الأزمة السورية على صدع المتغيرات الدولية

   
    غازي دحمــان  
   

دبلوماسية تأجيل انفجار الأزمات أو إغماض العين عنها وتركها تنتج حلولها بذاتها، أو التعيش على الفرص التي تمنحها. هذا النمط الدبلوماسي الذي تنحاز له إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، وتقود مراكز صنع القرار الدولية خلفه، سيؤسس لوضع يعيش فيه العالم في قلب البركان، وليس على فوهته.

انحطاط السياسة الدولية

مع إدارة أوباما تنحط السياسة الأمريكية إلى مستويات من التخلف تقارب فيه مستوى أداء مثيلاتها في العالم الثالث، ولعل من أهم مؤشرات هذا الانحدار، خروج هذه السياسة عن السياقات العلمية التي تميز سياسات الدول المتقدمة من سواها، كالقدرة على تحليل هذه السياسات وبناء تقديرات مواقف خاصة بها ومعاينة خياراتها وممكناتها، أي تحليل العملية السياسية التي تؤطر هذه العناصر بداخلها، حيث بات من الصعب تقدير موقف حول استجابة الإدارة الأمريكية تجاه أي من النزاعات الحاصلة على مستوى العالم في ظل فوضى صراعات الرؤى التي تزخر بها مؤسسات الحكم في واشنطن.

ومستوى التخلف هذا لا يتأتى، فقط، من افتقاد القدرة على تحليل هذه السياسة، بل لعله صار يطال عملية صناعة السياسة ذاتها في الإدارة الأمريكية نفسها، والتي باتت، وخاصة على مستوى السياسة الخارجية، وهي في الحالة الأمريكية جزء من السياسة الداخلية بحكم انتشار المصالح الأمريكية على رقعة العالم وتشابك الداخلي بالخارجي في ذلك، باتت لا تختلف عن عمليات صنع السياسة في البلدان المتخلفة ذات الطابع التسلطي الأوليغارشي، وما يؤكد هذه الخلاصة الصراع الجاري في أروقة الإدارة الأمريكية ومؤسسات الحكم الأمريكي عموماً حول سورية وعدم قدرتها على التأثير في قرار الرئيس الأمريكي أو زحزحتها لمواقفه.

لعل هذا ما يجعل السياسة الأمريكية في عهد باراك أوباما تفتقد ميزتها الأساسية التي ميزتها في القرن العشرين، والتي جعلت منها أعظم قوة على وجه الأرض، وهو امتلاكها زمام المبادرة، وإن كانت سياسات واشنطن في هذا السياق قد وقعت في مطبات الخطأ نتيجة نقص في التقدير أو الوقوع تحت تأثير هيمنة الرئيس وبعض النخب ذات المصالح المعينة، لكنها حولت أمريكا إلى قلب العالم ومحركة اتجاهاته وصانعة أحداثه على مدار ما يقرب من قرن، من مبادرة ويلسون الشهيرة إلى مشروع مارشال وعملية السلام في الشرق الأوسط، مروراً بالحروب الكورية والفيتنامية والعراقية.

صحيح أن الأزمة السورية كشفت هذا العطل والخلل السياسي الأمريكي ووضحته بشكل كبير، حتى ليمكن القول إن الأزمة السورية أعادت تعريف الدور الأمريكي على المستوى العالمي، لكن هذا التراجع في الحضور كان يحاول أن يعبر عن نفسه منذ مدة، لدرجة أنه في ليبيا كان دوراً خافتاً ومختبئاً خلف الزخم الأوروبي. وفي الواقع وحتى لا نظلم إدارة الرئيس أوباما فإن الوقائع تشير إلى أن هذه الحالة هي نتيجة انعكاس مزاج أمريكي بات يميل بقوة إلى عدم زج أمريكا في أزمات ومشاكل العالم، وربما هذا ما يقوي موقف أوباما، أو حتى يمنعه من اتخاذ قرارات مهمة بهذا الخصوص.

من الواضح تماماً أن صناع سياسات الدول المنافسة لأمريكا أدركوا هذا العطل وباتوا يشتغلون على أساسه، وما يدلل على ذلك هذا التواتر المتناسق لتفجير الأزمات في أكثر من مكان في العالم دفعة واحدة، فيما يبدو أنه محاولة لإغراق السياسة الأمريكية المترددة بمزيد من الأزمات. لكن الإشكالية تظل في نمط الاستجابة الأمريكي المتردد، فهو لا يعدو سوى استثمار في الخراب واستثمار في المتاعب الأمريكية القادمة، ذلك أن  العجز في القراءة الإستراتيجية للمتغيرات والتطورات الحاصلة لن يتأخر كثيراً قبل أن يظهر على شكل أزمات تواجهها الولايات المتحدة الأمريكية فيما خص مصالحها المنتشرة في العالم، وفق منطق مبدأ "جناح الفراشة" في الفيزياء. الذي يرصد أثر التداعيات الفيزيائية، مهما كانت صغيرة، على الحركة الكونية، " إذا قامت فراشة بهز جناحيها على حافة المياه في الصين، فإنها قد تتسبب في وقوع أعاصير في البرازيل أو في جزر الكاريبي ". ذلك أن التاريخ الإنساني مليء بأحداث لها من التداعيات والعواقب ما يتخطى آثارها المباشرة المتوقعة، بما توجده وتستحدثه من تطورات وتغيرات جذرية على البنى والهياكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولو بعد حين، سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي والدولي.

المشكلة أن هذه السياسة الأمريكية التي تؤجل حل الأزمات، فيما تعمل القوى المنافسة لأمريكا على تزخيم هذه المشاكل وتفعيل دينامياتها لتتفاقم في وجه أمريكا وتضعفها مع الزمن، وهذه لن تتم إلا من خلال التضحية بساحات معينة تشكل خطوط تماس الصراع بين أمريكا وهذه القوى، وخاصة وأن هذه القوى غير قادرة على ضرب المصالح الأمريكية بشكل مباشر فتعمد لتعويض ذلك على خلق أزمات على حافة هذه المصالح في محاولة لدفع واشنطن إلى الرضوخ لمطالب هذه القوى لتغيير تراتبية سلم القوى في صناعة السياسات الدولية، باعتبار أن أمريكا هي الفاعل الأكبر والمؤثر في هيكلية النظام العالمي الحالي.

سورية أرض كاشفة لهذه السياسات، فهي بالمعنى المباشر لمفهوم المصالح الأمريكية تقع خارج هذا الإطار، وهي بالمعيار الآخر لروسيا وإيران ساحة حافة لتلك المصالح، ووقوع سورية بين حدي الإدراك الأمريكي الضيق والنهم الروسي الإيراني، حوّلها إلى أرض خراب معمم، وينذر بتحويلها إلى ما هو أسوأ من ذلك بكثير، السياسات الأمريكية الضعيفة اكتفت بردة الفعل تجاه الحدث السوري مثل تصنيف "جبهة النصرة" في قائمة المنظمات الإرهابية، أو في أحسن الأحوال إقامة مناطق عازلة في الجنوب وحصر الهدف الإستراتيجي من ورائها بحماية إسرائيل والمملكة الأردنية، وحصر الخراب والآثار السلبية للحدث في أماكن خارج الحيز القريب من حدود إسرائيل والأردن، أو البحث عن الجهات غير المتطرفة في كتائب المعارضة المسلحة من أجل تزويدها بأسلحة غير فتاكة!، وفي ذلك سذاجة غير مسبوقة، فكما أنه يصعب حصر الخراب في مناطق ما بعد الجنوب السوري بالنظر للتداخل الجغرافي والديموغرافي بحيث يبدو الفصل عملية شبه مستحيلة ولوجود عملية تغذية لا يمكن قطعها، كذلك لا يمكن فصل التشابك المعقد بين كتائب الجيش الحر بين إسلامية ومعتدلية وحتى متطرفية في ميدان المعركة لوجود حالة اعتمادية متكاملة، ومن شأن محاولة تفكيكها تدمير الثورة برمتها.

في مقابل ذلك، كل الخيارات الأمريكية التي يجري ترويجها في الإعلام وفي بعض مؤسسات الحكم الأمريكية تجاه سورية، من خطط عسكرية وسواها، لا تعدو مجرد بيع وقت للحلفاء وبيع أوهام للثوار السوريين، ما دام تفعيل كل هذه الخيارات مرهوناً بالعواقب التي قد تطرأ، فالمقصود يصبح إبراز هذه العوائق وتحويلها إلى حائط سد بوجه منتقدي السياسات الأمريكية، إذ من السهل دائماً العثور على العوائق وتصنيعها إن لزم الأمر.

تمتاز سياسات الدول العظمى برؤيتها وحساباتها الإستراتيجية البعيدة المدى، وذلك بقصد إبقاء منظومات مصالحها بعيدة عن المخاطر، وتبدو واشنطن تبتعد شيئاً فشيئاً عن هذا الأمر، وهي انتهت في عهد باراك أوباما إلى فرح طفولي بزيادة كمية النفط المستخلص من الصخور الزيتية، بعد أن كانت تحلم بأن يكون لها استثمار في كل نقطة نفط يتم إنتاجها في العالم!.

النظام العربي: ميت يحمل قتيلاً

أن تمنح جامعة الدول العربية المقعد السوري للمعارضة، فذلك أمر جيد لما يحمله من دلالات رمزية، لعل أكثرها أهمية، إسقاط الشرعية، عربياً عن نظام الأسد، على أن تتبعه بعض القضايا الإجرائية، من نوع سحب الدول العربية، التي ما زالت تقيم علاقات مع النظام، لسفرائها من دمشق، وذلك إجراء سيادي يخص الدول ذات العلاقة، وليس فيه شبهة مخالفة قانونية لا في الشكل ولا في المضمون.

على ذلك تبدو المقاربة الجديدة التي طرحتها القمة الرابعة والعشرون التي انعقدت في الدوحة نهاية آذار/مارس الماضي، أكثر جرأة ووضوحاً، حيث للمرة الأولى ومنذ خمسة عقود سبقت تتاح الفرصة للشعب السوري لتمثيل نفسه، بإبعاد من تسلط على هذا الشعب عبر الانقلابات والمؤامرات، ورسخ سلطته بالمذابح واستباحة القوانين وتركيب دستور على قياسه وقياس بطانته وبالقمع الحديدي الأعمى والأكثر شراسة، وبإلغاء الحياة السياسية، وإشاعة ثقافة السرقة المنظمة و"الرسمية" والتشبيح والفساد وممارسات المافيات الإجرامية. في الدوحة كان ثمة إعلان واضح وصريح ولا لبس فيه، وهو أنه آن لزمن الخجل والمداورة لأن ينتهي، ليس هناك ما هو أكثر عاراً من السكوت على مذبحة بحق شعب بأكمله لا ذنب له سوى أنه طالب بحريته، من نظام يعرف العدو قبل الصديق أنه لا مثيل له في الفساد، يكفي أن ثروة آل الأسد بلغت أرقاما خيالية لإعلان الثورة على هكذا نظام.

ووفق هذه المعطيات، بدا للشارع العربي أن قمة الدوحة تؤسس لزمن عربي مختلف ونمط تعاطٍ جديد، يتحرر من التهويل الذي طالما مارسته بعض الأنظمة الديكتاتورية التي باعت بلدانها رخيصة. النظام السوري نموذجاً في هذا السياق، إذ طالما اعتاش على المزايدة الفاقعة عبر ادعائه بتمسكه بالقومية العربية فيما كان مبعوثوه ودبلوماسيوه يدورون أصقاع العالم يعرضون بيع سورية قطعة قطعة لمن يحمي النظام، ألم يبعها لتركيا أيام الصفاء مع أنقرة؟، اسألوا أهل ريف دمشق الذين ثاروا على النظام بعد أن سمح للمنتجات التركية بالحلول بدل صناعتهم المحلية؟.

غير أن القضية برمتها ستبقى ضمن الإطارين الرمزي والمعنوي ما لم توجد إرادة سياسية عربية حقيقية لنقل الملف إلى طور الفعل والعمل الحقيقي، وذلك تقف دونه عقبات عديدة تتعلق بواقع النظام العربي وآليات عمله، إذ لم يكن من المصادفة أن تفشل الجامعة العربية في العقد الأخير في تحقيق أي إنجاز عملي في إطار العمل العربي المشترك، رغم كثرة القرارات التي تم اتخاذها بهذا الخصوص، ورغم دورية انعقاد واعتماد مبادئ المتابعة والمراجعة من قبل مؤسسة الأمانة العامة التي شهدت تطوراً ملحوظاً في عملها في السنوات الأخيرة، إلا أن الإشكالية الميثاقية وقفت عائقاً أمام إمكانية تحقيق اختراقات ذات قيمة في العمل العربي.

ولعل الإشكالية باتت أكثر تفاقماً في السنوات الأخيرة، وفي ضوء المتغيرات الحاصلة في مرحلة الربيع العربي، والذي أدى إلى حدوث انقسامات كبيرة في بنى العالم العربي، وبين الوحدات السياسية المشكّلة له، الأمر الذي وجد انعكاسه المريح والصريح على مستوى العمل العربي المشترك، إما على شكل سياسات حذرة اتبعتها بعض الأطراف خوفاً من احتمالية انخراط شعوبها في مسار الربيع العربي، أو على شكل سياسات انكفائية، عانت منها أطراف الربيع نفسها التي انشغلت بقضاياها وصراعاتها الداخلية، وبات من الترف التفكير خارج حدودها الجغرافية، ما دام العدو داخل الحدود وتقرير المصير أيضاً يتم هناك.

وحدها دول الخليج العربي التي تبنت سياسات نشطة في هذا المضمار، وسعى النظام الخليجي إلى قيادة العمل العربي المشترك في هذه المرحلة، غير أن هذه السياسات غلب عليها الطابع الدفاعي البحت على خلفية الإدراك الخليجي بخطورة السياسات الإيرانية وإمكانية تهديدها للأمن الوطني لدول الخليج، مما جعل الإستراتيجية الخليجية محصورة ضمن زوايا ضيقة، وجعل سياساتها معزولة بعض الشيء، ربما بسبب عدم تأثر كثير من دول النظام العربي بهذا التهديد، أو بسبب اختراق إيران فعلاً لسياسات بعض الدول العربية والتأثير بمستوى استجاباتها مع التحرك الخليجي.

على ضوء ذلك، تبدو عملية إنقاذ سورية، عربياً،  قضية معقدة، وحتى غير ذات فائدة، ولا يمكن الركون إليها، ذلك أنها تتطلب من الإجراءات ما لا قدرة للنظام العربي ولا لمؤسسة القمة على اتخاذها في هذه الظروف والأوضاع، فعدا عن افتقار النظام العربي للمؤسسات اللازمة لتفعيل قراراته وتنفيذها، كمؤسسة الدفاع المشترك، والمحكمة العربية، وهي المؤسسات التي يمكن من خلالها إنفاذ القرارات وتطبيقها بشكل عملي، فإن النظام العربي نفسه يعاني من إشكالية التبعية للنظام الدولي بأقطابه المختلفة والمتصارعة، وللنظام الإقليمي، الأوسع والأكثر تعقيداً، وبالتالي فإن إجراءاته وأفعاله تبقى رهينة عملية التفاوض والمساومة والصراع الجارية على المستوى الدولي، والتي لا يمكن لأي طرف إقليمي تجاوزها، حتى النظام العربي نفسه.

لقد عانى النظام العربي في السنتين الأخيرتين، من حالة سيولة جارفة بين دوله ودول الجوار الإقليمي، كان من نتيجتها انكشاف هذا النظام بدرجة كبيرة على دول الجوار الإقليمي، وتبعاً لذلك حدثت اختراقات مهمة في بنية النظام العربي، بسبب دعم تلك الدول لبعض المكونات والبنى السياسية والاجتماعية في بعض الدول العربية، بغية التأثير في مستقبلها والتحكم بتوجهاتها وقراراتها وتحالفاتها الإقليمية، وكان من نتيجة هذه الاختراقات وضع الكثير من الدول العربية على سكة التجزئة والانفصال، وهو الأمر الوارد الاحتمال في اليمن وليبيا وسورية، مما يزيد من تعقيدات النظام الإقليمي العربي ويحد من مفاعيله.

النظام العربي مات، قبل الحدث السوري بزمن، وهو اليوم لا يعدو كونه منتدى لعلاقات عامة بين قادة دوله، حتى وظيفته كمصدر للشرعية لبعض الحكام العرب ما عادت ذات قيمة، والمأساة السورية تحولت إلى أزمة دولية بامتياز، الأطراف الوطنية والأطراف الإقليمية فيها تحولت إلى مجرد لاعبين هامشين يؤدون أدواراً وقتية، فقد يتبدلون هم أو تتبدل الأدوار ذاتها، غير أن المهم أن هذا الميت العربي لا قدرة له على حمل القتيل السوري وإكرامه بالدفن.

في زمن المتغيرات الكبرى، تنحط سياسات الدول إلى سلوك أنماط سياسية متخلفة إنسانياً وقيمياً، ويصار إلى إعلاء المصالح الصغيرة على حساب القيم، عند هذه المفترقات غالباً ما تقع النزاعات الدولية والصراعات الكبرى، كل الحروب التي شهدتها البشرية كانت حواصل متغيرات كبيرة شهدها العالم، غير أن القضية في هذه المعادلة أن الكثير من الأمم الضعيفة كانت تبتلعها فوالق هذه المتغيرات وصدوعها.

المصدر: http://arabaffairsonline.org/ArticleViewer.aspx?ID=b36e91ad-4fd3-4e0f-b0...

 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك