الإعلام ومزادات التصنيف الفكري والمذهبي

الكاتب  :  إبراهيم حاج عبدي

 

لا تتردد وسائل الإعلام، وخصوصاً الفضائيات، في تصنيف ضيوفها على نحو مذهبي وفكري، وكثيراً ما نقرأ على الشاشات تعريفاً لضيف يقول مفكر علماني أو يساري أو ليبرالي أو إسلامي أو حتى سلفي، أو أن هذا الضيف مقرب من هذا التيار أو ذاك.. ومثل هذا التصنيف المعلن أفرز نوعاً من (العدائية) على الشاشات، ذلك أن الكثير من البرامج باتت توظف هذه الصفات والتصنيفات كي ترتب معركة بين ضيفين من اتجاهين مختلفين.
ولا يمثل البرنامج الشهير (الاتجاه المعاكس) استثناء في هذا السياق، بل ثمة برامج مماثلة كثيرة تسعى إلى استقطاب أسماء من مرجعيات وأيديولوجيات ومذاهب مختلفة، وتأتي بها إلى الاستوديو كي تتصارع وتتجادل وتتعارك ضمن أجواء حماسية تنجذب إليها شرائح من المشاهدين، بل إن نبرة الصراخ تتعالى في فضاء الاستوديو ويجري تبادل الشتائم وصولاً إلى اللكم والضرب. ويحفل موقع (يوتيوب)، مثلاً، بمقاطع كثيرة تظهر مثل هذه المعارك الفضائية التي يطرب لها بعض مسؤولي الفضائيات وشريحة من المشاهدين، لكنها في حقيقة الأمر لا تعبر سوى عن (البؤس الثقافي).
لا حاجة بنا إلى القول إن الإعلام يمكن أن يُستَثمَر في هذا الميدان على نحو إيجابي، عبر تكريس لغة الحوار والمنطق، والخوض في مواضيع خلافية، وتسليط الضوء على خفايا وقضايا ملحة. ولا ضير في أن يدافع كل ضيف عن رأيه ووجهة نظره، ولكن ينبغي أن يكون هذا الدفاع بالحجة والبرهان والدليل لا باللكمات والضربات. وعلينا أن نشير إلى أن الاختلاف في الرأي أمر طبيعي ومطلوب، وكذلك فإن وجود كل هذه المرجعيات والمذاهب والأيديولوجيات هو، كذلك، من سنن الحياة، غير أن ما يؤجج الصراع هو العقليات المتطرفة المتعصبة التي تدّعي احتكار الحقيقة، وتسعى إلى إلغاء الآخر، ولا تجد غيرها حارسة للقيم والمثل والمبادئ! ومن الطبيعي أن يقود هذا التعصب والتحجر الفكري الأعمى إلى نزاعات ومعارك لا على الشاشة فحسب، بل تمتد، كذلك، إلى أرض الواقع.
إن المتأمل في الواقع العربي الراهن سيعثر على أمثلة لا تحصى عن صراع المذاهب والمرجعيات والطوائف والمناطق والقبائل، وهو صراع لا يتوقف عند حدود اللفظ والكلام، بل هناك ميليشيات وجماعات مسلحة؛ متشعبة تزعم أنها تدافع عن طروحاتها وأفكارها التي لا يأتيها الباطل من أمامها ولا من خلفها، وفقاً لقناعاتها الجامدة.
وبدلاً من أن يقوم الإعلام بوظيفة تنويرية، ويوضح الحقائق، ويخفف من الاحتقان، إلا أنه تورط في مفاقمة مثل هذه الاختلافات عبر التركيز على تصنيف الضيوف مذهبياً وفكرياً، وتوجيه أسئلة مستفزة، وتناسي الجوانب الجوهرية، ومناقشة أقاويل ومزاعم توقظ لدى الجهلة غرائز وعصبيات بدائية. ومع الانتشار الواسع لرقعة البث الفضائي، راح كل تيار ديني أو فكري أو مذهبي يؤسس فضائية خاصة به، وهنا تكرس المزيد من حالة الانقسام الشديد والحاد، وأصبحت كل فضائية أمينة لمبادئ وأفكار مؤسسيها، ونظراً لضحالة خطابها وأسلوبها الدعائي الفج، فإن أي مشاهد، ومهما كان مستواه الثقافي متدنياً، يستطيع أن يخمن أن هذه الفضائية تتبع التيار الفلاني أو الجهة الفلانية. هكذا أصبحت الفضائيات ساحة لمعركة مفتوحة، تتزاحم على دروبها الأفكار والمرجعيات والمذاهب، ونسي أصحاب هذه الشعارات أن ثمة مبدأ بسيطاً وصل إلينا من ماضي الثقافة العربية يقول: (الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية)، بيد أن الجميع ضرب بهذا المبدأ عرض الحائط وراح يخوّن الآخر، لمجرد الاختلاف حول قضية يمكن أن تناقش بهدوء.
وإذ بلغ الأمر هذا المبلغ، فإن من السذاجة تقديم نصائح أو توجيهات في هذا المضمار، ذلك أن إلغاء ثقافة التخوين، وتكريس لغة الحوار يحتاجان إلى جهود مختلف المؤسسات والهيئات والمنظمات، وعلى رأسها، بالطبع، الإعلام بمختلف تنويعاته، وكذلك مراكز الأبحاث والجامعات والمعاهد. ربما لو اتفقت كل هذه الجهات على معنى البيت الشعري للمتنبي: الرأي قبل شجاعة الشجعان.. هو الأول وهي المحل الثاني؛ عندئذ يمكن أن تتوافر مناخات صالحة للنقاش والحوار، وهذا بدوره سيفضي إلى حقيقة تقول إن التنوع والاختلاف هما غنى وثراء للمجتمعات، لا دافعاً إلى التنافر والتناحر وكيل الاتهامات المجانية.
الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك