الحكم الإسلامي بين كفاءة الأداء الداخلي وواقعية التعامل الخارجي
سعيد رفعت رئيـس تحـريـر مجلـة شـؤون عـربيـة |
|||
إذا كانت الثورات العربية قد أتاحت الفرصة لفتح الأبواب أمام تحقيق نوع من التغيير يسمح بالانفتاح المجتمعي على ثقافة الديمقراطية بأبعادها التحريرية والتعبيرية والتشاركية، إلا أن الشاهد أن هذه الثورات لم تستطع أن تحقق أهدافها في البلاد التي اندلعت فيها، حيث تبدو جميعاً عاجزة عن اتخاذ خطوات التغيير المطلوبة. وبالرغم من تعدد الأسباب التي ساهمت في تكريس هذا الفشل، إلا أن الواضح أن المبرر الرئيس يرجع إلى أن أساليب النظم السابقة في الحكم مازالت مستمرة بركائزها السياسية والاجتماعية والطبقية والاقتصادية الطفيلية، وإن أصبحت تعمل الآن بوجوه جديدة، وفي ظروف قد لا تسمح باستمرار السلطوية المطلقة التي كان يتمتع بها أركان النظم السابقة، وهو الأمر الذي يكشف نهج النظم الأيديولوجية الحاكمة الحالية في دول الثورات العربية التي وضح أن أهدافها الرئيسة في الحكم هو الاستئثار بالسلطة، والإصرار على ارتهان مصالح البلاد بتوافقها مع ثوابتها الأيديولوجية، وإقامة سلطة موازية تخضع لحكم وأهداف الجماعة، واستعدادها في هذا الشأن لتثبيت حركة السياسة في نفس المكان، بل وعدم ممانعتها في التراجع والنكوص في مواقفها إلى حال ما قبل اندلاع الثورات إذا دعت الضرورة. هذا فضلاً عن إتباع أساليب أكثر تخلفاً من حيث استغلال الدين لتحقيق مكاسب سياسية في القضايا الوطنية، واستعمال نفس الإجراءات القمعية في مواجهة حركات المعارضة، والاحتجاجات الشبابية التي مازالت تحمل هم الثورة، وتعمل على تحقيق أهدافها. ولذلك، فقد سجل تيار الإسلام السياسي في دول الثورات العربية هبوطاً ملحوظاً في شعبيته، وتراجعاً كبيراً في جاذبيته الدينية، الأمر الذي اضطره إلى الاستجابة لبعض المطالب الشعبية والمعارِضة وإلى تخفيف بعض مواقفه المتشددة التي يصعب ردها إلى تنامي حسه الديمقراطي، أو تبلور الرغبة لديه في إشراك المعارضة في ترتيبات شئون البلاد خلال المرحلة الانتقالية، وإنما يعزى هذا التغيير إلى الأسباب التالية: أولاً: ظهور الرغبة الجامحة لدى هذا التيار في الهيمنة على السلطة دون شريك وذهابه في هذا الشأن في بعض الدول إلى حد التضحية بعلاقاته مع أجهزة بالغة الأهمية مثل القضاء والإعلام وذلك بالتوازي مع فشله الواضح في التوصل إلى أية حلول للأزمات السياسية والمعيشية المتراكمة، مما أبعد عنه قطاعات عريضة من الناخبين اكتشفت أن ممارسته للحكم لا تختلف كثيراً عن النظم التي قامت الثورات لاقتلاعها. ثانياً: المقاومة الشرسة التي تقابل بها المجتمعات العربية مساعي فرض أنماط ثقافية وسلوكية عليها، وتمسك المجتمع الأهلي والمدني بمواقفه من قضية الديمقراطية، ورفض التوجهات السلطوية، في مقابل فشل الإسلام السياسي في اجتذاب أي من الأحزاب المدنية والليبرالية والعلمانية، بل ازدادت لديها نبرة الرفض، ووتيرة الاعتراض على مشروع الدولة الدينية. ثالثاً: عجز تيار الإسلام السياسي عن اختراق المؤسسة العسكرية مما حرمه من الاستحواذ على جهاز شديد الفعالية في مواجهة المعارضة. وهو الأمر الذي منع هذا التيار من أن يفرض بالقوة ما عجز عن تحقيقه بالسياسة، خاصة مع ما أظهرته التجربة من أن لجوءَه إلى الجهاز الأمني لم يسعفه في مواجهة الحركات الاحتجاجية، خاصة مع إعلان مؤسسة الجيش وقوفها إلى جانب المطالب الشعبية التي قامت الثورة من أجل تحقيقها. ومن هنا، جاءت مطالبات بعض القوى السياسية والاتجاهات الشعبية بعودة القوات المسلحة إلى الحكم للتخلص من هيمنة تيار الإسلام السياسي، والنهوض بمؤسسات الدولة، وهو ما يعني الموافقة الضمنية على قيام انقلاب عسكري على الرئيس المنتخب والدستور، بما يعكس قوة المشاعر الشعبية التي يحركها الإحباط العام في الشارع السياسي نتيجة فشل أداء الحكم وإصراره على حصر الديمقراطية في صندوق الانتخاب، وتجاهله لحجية منطق " شرعية الإنجاز "، واتجاهه – دون خبرة أو كفاءة – إلى محاولة تغيير هوية المجتمع والدولة في وقت قصير. وإذا كان من الطبيعي أن لا تلقى هذه المطالب ترحيباً من معظم تيارات المعارضة أو من القطاعات الشعبية الواعية، فضلاً عن إدراك قيادات القوات المسلحة بمخاطر وتحديات التدخل في مشكلات الحكم، وعزوفها عن تكرار التجربة الصعبة التي خاضتها بعد قيام الثورة، ورفضها تستر بعض القوى السياسية المعارِضة وراءها لإخفاء فشلها السياسي وكسلها الحركي، فضلاً عن إدراكها بعدم ترحيب البيئة الإقليمية والدولية بالانقلابات العسكرية ضد الديمقراطية، إلا أن الرأي السائد مع ذلك أن القوات المسلحة ستبقى طرفاً فاعلاً في المشهد السياسي، يتناسب تأثيرها مع طبيعتها المؤسسية المستقرة، وثقة الشعب المتزايدة بها، وذلك في ضوء قدرتها على ضبط الأوضاع، واحتواء التفاعلات السلبية، وحماية الشرعية الدستورية والقانونية، وتحقيق التوازن في المشهد السياسي، ومنع تدهور أحوال البلاد إلى حرب أهلية أو فوضى دون أفق سياسي. وبالرغم من الارتدادات التي أصابت الثورات العربية، وما أدت إليه من مشاعر الإحباط والتوتر لدى الشارع العربي، ومن هواجس القلق من استمرار تأثيراتها السلبية على الاستقرار والأمن في البلاد، خاصة في ضوء تصاعد حركات التمرد وممارسات العنف من جانب عناصر تعاني من الفقر والتهميش، وترغب في التنفيس عن إحباطاتها، والتعبير عن غضبها والانتقام من ظلم المجتمع لها عبر الاندساس في المظاهرات الاحتجاجية وتشويه صورتها السلمية، فضلاً عن ظهور مجموعات مدنية وإسلامية تباشر العنف بفعل اتساع رقعة الانقسام على المستويات الدينية والسياسية والجغرافية، إلا أن الشاهد أن الثورات، رغم ما تعانيه من مظاهر التراجع ونوازع التحلل، قد نجحت في إظهار المؤشرات التالية: أولاً: اختبار حكم الإسلاميين، ومدى كفاءتهم، وصدق أو كذب شعاراتهم، واستشعار ردود أفعالهم تجاه كل مستوى معارض أو سلوك مناهض أو تحرك رافض. ثانياً: اكتشاف حجم التأثير الأمريكي في الداخل العربي بدءًا من دوره في تنحي قادة الأنظمة السابقة، إلى نقل السلطة إلى التيارات الإسلامية، ونهاية بالهرولة تجاه واشنطون للتأكيد على استجلاب رضاها واحترام مصالحها وطمأنتها على أمن إسرائيل. ثالثاً: ظهور المواقف الحقيقية لبعض السياسيين والمفكرين التي أثبتت التداعيات عدم ثباتهم على مواقفهم أو احترامهم لانحيازاتهم الفكرية السابقة أو التحاقهم الانتهازي بالسلطة الجديدة، الأمر الذي أظهر أن النخب التي نجحت في ركوب الثورات مازالت تصر على امتطاء انكساراتها. رابعاً: إلقاء الضوء على رعونة بعض الرموز الثورية التي أفرزت تشرذماً وتشتتاً وتصارعاً، ورغبة عارمة في الصدام مع الجيش دون روية أو حكمة. وهو الأمر الذي أفاد الإسلاميين ومهد طريقهم إلى السلطة، فضلاً عن إظهار سلبية مواقفها في كافة الاتجاهات، فهي لا تتحمل الإسلاميين، ولا تطيق العسكر، ولا تملك الأدوات التي تُمكنها من الحكم. على أنه إذا كانت أخطاء الحكم الإسلامي تعتبر السبب الرئيس فيما تعانيه دول الثورات من فوضى وتردٍ وارتباك، إلا أن القوى المعارِضة في هذه الدول قد انزلقت بدورها في أخطاء فادحة تسببت في تراجع أدائها، وهز صورتها، وافتقاد شعبيتها، ويمكن إيرادها فيما يلي: أولاً: التمسك بنزعة استئصالية تتمثل في الاعتقاد بأن الأحزاب ذات المرجعية الدينية ليس من حقها ممارسة السياسة، أو تولي مقاليد الحكم، وذلك بالرغم من أدوارها المشهودة في معارضة النظم السابقة، والتضحيات التي بذلتها في مقاومتها، فضلاً عن اعتبارها جزءًا من نسيج المجتمع العربي، وفصيلاً أساسياً من فصائله السياسية. ثانياً: معارضة الحركات الإسلامية من زاوية التركيز على طبيعتها، وتحويل النقاش معها إلى وجهة عقائدية، والجدل بشأنها من داخل المنظومة الدينية، رغم أن هذا التوجه لا طائل من ورائه، لما هو معروف من أن الممارسة السياسية، والبناء الديمقراطي المتدرج، وحرية التعبير، والجدل السياسي، هي التي ستظهر الفجوة التي تفصل بين المقولات النظرية والممارسات العملية. ثالثاً: المراهنة على الشارع في إسقاط الأنظمة الإسلامية، وهو أمر يعرض البلاد لمخاطر غير محسوبة، باعتبار أن انتشار الفوضى في المجتمعات قد يؤدي إلى إرباك الحكم، ولكنه لن يسفر عن انتصار المعارضة الديمقراطية، بل قد يفتح المجال أمام حركات أكثر راديكالية من الحكام الحاليين. رابعاً: أن مهمة المعارضة العربية ليس مجرد النقد والتصيد والتسفيه، دون تطوير خطابها ورؤاها بحسب التطورات الجارية التي تشهدها المنطقة، والانتقال من سياسة رد الفعل إلى سياسة الفعل الإيجابي، خاصة وأن هذا التطور سيكون مفيداً لها كي تتخلص من قيادات تجاوزها الزمن، وتنفتح على طاقات جديدة وأطروحات مختلفة، وتراهن على الشباب صاحب الفضل الأكبر في إنتاج وإطلاق الثورات. خامساً: أن الحركات الإسلامية ليست وحدها المعنية بالتخلص من أوهامها الشمولية ومقولاتها غير الديمقراطية، إذ أن المعارضة أيضاً تواجه تحدي التحديث، والانتقال من شعارات ديمقراطية مجردة إلى مشروع حقيقي لتنزيله على الواقع العربي بما يحتويه من خصوصيات وتعقيدات اجتماعية وثقافية. ومع ذلك، فإن الواضح من تطورات الثورات على الساحة العربية أن إرث النظم السابقة يلقي بظلال قاتمة على الأوضاع الجديدة، ويؤثر على أهداف وتوقعات الحركات السياسية التي ظهرت في المجال العام خلال الربيع العربي، فضلاً عن تأثيرها على أشكال التنظيم والسلوك السياسي، ويظهر تأثير ذلك في الدلالات التالية: أولاً: أن السيطرة على الدولة مازالت حتى الآن تمثل الغرض الرئيس للسياسة، وثمرتها المرجوة في نهاية المطاف. وهو أمر ظهر في ممارسات القيادات الإسلامية الحاكمة في دول الثورات العربية. إذ إنه في ظل افتقاد قواعد لممارسة ديمقراطية يتكرس من خلالها التوافق والإجماع، كان التركيز المفرط في معظم الصراعات السياسية على قضايا السلطة والتمثيل والمكانة، مما حجب الحاجة الملحة لوضع سياسات وبرامج عملية للتعامل مع القضايا الحياتية الراهنة والمستقبلة في كافة المجالات. ثانياً: أن الحركات السياسية التي ساهمت في انفلات رأس المال وتورطه في قضايا الفساد الكبرى، وقايضت على مبدأ رعاية الدولة في الماضي، مازالت تلعب دوراً قوياً في الحوار الدائر حول إعادة تشكيل الدولة، على أمل أن تعيد إنتاج امتيازاتها الاقتصادية ومكافآتها المالية السابقة. ثالثاً: أن الإرث السلطوي يلقي بظلاله على أشكال التنظيم السياسي. إذ أن جماعات الحكم الإسلامي التي تمكنت من ترجمة تاريخها الطويل من النشاط السري إلى انتصارات انتخابية، مازالت تكافح من أجل التخلص من عادة ممارسة العمل السري المُعارِض، والتحرك من خارج نطاق القانون. كما أن منافسيها يجهلون – مثلها تماماً – كيفية استخدام الوسائل السلمية لخوض المنازعات السياسية، وأساليب استثمار الهياكل والإجراءات الديمقراطية الحثيثة للمنافسة على أساس السياسات والبرامج والأداء الفعلي. رابعاً: مازال العنف يشكل جزءًا لا يتجزأ من العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين الجهات السياسية الفاعلة. ويبدو هذا واضحاً في تحديد دور الشرطة وجهاز الأمن الداخلي حيث يدور الصراع في جزء منه بين من يرغبون في الإصلاح والحفاظ على المؤسسات القائمة والأفراد الموجودين فيها، على أمل استعادة الأمن والنظام بسرعة أكبر، وأولئك الذين يصرون على إجراء تغيير فوري جدي في تلك القطاعات لضمان حياديتها، وتجنب ولائها المطلق للنظم الجديدة. على أن التطورات التي لحقت بالثورات العربية نتيجة تداعيات الأحداث على الساحات الداخلية، وانفجار ممارسات العنف، وانقسام المجتمعات بين التيارات المدنية والإسلامية قد أظهرت عدة ظواهر مستجدة يمكن حصرها فيما يلي: أولاً: كثرة التظاهرات المناهضة للإسلام السياسي، وتبلور دلائل على استفاقة قطاعات عريضة على أهمية الإسلام التقليدي والشعبي كأحد مكونات الشخصية الثقافية للمجتمع. وهو الأمر الذي يوضح حدة الفوارق التي أصبحت تعكسها صورة الأوضاع في الدول العربية من حيث التعارض بين مفهوم معتدل للإسلام يواكب الحياة الحديثة، وبين مفهوم ثقيل يختزل الحداثة ويتجه إلى التعبئة المكثفة التي تستلهم مفاهيمها من تاريخ غابر، ومن صيغ تفنَن العقل النقلي في ابتداعها إزاء بناء الدولة. ثانياً: طرحت الأحداث على الساحة العربية من جديد ثنائية التنمية والديمقراطية وأيهما يأتي أولاً. إذ أن القناعة تزداد بأنه يصعب تحقيق الديمقراطية في بيئة محاصرة بالفقر والجهل وقلة الحيلة، ومن دون تنمية إنسانية شاملة. وبأنه ما لم تتوافر هذه الظروف فسيبقى التغيير شكلياً يستبدل وجوهاً قديمة بأخرى جديدة، وسيبقى التشبث بالسلطة هو الغاية والهدف. ثالثاً: أن التجارب في دول الثورات العربية قد أثبتت أن العامل السياسي لا يمكن أن يحسم معركة الحرية العربية ما لم يسبقه أو يواكبه على الأقل العمل الثقافي. وهو أمر أثبتته التجارب التاريخية العربية التي حاولت المراهنة على تحويل المجتمعات العربية في اتجاهات معينة بعمليات قيصرية لم تتمكن من النفاذ إلى صلب المجتمع فظلت دخيلة عليه، مما يوضح حاجة الانتفاضات العربية إلى ثورة ثقافية في الاتجاهات والمفاهيم والرؤى، تحقق التأسيس لحراك سياسي غير مهدد بالانتكاس أو آيل للسقوط. رابعاً: أن العلاقات الخاصة التي كانت تربط تيار الإسلام السياسي ببعض تنظيمات السلفية الجهادية، والتي كانت تتمثل في صلات التعاون، وشبكات المصالح، وعلاقات الدعم والمساندة المتبادلة مع نظم إسلامية مجاورة، لم تعد تلائم الوضع الرسمي للتيار الإسلامي الحاكم، حيث وضعته في موقف بالغ الحرج، مابين ثبوت مسئولية هذه التنظيمات عن أعمال القتل والخطف وانتهاك هيبة الدولة، وبين حرص الحكم الإسلامي – في نفس الوقت – على استرضائها، ومحاولة احتوائها ، لحاجته إليها إذا ما جدت ظروف يشعر معها الإسلاميون بوجود تهديد حقيقي لسيطرتهم على الحكم. ومن هنا، كان نكوص الدور العربي على الساحة الإقليمية والدولية موازياً مع تراجع الثورات العربية، وفقْدها لقوة الدفع وديناميكية الحركة، من جراء القفز على السلطة من قبل قوى سياسية " مناوِرة " عملت جاهدة على انتكاس حركة الثورة، رغم الإصرار على التحدث باسمها، وتحييد دور الشعوب كعامل مؤثر وضاغط على سياسات الدول الداخلية والخارجية. وقد انعكست تداعيات هذا الاتجاه في إظهار حرص النظم الجديدة على إظهار علاقاتها بالدول الغربية وكأنها تمثل رافعة لتكريس شرعيتها، والاستقواء بها على مواطنيها. وهو أمر تعاملت معه السياسات الغربية البرجماتية بما تقتضيه الظروف من واقعية سياسية، خاصة مع تقديرها أن هذه القوى هي الأكثر تنظيماً على ساحة دول الثورات العربية، في ضوء حالة الانقسام والتشرذم وعدم الفعالية التي تعاني منها المعارضات العربية، لاسيما مع ما لمسته السياسات الغربية من استعداد هذه القوى للالتزام بنفس سياسات النظم السابقة. وبناء على ما سبق، فقد كان من الطبيعي أن تنعكس انتكاسات الثورات العربية على السياسات الخارجية لدولها، وعلى أدوارها على الساحة الإقليمية، وعلى فعالية تأثيرها في أحداثها، وعلى وزنها السياسي في تقدير القوى الدولية النافذة، ومن هنا، يمكن تفسير التطورات التي تتم على الساحة العربية من منظور السياسة الأمريكية وعلاقتها بقوى الإسلام السياسي بما يلي: أولاً: أن الرئيس الأمريكي أصبح راغباً في تقليص الانغماس السياسي والعسكري في الملفات الخارجية عامة وفي تلك المتعلقة بالشرق الأوسط بصورة خاصة، حيث يبدو أنه توصل إلى قناعة بعدم فائدة السعي إلى حلول جذرية لهذه الملفات، وهو ما يبدو أنه معني، قولاً وفعلاً، بالسعي إلى إدارة الأزمات في المنطقة لاحتوائها، ومنع تفاقمها، وليس بالضرورة إيجاد الحلول لها. ثانياً: أن زيارة أوباما الأخيرة للمنطقة كانت تستهدف أساساً طمأنة إسرائيل إلى أن التبدل في النهج الأمريكي من حيث الانسحاب من المنطقة لا يشملها، وأن العلاقة الوثيقة بينهما ستظل قائمة، والالتزام الأمريكي "بالحق الإسرائيلي" سيظل قطعياً. وأن قيامه بزيارة بعض دول المنطقة إلى جانب إسرائيل يسير في اتجاه السعي لوضع هذه المبادرة موضع التنفيذ. ثالثاً: أن التصور الشائع بأن المجتمع الأمريكي يسير في اتجاه الحق وإسقاط الغشاوة التي نجمت عن عدم فهم القضية الفلسطينية، هو في الغالب من باب التمني والوهم. إذ أن القراءة الأمريكية الراسخة في تأييد إسرائيل ليست وليدة مناورات سياسية أو تلاعب دعائي، بل هو نتيجة تاريخ ثقافي ورصيد ديني وقناعة أخلاقية، ولذلك فإنه مع قرب تمكن الولايات المتحدة من الوصول إلى مستوى الاكتفاء الذاتي في إنتاج الطاقة واستهلاكها، وإزالة هذا الموضوع كعامل في السياسة الأمريكية تجاه المنطقة، فإن التوقع أن يسير الموقف الأمريكي نحو مزيد من المجاهرة والصراحة بحقيقة توجهاته. رابعاً: أن الولايات المتحدة في طريقها لإسقاط ما يسمى بالشرق الأوسط الكبير من مفردات سياستها الخارجية، واتجاهها إلى التركيز على علاقاتها الثنائية بدول الثورات العربية، والعمل على تأكيد نفوذها من خلال التأثير المباشر والناعم في التطورات الداخلية لهذه الدول، خاصة في ظروف سقوط محور "الممانعة" بعد اندلاع الثورة السورية، وتغير أدوار إيران وحزب الله إلى التعامل مع المشكلة السورية كقضية وجود. وبالرغم من ذلك فإن الولايات المتحدة تتجنب التدخل العسكري في سوريا لضعف تأثيراتها على المصلحة الأمريكية، ولعدم ممانعتها في استمرار النزاع، طالما أنه يشكل استنزافاً لإيران، وإشغالاً لحلفائها في لبنان والعراق. ومع ذلك فإن الواضح أن أمريكا تدفع ثمن موقفها السلبي، عبر موافقتها على عقد مؤتمر حول سورية لا تتوافر له أسباب النجاح، وقيامها بتجاهل زيادة التسليح الروسي والإيراني للنظام في مقابل تأجيل تسليح المعارضة، وبالتهاون تجاه الدور العسكري لحزب الله داخل البلاد، الأمر الذي ينبئ بإعطاء النظام فرصة جديدة لتغيير المعادلة على الأرض لصالحه. خامساً: أن التعامل الأمريكي مع النظم الإسلامية الحاكمة في المنطقة – وخاصة في مصر – يتم وفق ثوابت تتعلق بالعلاقات الأمريكية الإسرائيلية، واستمرار العمل باتفاقية السلام، وتفادي خلق بؤر توتر في التعامل مع إسرائيل، فضلاً عن التقدير الأمريكي لوضع الجيش المصري بصفة خاصة، وتسليحه والحفاظ عليه موحداً كقوة داخلية ضابطة، وكقوة خارجية معادِلة في أي صراع إقليمي. هذا بالإضافة إلى التعاون الاستخباراتي في مجال مكافحة الإرهاب مع الدول العربية الصديقة. سادساً: أما بالنسبة للجوانب الأخرى في العلاقات، فهي تعتبر أقل أهمية مثل: القبول الشعبي لتوجهات النظم الجديدة، والموقف من الحريات والمرأة والأقليات، وهي أمور قد لا تحبذ الإدارة الأمريكية نظم الحكم على انتهاكها، إلا أنها لا تدفع وحدها إلى اتخاذ تغير جذري في الموقف الأمريكي تجاه الحكم في الدول العربية. المصدر: http://arabaffairsonline.org/ArticleViewer.aspx?ID=e1c1688f-7516-45e6-a6... |