط طاعة أمر، أمرنا به الله تعالى ورسوله، إلا بيقين لا شك فيه".
أما القرطبي فيكتفي بذمِّ هذا الصنيع وتخطئة صاحبه، إذ يقول: "الناس في هذا بين طرفي نقيض، فمن قائل: لا يقبل في النسخ أخبار الآحاد العدول، ومن تساهل يكتفي فيه بقول مفسر أو مجتهد، والصواب خلاف قولهما".
ثم إن علماء التفسير وهم ينقلون دعوى نسخ هذه الآيات نقلوا أقوال محققي أهل العلم في إحكام تلك النصوص، يقول الطبري في سياق تفسير قوله تعالى: ولا تجادلوا أهل الكتاب (العنكبوت: 146): " لا معنى لقول من قال: نزلت هذه الآية قبل الأمر بالقتال، وزعم أنها منسوخة، لأنه لا خبر بذلك يقطع العذر، ولا دلالة على صحته من فطرة عقل، وقد بينا في مواضع من كتابنا: أنه لا يجوز أن يحكم على حكم الله في كتابه بأنه منسوخ إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل".
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ما ذكره الله تعالى من مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا محكم لم ينسخه شيء، وكذلك ما ذكره تعالى من مجادلة الخلق مطلقاً بقوله : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن (النحل: 125).
فإن من الناس من يقول: آيات المجادلة والمحاجة للكفار منسوخات بآية السيف لاعتقاده أن الأمر بالقتال المشروع ينافي المجادلة المشروعة، وهذا غلط، فإن النسخ إنما يكون إذا كان الحكم الناسخ مناقضاً للحكم المنسوخ، كمناقضة الأمر باستقبال المسجد الحرام في الصلاة للأمر باستقبال بيت المقدس بالشام …
وقوله: )ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن( (العنكبوت: 46)، فهذا لا يناقضه الأمر بجهاد من أمر بجهاده منهم، ولكن الأمر بالقتال يناقض النهي عنه والاقتصار على المجادلة، فأما مع إمكان الجمع بين الجدال المأمور به والقتال المأمور به فلا منافاة بينهما، وإذا لم يتنافيا، بل أمكن الجمع لم يجز الحكم بالنسخ، ومعلوم أن كلاً منهما ينفع حيث لا ينفع الآخر، وأن استعمالهما جميعاً أبلغ في إظهار الهدى ودين الحق".
ويستدل شيخ الإسلام لقوله بإحكام آيات الجدال بفعل النبي ومحاجته للمشركين قبل نزول آية السيف وبعدها " وإذا كان النبي يحاج الكفار بعد نزول الأمر بالقتال، وقد أمره الله تعالى أن يجير المستجير حتى يسمع كلام الله، ثم يبلغه مأمنه، والمراد بذلك تبليغ رسالات الله وإقامة الحجة عليه، وذلك قد لا يتم إلا بتفسيره له، الذي تقوم به الحجة، ويجاب به عن المعارضة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، علم بطلان قول من ظن أن الأمر بالجهاد ناسخٌ الأمر بالمجادلة مطلقاً ".
وأيضاً فإن ابن حزم يرى آيات الجدال محكمة، بل يعتبرها نوعاً من الجهاد المأمور به: "وأما مجاهدة الكفار باللسان فما زال مشروعاً من أول الأمر إلى آخره، فإنه إذا شرع جهادهم باليد، فباللسان أولى، وقد قال : ((جاهدوا المشركين بأيديكم وألسنتكم وأموالكم))".
ويستدل لرأيه أيضاً بأن النبي "كان ينصب لحسان منبراً في مسجده يجاهد فيه المشركين بلسانه جهاد هجو، وهذا كان بعد نزول آيات القتال".
وهذا هدي رسول الله حتى وفاته، وعليه سار أصحابه من بعده، فإن "رسول الله لم يزل في جدال الكفار على اختلاف مللهم ونحلهم إلى أن توفي، وكذلك أصحابه من بعده، وقد أمره سبحانه بجدالهم بالتي هي أحسن في السور المكية والمدنية.. وبهذا قام الدين، وإنما جعل السيف ناصراً للحجة".
وفي سياق شرح قوله تعالى: لكم دينكم ولي دين (الكافرون: 6)، وهي آية زعم بعض أهل العلم انها منسوخة بآية السيف، وذلك أنهم فهموا منها إقراراً للمشركين على شركهم، نُسٍخ بجهادهم وقتالهم، يقول ابن القيم: " إن هذه الأخبار بأن لهم دينهم وله دينه, هل هو إقرار فيكون منسوخاً أو مخصوصاً؟ أو لا نسخ في الآية ولا تخصيص؟ فهذه مسألة شريفة من أهم المسائل المذكورة.
وقد غلط في السورة خلائق، وظنوا أنها منسوخة بآية السيف، لاعتقادهم أن هذه الآية اقتضت التقرير لهم على دينهم، وظن آخرون أنها مخصوصة بمن يُقَرون على دينهم، وهم أهل الكتاب، وكلا القولين غلط محض، فلا نسخ في السورة ولا تخصيص، بل هي محكمة...
ومنشأ الغلط ظنّهم أن الآية اقتضت إقرارهم على دينهم، ثم رأوا أن هذا الإقرار زال بالسيف, فقالوا: منسوخ...ومعاذ الله أن تكون الآية اقتضت تقريراً لهم أو إقراراً على دينهم أبداً، بل لم يزل رسول الله - في أول الأمر وأشده عليه وعلى أصحابه - أشد على الإنكار عليهم، وتعييب دينهم وتقبيحه والنهي عنه، والتهديد والوعيد كل وقت وفي كل ناد، وقد سألوه أن يكف عن ذكر آلهتهم وعيب دينهم ويتركوه وشأنه, فأبى إلاّ مضياً على الإنكار عليهم وعيب دينهم، فكيف يقال: إن الآية اقتضت تقريره لهم؟
معاذ الله من هذا الزعم الباطل، وإنما الآيـة اقتضت البراءة المحـضة - كما تقدم -، وأن ما هم عليه من الدين لا نوافقهم عليه أبداً؛ فإنه دين باطل، فهو مختص بكم لا نشرككم فيه، ولا أنتم تشركوننا في ديننا الحق، فهذه غاية البراءة والتنصل من موافقتهم في دينهم، فأين الإقرار حتى يدعى النسخ أو التخصيص؟...
بل هذه آية قائمة محكمة ثابتة بين المؤمنين والكافرين إلى أن يُطهِر الله منهم عباده وبلاده".
ويسوق القرطبي حجة لمن أثبت الإحكام لبعض هذه الآيات، فيقول: "والحجة لهذا القول ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية: أسلمي تسلمي، إن الله بعث محمداً بالحق قالت: أنا عجوز كبيرة والموت أقرب إليّ ! فقال عمر: اللهم أشهد، وتلا: لا إكراه في الدين (البقرة: 256). ، فاستشهاد عمر بالآية دليل على أنه يراها محكمة.
ومثله صنع عمر مع مملوكه أسبق فقد روى ابن أبي حاتم بإسناده عن أسبق قال: كنت في دينهم مملوكاً نصرانياً لعمر بن الخطاب، فكان يعرض علي الإسلام، فآبى، فيقول: لا إكراه في الدين ويقول: (يا أسبق، لو أسلمتَ لاستعنّا بك على بعض أمور المسلمين).
وأكد ذلك رضي الله عنه في عهدته المشهورة لأهل القدس، فقد جاء فيها " هذا ما أعطى عبد الله عمر بن الخطاب - أمير المؤمنين - أهل إيليا من الأمان: أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها: ألا تسكن كنائسهم ولا تهدم ، ولا ينتقص منها، ولا من خيرها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم ، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم..".
وبخصوص آية السيف، فإن العلماء لهم فيها تأويلات سوى تأويلها المشهور، فقد فسرها الطبري بأنها دعوة للوحدة في وجه المشركين، لا أنها تدعو لقتالهم أجمعين، يقول الطبري: "يقول جل ثناؤه: وقاتلوا المشركين بالله – أيها المؤمنون – جميعاً غير مختلفين، مؤتلفين غير مفترقين، كما يقاتلكم المشركون جميعاً، مجتمعين غير مفترقين".
ونقل عن ابن عباس وقتادة والسدي أقوالاً في ذلك، فالآية - وفق تفسيره - ليست أمراً بشن الحرب على الكفار جميعاً، بل دعوة للتناصر والوحدة في وجه العدو الذي يقاتلنا مجتمعاً.
والقول بنسخ آيات الجدال يعارضه قول طائفة من العلماء من التابعين وغيرهم، يرون آيات الجدال محكمة، ومنه قول مجاهد عن قوله تعالى: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن قال: "هي محكمة، فيجوز مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن على معنى الدعاء لهم إلى الله عز وجل والتنبيه على حججه وآياته رجاء إجابتهم إلى الإيمان، لا على طريق الإغلاظ والمخاشنة، وقوله على هذا إلا الذين ظلموا منهم معناه: ظلموكم، وإلا فكلهم ظلم على الإطلاق...".
ثم ساق القرطبي قول القائلين بالنسخ، وأتبعه بقوله: "وقول مجاهد حسن، لأن أحكام الله عز وجل لا يقال فيها: إنها منسوخة؛ إلا بخبر يقطع العذر أو حجة من معقول، واختار هذا القول ابن العربي".
قال ابن تيمية: "فهذا مجاهد لا يجعلها منسوخة، وهو قول أكثر المفسرين".
ومن هؤلاء المفسرين ابن كثير، فهو أيضاً يميل إلى رد دعوى النسخ في آيات جدال الكفار، فيقول: "بل هي باقية محكمة لمن أراد الاستبصار منهم في الدين، فيجادل بالتي هي أحسن، ليكون أنجع فيه، كما قال تعالى: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة الآية، وقال تعالى لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون: فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى، وهذا القول اختاره ابن جرير، وحكاه عن ابن زيد".
وقال ابن الجوزي: "وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف، وفيه بُعد، لأن المجادلة لا تنافي القتال، ولم يقل له: اقتصر على جدالهم، فيكون المعنى: جادلهم، فإن أبوا فالسيف، فلا يتوجه نسخ".
- وكذا ادعى بعض أهل العلم النسخ في قوله تعالى: فإنما عليك البلاغ (آل عمران:20)، لكن غيرهم من العلماء ضعفوه وخالفوهم فيه، وردوا عليهم دعواهم لعدم الدليل عليها. قال القرطبي: " أي: إنما عليك أن تبلغ، قيل: إنه مما نسخ بالجهاد. وقال ابن عطية: وهذا يحتاج إلى معرفة تاريخ نزولها ".
- وقد ادعوا النسخ أيضاً في قوله تعالى: وإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين (النحل: 82)، قال ابن الجوزي: "ذهب بعض المفسرين إلى أن هذا الكلام اقتضى الاقتصار على التبليغ دون القتال، ثم نسخ بآية السيف، وقال بعضهم: لما كان حريصاً على إيمانهم مزعجاً نفسه في الاجتهاد في ذلك سكّن جأشه بقوله: إنما أنت نذير (هود: 12) و فإنما عليك البلاغ ، والمعنى: لا تقدر على سوق قلوبهم إلى الصلاح، فعلى هذا لا نسخ".
- وقال ابن الجوزي عن آية سورة الرعد فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب (الرعد: 40): "قالوا: نسخ بآية السيف، وعلى ما سبق تحقيقه في نظائرها لا وجه للنسخ".
- وادعى بعض أهل العلم نسخ قوله تعالى: لست عليهم بمسيطر (الغاشية: 22)، فقال ابن الجوزي: "وقد قال بعض المفسرين في معناها: لست عليهم بمسلط، فتكرههم على الإيمان، فعلى هذا لا نسخ...".
- وادعى بعض أهل العلم أيضاً نسخ آية سورة التين، وهي قوله : أليس الله بأحكم الحاكمين (التين: 8)، فقالوا: "نسخ معناها بآية السيف، لأنه ظن أن معناها: دعهم وخلِّ عنهم، وليس الأمر كما ظن، فلا وجه للنسخ".
وبهذا البيان تبين أن القول بنسخ آيات الجدال دعوى لا تقبل إلا ببرهان قاطع، لأن النسخ دعوى لرفع لوجوب العمل في بعض أمر الله، ولا يصار إلى مثل هذا إلا بدليل معتبر يكافئه.
ومثل هذا الدليل لم نجده عند أولئك الذين ادعوا نسخ آيات الجدال بالجِلاد ، بل هم محجوجون بفعل الصحابة ثم إطباق العلماء على إحكام هذه النصوص وعدم رفع أحكامها.
محظورات في الحوار
ينظر الكثيرون من الغيورين إلى الحوار نظرة المتشكك المرتاب في أهدافه ومقاصده، كما لا تخطئ عيونهم رؤية بعض الأخطاء التي يقع فيها المحاورون من المسلمين، مما يعزز اعتقادهم بعدم جدوى الحوار لغلبة مفاسده.
ويرى المتشككون في الحوار أن منطلقات الحوار تدعو للريبة، وأن الذي دفع الغرب بمؤسساته المختلفة تجاه الحوار انفتاح شعوبه على الإسلام، واعتناق ألوف منهم إياه؛ ورأت تلك المؤسسات أن لا جدوى من المجابهة والتحدي، فلجؤوا إلى الحوار للظهور بمظهر الِندّ، لا المهزوم، والموافق لا المجابه، ولعلهم بذلك يطفؤون روح التشوّف إليه لدى رعاياهم، ويُثبتون فيهم هامشية الفروق بين الأديان، وعليه فإن الواجب يفرض علينا تفويت الفرصة عليهم والامتناع عن معونتهم في بلوغ غاياتهم من الحوار.
ومما عمّق هذا الشعور المرتاب أن المؤسسات الكنسية صرحت بنيّتها استغلال الحوار، وجعله وسيلة للتبشير، يقول الدستور الرعوي الصادر عن المجمع الفاتيكاني الثاني: "تبدو الكنيسة رمز هذه الإخوة التي تنتج الحوار الصادق وتشجعه، وذلك بفعل رسالتها التي تهدف إلى إنارة المسكونة كلها بنور البشارة الإنجيلية".
كما أصدرت الكنيسة الكاثوليكية وثيقة بعنوان: (حوار وبشارة) عام 1991م، جاء فيها: "إن المسيحين وهم يعتمدون الحوار بروح منفتح مع أتباع التقاليد الدينية الأخرى؛ يستطيعون أن يحثوهم سلمياً على التفكير في محتوى معتقدهم ... ".
وأما مجلس الكنائس العالمي البروتستنتي فقد صرح بالدعوة إلى استغلال الحوار للتبشير في كتاب (توجيهات للحوار)، وفيه: "يمكننا بكل صدق أن نحسب الحوار كإحدى الوسائل التي من خلالها تتم الشهادة ليسوع المسيح في أيامنا".
لكنا نلفت النظر إلى أن الحوار الذي تشير إليه الكنيسة ليس الحوار الذي تديره المؤسسات العلمية والثقافية التي لا يمكن التأثير عليها، فمثل هؤلاء الحوار معهم محبذ ومحمود، لكن الحوار الذي تنشده الكنيسة وتمارسه حقيقة في كثير من المواطن هو الحوار مع دهماء المسلمين وعامتهم، وهو ما قد ينجح فيه التبشير ويحقق ما يحذره المتشككون والرافضون لمشروع الحوار.
كما يحجم المتشككون في مصداقية جولات الحوار السابقة عن المشاركة في جولاته اللاحقة لما يرونه من مشاركة بعض الأطراف الإسلامية التي لا يخلو منهجها من دخن كالعصرانيين وغيرهم ممن لا يعبرون عن الموقف الإسلامي الأصيل في قضايا الحوار، ولعل من أهم أسباب اتساع هذه المثلبة تباعد الغيورين عن هذا الميدان الذي تضمن مشاركتهم فيه ظهور الموقف الإسلامي الناصع المبني على هدي الكتاب والسنة.
وينقل الدكتور أحمد سيف التركستاني بعض حجج المانعين من الحوار، إذ يرون "أن الحوار يقود إلى الفتنة والصدام" ، وقاعدة سد الذرائع - حسب رأيهم - تبرر الإعراض عن المشاركة في الحوار، وهذه الحجة يراها الدكتور التركستاني نوعاً من تغييب الحقيقة، ويرى أن تجاوزها ممكن، إذا أخذنا "بشروط الحوار الصحيح الخالي من الجدل العقيم أو غير الملتزم بآداب الحوار".
كما يحجم البعض عن المشاركة في الحوار لأنه "يعطي الفرصة لتلميع الآراء الباطلة" وهذا تعميم لا يوافق عليه الدكتور التركستاني ، إذ يرى "الغالب أن الآراء الباطلة إنما تكتسب بريقها إذا انفردت بالأجواء والأضواء ، بعيداً عن الاعتراض عليها والتصدي لها بالحوار"، ويصل إلى نتيجة مفادها أن "الحوار يعطي الفرصة لتوهين الآراء الباطلة وخفض درجة توهجها وبريقها ، وذلك بما يكشفه من الحق المناقض لها ومن الباطل المنطوي فيها".
وإذ نسجل هذه الاعتراضات وتلك النظرات المتشككة في مصداقية الحوار، فإننا نرى ضعفها وعدم كفايتها في تغييب صوت الحق عن مجالس الحوار والنقاش، وما تؤدي إليه من تصحيح للمفاهيم الخاطئة وتحييد لبعض القوى والمؤسسات المعادية للإسلام، بل واجتذاب غير المسلمين ودعوتهم إلى دين الله القويم.
وفراراً من الوقوع في أخطاء الماضي ، وسعياً للوصول إلى صورة منضبطة بآداب الشرع نعرض لبعض الأخطاء والمحظورات التي ترتكب في الحوار:
1- الوقوع في المداهنة
لما كانت ملتقيات الحوار بعموم أنواعها تهدف إلى استثمار العلاقات الإنسانية كان لابد أن تتسم لقاءاتها بالكثير من المجاملة التي يحاول المتحاورون من خلالها تغييب الكثير من الشقاق الذي تكنه عقولهم وقلوبهم للآخرين.
وقد رأينا كيف أمرنا رسولنا ببسط الوجه وحسن اللقاء، وكيف صنع مع أساطين الكفر وصناديد الشرك.
لكن المجاملة والمراءاة قد تؤدي ببعض المتحاورين إلى المداهنة والابتذال، والخضوع بالقول، وكتمان الحق، والسكوت عن الباطل، وقد تدفع بالبعض إلى موادة محاوريهم واتخاذهم بطانة من دون المؤمنين، وموالاتهم وموافقتهم في مواقفهم وآرائهم ومعتقداتهم، مما يوقع المحاور المسلم في سخط الله وغضبه.
فقد أمر الله المؤمنين بالصدع بالحق وعدم كتمانه، فقال آمراً نبيه وهو في مكة : فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين (الحجر: 94).
وقال تعالى منبهاً ومحذراً المؤمنين من الوقوع فيما وقع به بنو إسرائيل: وإذ أخذ اللّه ميثاق الّذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للنّاس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون (آل عمران : 187)، فالمداهنة ليست من شأن المسلم ولا سَمته.
ولما جاء وفد نجران إلى النبي أسمعهم النبي معتقده في المسيح عليه السلام، ولم يبال عليه الصلاة والسلام بغضبهم من ذلك، فقالوا: مالك تشتم صاحبنا؟ قال: ((وما أقول؟)) قالوا: تقول: إنه عبد. قال: ((أجل. إنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول))، فغضبوا، وقالوا: هل رأيت إنساناً قط من غير أب، فإن كنت صادقاً فأرنا مثله. فنزلت الآية: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من ترب ثم قال له كن فيكون (آل عمران: 59).
وللمداهنة المستقبحة صور كثيرة أهمها الثناء على معتقدات الآخرين وتسويغها، أو التوقف في كفرهم واعتبارهم إخوة لنا يجمعنا بهم الإيمان بالله وغير ذلك مما لا يخفى تحريمه، وقد سبق بيان بعضه.
والعجب من وقوع بعض المحاورين في هذا المنكر البغيض تطوعاً من غير ضرورة ولا مسوغ مفهوم إلا التزلف للآخرين واسترضاؤهم بما يغضب الله العظيم.
وأمثال هؤلاء مدعوون لقراءة ما قاله جعفر بن أبي طالب بين يدي النجاشي، إذ لم يمنعه ضعفه وغربته من أن يقول الحق من غير مداهنة بين يدي ملك لا تدرى عواقب مخالفته. فقد قال سفير قريش عمرو بن العاص: "والله لأنبئنهم غداً عيبهم عندهم، ثم أستأصل به خضراءهم ... والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد.
قالت [أم سلمة]: ثم غدا عليه الغد فقال له: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه.
قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه، قالت: ولم ينزل بنا مثله.
فاجتمع القوم، فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول - والله - فيه ما قال الله، وما جاء به نبينا، كائناً في ذلك ما هو كائن.
فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا، هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول ".
ويمكننا أيضاً أن نلحظ في القصة إباء جعفر وامتناعه عن السجود للنجاشي خلافاً لعادة الناس مع الملوك، فقد تركه لحرمته في الإسلام، مع مسيس الحاجة إليه تألفاً لقلب النجاشي نحوه ونحو المسلمين الملتجئين إلى جواره وأرضه " فسلم ولم يسجد، فقالوا له: مالك لا تسجد للملك؟ قال: إنا لا نسجد إلا لله عز وجل. قال: وما ذاك؟ قال: إن الله عز وجل بعث إلينا رسوله ، وأمرنا أن لا نسجد لأحد إلا لله عز وجل ".
2- تعظيم من لا يرضى الله تعظيمه
وهذا التعظيم مذموم لما فيه من مدحة أو ثناء لا يستحقه المحاور غير المسلم ، قال : ((لا تقولوا للمنافق سيداً، فإنه إن يكن سيداً فقد أسخطتم ربكم عز وجل)).
قال أبو الطيب الآبادي : "لأنّه يكون تعظيماً له، وهو ممّن لا يستحقّ التّعظيم، فكيف إن لم يكن سيّداً بأحد من المعاني؛ فإنّه يكون مع ذلك كذّاباً ونفاقاً".
وحين خاطب النبي ملوك الأرض صانعهم ورفق بهم، لكنه لم يضف عليهم عظيم الألقاب، بل توقى في خطابهم، من غير أن يبعد عن ملاطفتهم واستمالتهم، فقد كتب إلى هرقل إمبراطور الروم قائلاً : ((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم..)).
قال ابن حجر: "فيه عدول عن ذكره بالملك أو الإمرة ; لأنّه معزول بحكم الإسلام, لكنّه لم يخله من إكرام لمصلحة التّألّف..".
قال النووي في فوائد الحديث: " التوقي في المكاتبة , واستعمال الورع فيها , فلا يفْرِط ولا يفَرِّط , ولهذا قال النبي : ((إلى هرقل عظيم الروم)), فلم يقل : ملك الروم , لأنه لا ملك له ولا لغيره إلا بحكم دين الإسلام .. ولم يقل : إلى هرقل فقط , بل أتى بنوع من الملاطفة فقال : عظيم الروم , أي الذي يعظمونه ويقدمونه, وقد أمر الله تعالى بإلانة القول لمن يدعى إلى الإسلام، فقال تعالى : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة (النحل: 125)، وقال تعالى : فقولا له قولاً ليناً (طه: 44) ".
3- تصدي بعض من لا يحسنون الحوار له
وفي بعض جولات الحوار رأينا ضعفاً وخوراً عند من يتصدى له، ويقع ذلك منهم بسبب قلة معرفتهم بالعلوم الشرعية أو غيرها من الأسباب، في وقت نرى فيه حرص النصارى واليهود على إشراك أكبر كفاءاتهم العلمية والكنسية في حوارهم مع الآخرين.
وهذا العيب في بعض المحاورين من المسلمين قد يدفع بالمحاور إلى الشطط في مجاراة الآخرين، فينساق إلى ما هو باطل، أو يقصر عن تبيان ما هو حق، فتقصر حجته، وتكسد بضاعته.
وقد حذر الله تعالى من هذا الصنيع، فقال: ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً (الإسراء: 36).
قال ابن تيمية: "والمذموم شرعاً ما ذمه الله ورسوله كالجدل بالباطل والجدل بغير علم والجدل في الحق بعد ما تبين".
وقال رحمه الله مشنعاً على الشهرستاني قصوره في مجادلته للفلاسفة: "ولهذا كانت مناظرة كثير من أهل الكلام لهم مناظرة قاصرة، حيث لم يعرف أولئك حقيقة ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه وما ذمه من الشرك، ثم يكشفون بنور النبوة ما عند هؤلاء من الضلال كما ناظرهم الشهرستاني في كتاب الملل والنحل ..كان قولهم أظهر، فكان رده عليهم ضعيفاً لضعف العلم بحقيقة دين الإسلام ..".
وهذا العيب نعاه القرآن الكريم على أهل الكتاب، فقال عز وجل: ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم (آل عمران: 66).
قال القرطبي: "الآية دليل على المنع من الجدال لمن لا علم له، والحظر على من لا تحقيق عنده .. وقد ورد الأمر بالجدال لمن علم وأيقن، فقال تعالى: وجادلهم بالتي هي أحسن (النحل : 125)".
وقال ابن كثير: " الآية هذه إنكار على من يحاج فيما لا علم له به، فإن اليهود والنصارى تحاجوا في إبراهيم بلا علم.. فأنكر الله عليهم ذلك، وأمرهم برد ما لا علم لهم به إلى عالم الغيب والشهادة الذي يعلم الأمور على حقائقها وجليتها ".
وقال ابن تيمية مبيناً ضرر الجدال بلا علم على المسلمين: "وقد ينهون عن المجادلة والمناظرة إذا كان المناظرُ ضعيفَ العلم بالحجة وجواب الشبهة، فيخاف عليه أن يفسده ذلك المضل، كما ينهى ذلك الضعيف في المقاتلة أن يقاتل علجاً قوياً من علوج الكفار، فإنَّ ذلك يضره ويضر المسلمين بلا منفعة".
وتجنباً لهذا المحذور أوصى المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي في دورته التاسعة أن " لا يتولى الحوار إلا المختصون من علماء المسلمين "، وأكده في دورته الحادية والعشرين: " أن يتولى تمثيل الرابطة فيها العلماء المختصون بالمواضيع المطروحة في جدول أعمالها ".
4- الخروج عن آداب الإسلام في الحوار
ومما يؤخذ على بعض المشاركين في الحوارات العامة، خاصة غير الرسمية منها، - كتلك التي تجري على شبكة الإنترنت – الاستمرار في الحوار، ولو فقد مصداقيته وضل أهدافه، وساء أدبه، فاكتسى من السباب سربالاً، ومن العناد جلباباً.
وهذا ولا ريب من الجدال المذموم، و" قد تكون المصلحة في الامتناع عن مجادلة طائفة منهم أو مع أفراد لسبب أو لآخر، وهذا استثناء …".
وفي نبذ الجدل العقيم الصادر عن طائفة غير مؤمنة، يقول الله تعالى: ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون قالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل (الزخرف: 58-57).
قال الطبري: " ما مثلوا لك هذا المثل يا محمد هؤلاء المشركين في محاجتهم إياك بما يحاجونك به طلب الحق، بل هم قوم خصمون، يلتمسون الخصومة بالباطل ".
يقول ابن تيمية: "وقد يُنهى عنها [أي المناظرة] إذا كان المناظَر معانداً يظهر له الحق فلا يقبله، وهو السوفسطائي، فإن الأمم كلهم متفقون على أن المناظرة إذا انتهت إلى مقدمات معروفة بيّنة بنفسها ضرورية، وجحدها الخصم كان سوفسطائياً، ولم يؤمر بمناظرته بعد ذلك".
وقال ابن سعدي في وصف المجادلة المحمودة: "أن لا تؤدي المجادلة إلى خصام أو مشاتمة تذهب بمقصودها، ولا تحصل الفائدة منها، بل يكون القصد منها هداية الخلق إلى الحق، لا المغالبة ونحوها)).
ومثل هذا الحوار ينجر عادة إلى السباب المحرم، الذي لا يتوافق مع الدعوة بالحكمة والمجادلة بالتي هي أحسن، بل هو نوع من الرعونة والفحش وسوء الخلق.
وهذه الصفات أبعد ما تكون عن المؤمن، إذ ((ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء)).
قال الغزالي: "المؤمن ليس بلعان؛ فينبغي ألا يطلق اللسان باللعنة إلا على من مات على الكفر، أو على الأجناس المعروفين بأوصافهم، دون الأشخاص المعينين، فالاشتغال بذكر الله أولى، فإن لم يكن ففي السكوت سلامة".
ولما قيل لرسول الله : يا رسول اللّه، ادع على المشركين.. قال: ((إنّي لم أبعث لعّانًا، وإنّما بعثت رحمةً)).
قال مكي بن إبراهيم: كنا عند ابن عون، فذكروا بلال بن أبي بردة [الوالي] فجعلوا يلعنونه ويقعون فيه لأذاه لابن عون وامتحانه له، وابن عون ساكت، فقالوا: يا ابن عون؛ إنما نذكره لما ارتكب منك! فقال: إنما هما كلمتان تخرجان من صحيفتي يوم القيامة: "لا إله إلا الله"، "ولعن الله فلاناً"، فلأن يخرج من صحيفتي: "لا إله إلا الله"؛ أحب إلي من أن يخرج منها: "لعن الله فلاناً".
وخشية الانجرار إلى السباب وتقويض غايات الحوار ومقاصده نهى الله عن المؤمنين عن سب ولمز آلهة المشركين وأصنامهم، فقال: ]ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم[ ( الأنعام: 108).
وقد نقل المفسرون في سبب نزولها أن كفار قريش قالوا لأبي طالب: "إما أن تنهى محمداً وأصحابه عن سب آلهتنا والغض منها، وإما أن نسب إلهه ونهجوه"، فنزلت الآية.
وقد أفاد القرطبي منها النهي عن سب ولمز سائر ما يقدسه الآخرون، لا من باب التعظيم لها، بل سياسة وتألفاً، يقول: "حكمها باق في هذه الأمة على كل حال، فمتى كان الكافر في مَنَعة، وخيف أن يسب الإسلام أو النبي عليه السلام أو الله عز وجل، فلا يحل لمسلم أن يسُبَّ صلبانهم ولا دينهم ولا كنائسهم ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك لأنه بمنزلة البعث على المعصية .. وفيها دليل على أن المحقَّ قد يكف عن حق له إذا أدى إلى ضرر يكون في الدين".
5- هجر المصطلحات والأساليب الشرعية
ومما يقع به المتحاورون أحياناً هجر المصطلحات والأساليب والحجج الشرعية والتباعد عنها تقرباً إلى الآخرين أو غيره مما يرونه مصلحة للدعوة.
وهذا الصنيع مجاف، بل منافٍ لما عهد من النبي في مخاطبته المشركين.
ومن ذلك أنه لما قدم ضماد مكة أتى النبي فقال: يا محمد، إني أرقي من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء، فهل لك؟ فقال رسول الله : ((إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله))، فكانت هذه الكلمات سبباً في إسلامه، فقال للنبي : (أعد علي كلماتك هؤلاء.. لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغنَ ناعوس البحر. فقال: هات يدك أبايعك على الإسلام).
ولما كتب النبي رسائله إلى الملوك صدّرها بالبسملة كما في رسالة هرقل ((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم..)).
قال النووي في فوائد الحديث: "ومنها: استحباب تصدير الكتاب ببسم اللّه الرّحمن الرّحيم , وإن كان المبعوث إليه كافرًا".
ولا يمنع هذا مخاطبتهم بلغاتهم وطريقتهم إذا دعت الحاجة إليه، مع الالتزام بالضوابط الشرعية، قال ابن تيمية: "أما مخاطبة أهل اصطلاح باصطلاحهم ولغتهم، فليس بمكروه، إذا احتيج إلى ذلك، وكانت المعاني صحيحة، كمخاطبة العجم من الروم والفرس والترك بلغتهم وعرفهم، فإن هذا جائز حسن للحاجة، وإنما كرهه الأئمة إذا لم يحتج إليه".
إن تعرفنا على محظورات الحوار - التي تخرج به عن ضوابط الشريعة الغرَّاء - يؤزنا لممارسة الحوار ضمن ضوابط الشريعة وآدابها، واللذان يكفلان تحقيق المقاصد والغايات الشرعية التي نتوخى الوصول إليها من خلال حوارنا مع الآخرين.
خاتمة
وبعد، فإن من دواعي سرور العقلاء تنامي الدعوة إلى الحوار في أوساط مختلفة من عالمنا الذي ضاقت شعوبه ذرعاً بحوار البندقية ، ورأت أن الحوار الحضاري والثقافي يقدم بديلاً مناسباً لحل الخلافات المختلفة التي تنشأ بين الأمم والحضارات المختلفة.
فالحوار الحضاري هو الطريق الأفضل لفهم الآخر والتعرف على رؤاه ومقاصده، بعيداً عن الأحكام المسبقة التي تحمل في طياتها ركام أخطاء التجارب السابقة التي تدفع إلى مزيد من الشقاق والاختلاف، وتولد المزيد من الإحباط، وما يستتبعه من ويلات الحروب والمظالم.
وقد رأينا سبق الإسلام - ومنذ انبثاق فجره الميمون - إلى اعتماد الحوار وسيلة حضارية في التفاعل مع الآخرين، وقد قعّد له قواعده ، ورسم له حدوده وضوابطه، ومنع من كل ما من شأنه تهميش هذه الوسيلة الدعوية أو التقليل من حيويتها ونفعها.
ودعاة الإسلام ومؤسسات المجتمع المسلم مطالبة اليوم باستعادة دورها الحضاري، والمبادرة إلى طلب الحوار وعقد ندواته وإشاعة أدبياته، والتصدي للنظريات المتصاعدة التي تدعو للصراع، وتطالب بالحسم قبل بداية دراما نهاية الزمن.
ورابطة العالم الإسلامي إذ تقدم هذه الدراسة ، فإنما تؤكد حرص شعوب العالم الإسلامي على إرساء قواعد الحوار وآدابه وتخليصه من شوائبه ومكدراته، وهي تدفع بها مع انطلاقة منتداها العالمي للحوار بين أبناء الأديان والحضارات المختلفة.
والله نسأل أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يجنبنا الزلل ، إنه ولي ذلك، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.