المحمدية: رؤية هيجل عن الإسلام
أضافه الحوار اليوم في
الكاتب : د. بنسالم حميش: المغرب
دلالة هذا النص، الذي نترجمه في هذا الملحق، تكمن أساساً في كون صاحبه هو الفيلسوف الألماني، هيجل (1770 - 1831)، الذي نشأ في أجواء الثورة الفرنسية (1789) وبدايات الحركة الرومانسية الألمانية. ولقد اعتبر نفسه آخر الفلاسفة، ويُعتبر على كل حال من بين كبار الفلاسفة النسقيين، الذين أعطوا الكثير ضمن مثالية مطلقة وللمنطق الجدلي وفلسفة التاريخ والحقوق وتاريخ الفلسفة ونظرية الجمال.
والأحكام الواردة في طي هذا النص حول قيمة ومكانة الإسلام أو ما يسميه المحمدية Der Mohammedanismus، كما عند معاصريه، يحسن بنا أن نقف عندها وننظر فيها مع العلم أن صاحبها لم يكن يعرف لغة الضاد ولا النصوص الأصلية. أما تصويبات الأخطاء الواردة في النص والإيضاحات فقد وضعناها بين معقوفات، كما أن بعض الأحكام برّزناها للتنبيه.
النص: المحمدية
بينما كان الغرب يستقر في العرضية والتعقيد والخصوصية، كان على التوجه المعاكس أن يظهر في العالم كيما يستوعب الكلية، وهذا ما حصل في ثورة الشرق التي كسرت كل خصوصية وكل تبعية، مضيئةً ومطهرة الفكر (geistig) تماماً، وذلك بأن جعلت من الواحد المجرد وحده الشيء المطلق، وكذلك من الشعور الذاتي الخالص ومعرفة هذا الواحد الأحد غاية الواقع الأولى، ومن اللاشرطية شرط الوجود.
لقد عرّفنا في مقام آخر طبيعة المبدأ الشرقي، ورأينا أنه في ذروته نفي مطلق، بما أن الإثبات عبارة عن سقوط في الطبيعي وفي عبودية للفكر فعلية. فعند اليهود وحدهم، لاحظنا أن مبدأ الوحدة البسيطة ارتقى إلى الفكر، لأن عندهم دون سواهم حظي الواحد بالتشريف. وهذه الوحدة بقيت على صعيد التطهير بشكل مجرد، مع أنها تحررت من الخصوصية العالقة بعبادة Jehovah يهفي. إن هذا الإله لم يكن إلا إله ذلك الشعب وحده، إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وإنه لم يُمض تحالفه إلا مع اليهود وحدهم، ولم ينزل وحيه إلا على هذا الشعب. أما في دين محمد، فقد انمحت تلك التخصيصية. ففي عمومية الفكر هاته وفي هذا الخلوص اللامحدود واللامحدد، لا يبقى للذات من هدف سوى تحقيق هذا الخلوص وتلك العمومية.
إن الله (كذا في النص) لم يعد يعرف الغاية الإثباتية المحدودة التي للإله اليهودي. وبالتالي فتكريم الواحد هو غاية المحمدية الوحيدة، والذاتية لا مادة لنشاطها إلا في هذه العبادة، وكذلك مقصد إخضاع العالم للواحد الأحد (...). بيد أن المحمدية لا تذوب في المطلق على الطريقة الهندية أو الرهبانية، بل إن الذاتية فيها تبقى حية ولا متناهية، إنها نشاط يظهر في العالم وينفيه، إذ إنه يعمل ولا يتدخل إلا من أجل الوجود الخالص للواحد الأحد، وذلك لكون موضوع المحمدية إنما هو فكري (ذهني خالص). فلا يسمح بأي صورة ولا بأي تمثيل لله.
إن الخاصيات الأساسية للمحمدية هي في كون الواقع لا يستقر على حال، وإن الكل المتحرك الحي يسير نحو لامتناهي العالم، بحيث تبقى عبادة الواحد هي الرابطة الوحيدة مع كل شيء. وفي هذا البعد وهذه القوة يزول كل حاجز وكل تمييز قومي وصنفي، ولا فضل إذن لأي جنس على آخر ولا لأي حق سياسي بالولادة والملكية.
وحده الإنسان المؤمن له الفضل من حيث إنه يعبد الواحد الأحد ويشهد بوجوده ويصوم ويتخلص من شعوره الذاتي ويتزكى، بمعنى ينفصل عن (جزء من) متاعه الخاص: وهذه كلها هي أركان (الإسلام) السهلة، مع أن الفضل الأكبر هو في الجهاد في سبيل الحق، ومن مات كذلك فإنه جزاءه الجنة.
إن الدين المحمدي نشأ بين العرب، هؤلاء الذين تنطبع روحهم بالبساطة ويسكنهم معنى غياب النسق والنمط، إذ في صحاريهم لا شيء يستطيع اتخاذ شكل (بالمعنى النسقي للمفهوم). ومع فرار (هجرة) محمد خارج مكة بدأ تاريخ المسلمين. فإبّان حياته وتحت إمرته، ولكن بالأخص بعد وفاته وبقيادة خلفائه، أنجز العرب مغازيهم الكبرى. إنهم بدؤوا بالتوجه إلى سوريا، فاحتلوا عاصمتها دمشق في 634 (والأصح 635)، ثم بعد أن اجتازوا دجلة والفرات، أداروا سلاحهم نحو فارس التي سرعان ما انتصروا عليها؛ أما غرباً فقد فتحوا مصر وشمال أفريقيا وإسبانيا واجتاحوا جنوب فرنسا حتى نهر لالوار، لكنهم هزموا في (تور) على يد شارل مرتيل في سنة 732 (114). وهكذا امتدت سيطرة العرب غرباً، في حين أنهم من جهة الشرق أخضعوا، كما أسلفنا، فارس ثم سمرقند والجزء الجنوبي- الغربي من آسيا الصغرى. إن هذه المغازي (المصحوبة) بانتشار الدين (الإسلامي) قد تمت بسرعة فائقة عجيبة. وكل من كان يعتنق الإسلام يصبح متمتعاً بكل الحقوق التي لجميع المسلمين. ومن لا يفعل ذلك كان في الحقب الأولى يتعرض للموت (معلومة خاطئة تاريخياً)، غير أن العرب صاروا لاحقاً أكثر رأفة بالمهزومين، بحيث خضع هؤلاء لأداء الجزية في حالة إعراضهم عن الدخول في الإسلام. أما المدن فقد كانت تؤدي للمنتصرين عُشر متاعها في حالة استسلامها من دون مقاومة وخُمسه في حالة سقوطها بعد حرب ومصادمة.
إن التجريد كان يستولي على المسلمين، فغايتهم كانت في تقديم العبادة المجردة، وقد سعوا إليها بأكبر قدر من الحماس (Begeisterung). وهذا الحماس كان عبارة عن تعصب، أي عن نزوع (افتتان) حماسي بشيء مجرد، بفكرة مجردة تسلك سلوكاً نفيياً بإزاء ما هو موجود. إن التعصب يكمن أصلاً في إشهار التخريب والهدم على المحسوس، إلا أن تعصب المسلمين كان قادراً أيضاً على كل شيء رفيع، وهذه الرفعة المتحررة من كل المنافع الخسيسة مرتبطة بجماع فضائل الإباء وعظمة الروح. إن مبدأهم كان هو الدين والترهيب كما هو مبدأ روبيسبيير في الحرية والترهيب la liberté et la terreur (هكذا بالفرنسية في الأصل). فالحياة الواقعية محسوسة وتتضمن غايات خاصة، إنها بالغزو تصل إلى الهيمنة والغنى وإرساء حقوق الأسرة المالكة ورابطة بين الأفراد. غير أن ذلك كله عرضي ومقام على الرمال ليس أكثر، إنه موجود اليوم ولا يبقى في الغد. إن المسلم، رغم شوقه كله، لا مبال بذلك، من حيث إنه يتحرك في متغيرات القدر الأكثر تقلباً. فالمحمدية قد أسست أثناء انتشارها ممالك ودولاً كثيرة، لم ينجم عن بحرها اللامتناهي أي شيء صلب، بل طورت في اندفاعاتها صيرورة دائمة، وذلك لأن ما يتموج يتكون ويبقى شفافاً إلى أن يزول. إن ما كان ينقص تلك الدول هو معنى الغزوة ذات الصلابة العضوية، فكان أن اندثرت الإمبراطوريات واختفى فيها الأفراد. لكن هناك حيث تستقر نفس نبيلة، كما الموجة في البحر الدافق، فإنها تظهر متحلية بحرية تامة لا أنبل وأكرم ولا أشجع وأصبر منها. إن ما يدركه الفرد في باب الخاص والمحدد يحصّله على نحو كلي.
وفي حين كان الأوروبيون يتوفرون على علائق كثيرة يشكلون من خلالها مجموعات، نرى أن الفرد في الدين المحمدي ليس إلا هذا الشخص بعينه، وهو بصيغة المبالغة قاس، ماكر، شجاع، ورحيم إلى أكبر حد. وحيثما وجد شعور الحب، فإنه يكون معه من دون تحفظ، وكذلك في الحب الأكثر رقة. إن الأمير الذي يحب عبداً يبجّل موضوع حبه، واضعاً بين قدميه كل (شارات) الإجلال والقوة والشرف، ناسياً صولته وصولجانه، لكنه في المقابل يضحي به بعد ذلك من دون تردد. إن تلك الرقة الطليقة تتبدى أيضاً في حماسة شعر العرب والسرزانيين. وهذه الحماسة المشوقة هي الكامنة في الشعور بحرية الخيال الكاملة، بحيث أن ذلك الشعر في مجمله ليس سوى حياة موضوعه وحياة هذا الشعور (نفسه)، فلا يحتفظ في حوزته بأي أنانية ولا بأي تخصيص (Eigenheit).
إن الحماس كما هو لم ينجز أبداً أعمالاً أكبر (من تلك). فالأفراد يمكنهم أن يتحمسوا للرفيع بأشكال متعددة، وكذلك حماس شعب من أجل استقلاله فإن له هدفاً محدداً، أما الحماس المجرد الذي بهذه الصفة يعانق الكل، لا يردعه ولا يحده شيء، ولا يحتاج إلى شيء، إذ إنه حماس الشرق المحمدي.
إن الفنون والعلوم قد بلغت عند العرب أوج ازدهارها، وذلك بنفس السرعة التي أجروها في مغازيهم. وبدءاً، نرى هؤلاء الفاتحين يهدمون كل ما يتعلق بالفن والعلم: (عمر بن الخطاب)، كما يحكى، خرب خزانة الإسكندرية (وهي قصة، كما نعلم، مطعون في صحتها)، وذلك لأنه، حسبما قال، إما أن تكون كتبها تحوي ما يوجد في القرآن، وإما تكون مخالفة له، وفي الحالتين معاً فإنه لا طائل تحتها.
غير أن العرب بعد ذلك سرعان ما صرفوا عنايتهم إلى رفع الفنون والعلوم ونشرها في كل مكان. فبلغت الإمبراطورية أوج تألقها في عهد خلفاء (من مصف) المنصور (جعفر) وهارون الرشيد، بحيث أُنشئت مدن كبرى في كل أطراف المملكة التي انتعشت فيها التجارة والصناعة، وشُيدت قصور بديعة ومدارس، وكان علماء البلاد يجتمعون في بلاط الخليفة، فأضحى هذا البلاط يشع ليس خارجياً فحسب بلمعان الأحجار الكريمة والأواني، وإنما أيضاً وخصوصاً بفضل ازدهار الشعر وكل العلوم. هذا في حين أن الخلفاء الأوائل ظلوا محتفظين ببساطة عرب الصحراء وبداوتهم (ويحظى بالذكر في هذا الصدد الخليفة أبو بكر) معرضين عن فوارق الصنف والثقافة. فالسرزان العامي أو المرأة الصغيرة الشأن كان بإمكانهما مخاطبة الخليفة كواحد من الأنداد. إن السذاجة التي لا تعرف تدابير التحوطات لا تحتاج إلى ثقافة، بحيث أن كل فرد، من منطلق حرية فكره، يسلك بإزاء الأمير كما يفعل مع ذويه وأشباهه.
إن إمبراطورية الخلفاء العظمى لم تعمر طويلاً، وذلك لأن الرسوخ الصلب لا يحصل في حقل العمومية. وهكذا تقوضت دولة العرب الكبرى بتزامن تقريباً مع تلاشي إمبراطورية الإفرنج، فأطيح بعروش من طرف عبيد وشعوب غزاة جدد، كالسلاجقة والمغول، وتأسست إمبراطوريات جديدة، ووصلت دول أخرى إلى الحكم، حتى جاء العثمانيون فتوفقوا أخيراً في فرض سيطرة متمكنة.
إنه بانطفاء جذوة التعصب يُمحى في الأذهان كل مبدأ (وازع) أخلاقي (Sittlich). وفي الصراع ضد السرازانيين استعلى البأس الأوروبي في صورة الفروسية المقدامة النبيلة. إنما المعارف، خصوصاً منها الفلسفية، أتت إلى الغرب من عند العرب، كما أن شعلة شعر رفيع وفانتازيا حرة اتقدت عند الجرمانيين في احتكاكهم بالشرق. وهكذا توجه غوته أيضاً إلى آسيا وأعطى في ديوانه (الديوان الغربي-الشرقي) عِقد جواهر يفوق كل شيء في باب الرقة وسعادة الخيال. إن الشرق نفسه، بعد تدرج الحماس نحو الزوال، سقط في اللاأخلاق الواسعة النطاق، بحيث سيطرت الأهواء البالغة الفحش. وبما أن الشهوة توجد سلفاً في المذهب المحمدي ولو في شكل أولي وتُعرض كجزاء في الجنة، فإنها حلت من بعد محل الحماس. أما اليوم (في الكاتب) فإن الإسلام قد اختفى منذ زمن من ميدان التاريخ العالمي ودخل في فتور الشرق وهدوئه، وذلك بعد أن انحسر في آسيا وأفريقيا وبقي فقط في زاوية من أوروبا نظراً لحسد (die Eifersucht) القوى المسيحية.
الحوار الخارجي: