العقلية الإلغـائية والتوقف عن الفعل الحضاري

الكاتب  :  معاذ بني عامر

 

ثمة التقاء لا واع بين أصحاب العقليات الإلغائية؛ فالبنية الذهنية للمستأصلين تلتقي عند الأساسات الداخلية، وإن كانت تتقاتل وتتذابح خارجياً.
على مستوى اللاوعي، تندرج العقليات الإلغائية ضمن منظومة أو مصفوفة واحدة، فالإلغاء فعل تبادلي بين ذهنية واحدة؛ الفرق الوحيد هو في تعددية الجماجم.
كتجل واع –على المستوى الظاهري- للالتقاء اللاواعي عند الأساسات، ينتشي بالدم المراق (دلالة الدم هاهنا دلالة مزدوجة، فهي من ناحية واقعية، إذ تصل الأمور في كثير من الأحيان بين أصحاب العقليات الإلغائية إلى الذبح وإراقة الدماء، ومن ناحية أخرى رمزية على اعتبار إسالة دماء العقول)، والنتيجة التوقف عن الفعل الحضاري، بحيث يصار في ظل وجود نوازع إلغائية إلى الانتباه إلى مسألة تصفية الخصوم أكثر من أي شيء آخر. لذا، والحال هكذا، تتعطل المبادرة الحضارية –على مختلف الصعد الثقافية والاقتصادية والاجتماعية...إلخ-، فالبوصلة موجهة ناحية هدف آخر لاعلاقة له بالبناء الحضاري، تحديداً ناحية هدم الشرط الحضاري وتدمير قواه الداخلية والخارجية.
ولقد أثبتت التجربة التاريخية للكائن البشري أن تفتت الحضارة يتم أولاً داخل البنى الذهنية، ولاحقاً تسوى بالأرض كواقع، فالعقليات المتخاصمة والمستأصلة لبعضها البعض تحتكم إلى شريعة واحدة؛ شريعة التدمير الذاتي، فهي إذ تسعى إلى إلغاء الأطراف الأخرى، فإنها تعمل –بذات الوقت- على استعجال تدمير قواها الذاتية، فالأس الانبنائي لهذه القوى هو ذات الأس، ومسألة إطلاق الرصاص –سواء أكان رصاصاً حقيقياً أم رصاصاً وهمياً- على جماجم الخصوص، هو رصاص مستقر بالأساس في جمجمة مطلقه والضاغط على نابضه الأوتوماتيكي!.
ولربما كشفت الحالة العربية -في عموميتها- عن حالة الخراب التي وصل إليها، لناحية تدمير الذات العربية الكلية وإحالتها إلى العدم. فالقوى المتصارعة إذ تفتعل دماراً ذاتياً، فإنها تسهم مساهمة عظيمة -ويا للسخرية- في تفاقم الأزمة الحضارية للأمتين العربية والإسلامية، لناحية عطالتها وبطالتها عن تقديم أي بديل حضاري، فالوقت الذي كان بالإمكان استغلاله في الإنتاج والإبداع الحضاري بمنطلقاته المختلفة والمتعددة، يستنزف في الاقتتال والاحتراب والتذابح.
ولربما أتى هذا الاحتراب (عادة ما تتخلق مثل هذه الظواهر في المجتمعات المسحوقة ثقافياً والحضارات الهامشية) كتجل لعقل (منفعل) (غير فاعل) يرتكس ارتكاسة وجودية كبيرة، فهو غير ذي جدوى في البناءات، بل تتنازعه رغبة سيكولوجية عارمة في الهدم والتدمير. وهو إذ يجنح إلى ذلك فإنه لم يستفد من التجربة الروحية الإنسانية التي استطاعت أن تبني حضارة إنسانية عظيمة على طول التاريخ البشري، ولكن خارج سياقات الاستئصالات، كانت الحضارات على الدوام بمثابة وادي الأكوان –بلغة لاو تسو صاحب كتاب الطاو إنجيل الحكمة الطاوية في الصين- الذي تجتمع فيه كل مياه الجبال! فالحضارة هي تشكيل فسيفسائي عظيم لحيوات متعددة ترى من زوايا مختلفة، لأن الحياة –ولكي يتم إماطة اللثام عن جمالها المخبوء- بحاجة إلى رؤى وأفكار كثيرة، ففي النهاية لا يمكن لجماعة بعينها أن تقوم بكل شيء لوحدها، إنما الحضارة بحاجة إلى تكتلات بشرية ومعرفية واسعة جداً، لكي تستوعب الدفقة الحياتية –ضمن شرطها الوجودي- على أكمل وجه.
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك