جدلية العالم والحاكم ومنعطفات التغيير
محمد علي جواد تقي |
اين تكمن الجذور الحقيقية وراء الانهيار السريع والعجيب للأنظمة السياسية في البلاد العربية؟ الكثير تابع وكتب عن المشاكل الاقتصادية التي سببت ازمات اجتماعية زعزعت الاستقرار السياسي، وفي نهاية المطاف انتقم العاطلون عن العمل ومحدودي الدخل والمضطهدون في معيشتهم وحياتهم، من الحكام الذين استأثروا بالسلطة ثم بالمال العام وعاثوا في الارض الفساد. لكن اذا امعنا النظر قليلاً رأينا ان سبباً آخراً كان وراء انقلاب الامر على أنظمة الحكم، بدليل بسيط؛ ان السارق عندما يلقى القبض عليه سيبحثون عن الخلفية التي ادت به للسرقة، وهكذا سائر الجرائم، ولعل هذا تحديداً ما حيّر الشعوب... فكيف بالرئيس الذي يدعي خدمة الوطن والشعب وحب الناس، يتضح فجأة انه يكتنز المليارات وانه كان يضحك على ذقون شعبه؟ ولذا كان انفجار البركان الجماهيري عارماً وغاضباً، أطاح برؤوس كبيرة لم يكن أحد يتصور سقوطها، والحبل على الجرار. ان حقائق التاريخ والسنن الإلهية في القرآن الكريم تدلنا على ان الشرخ والهوّة بين الشعوب والحكام لا تحصل لولا حصول شرخ قبله بين هؤلاء الحكام وبين العلماء. وعندما نقول (علماء) نقصد العالم العامل الذي من شأنه ان يقدم المنهج المتكامل لحياة سعيدة للإنسان ويجيب على كل استفهامات الحياة، ويجعل هذه الحياة قنطرة آمنة نحو حياة حرة وكريمة، ونظرة سريعة على الآيات الكريمة التي تروي لنا قصص الانبياء مع ملوك وطغاة زمانهم توضح لنا المسألة بشكل واضح. الى ذلك يشير سماحة المرجع الديني الراحل الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في دراسة سلّط الضوء فيها عواقب ونتائج العلاقة المختلّة بين العالم والحاكم، وجاءت ضمن كتيب تحت عنوان (تحطم الحكام بمحاربة العلماء). وحدد سماحته عدة عواقب وخيمة لهذا التباعد، تترك تأثيرها ليس فقط على الحاكم من جهة والعالم من جهة اخرى، وحسب، إنما على وضع البلاد اقتصادياً واجتماعياً وحتى حضارياً وعلى مصائر الناس وتجعلهم يدفعون ثمناً باهضاً كما نشهد اليوم. أولاً: الكراهية الجماهيرية يعرف الحكام قبل تسلّقهم كرسي الحكم إن الشعب يكنون الحب والمودة لعلمائهم والسبب في ذلك واضح جداً، أولاً: لأن عالم الدين لايتكلم ابداً بما يضر الناس، وهذا أمر مسلّم به في كل زمان ومكان، والامر الثاني والمهم: ان هذا العالم لا يدعو لنفسه، ولاينافسهم على مصالحهم، فيما يستهدف الحاكم هذه المصالح منذ الوهلة الاولى، فلا يطيق رؤية الاثرياء والعلماء والاذكياء والوجهاء في المجتمع، فيما هو ناشئ من ثكنات الجيش ومتشبع من مبادئ الغدر والدجل والتزوير. والامر الثالث والأهم: انه معروف بنشر العلم والمعرفة من خلال مدارسه وحوزاته ومكتباته هذا الى جانب مؤسساته الخيرية والثقافية. بينما العكس تماماً عند الحاكم، اضافة الى صفات اخرى مثل الحضور الدائم بين الناس فهو منهم واليهم، وهي من الصفات البارزة التي تميّز بها الامام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام عن غيره. وبعد كل ذلك كيف سيكون موقف الشعب من الحاكم الذي يعادي عالم الدين؟ ولاننسى ان خصال عالم الدين وسجاياه هي امتداد لخصال المعصومين وفي مقدمتهم الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، فاذا نرى استجابة الناس وتفاعلهم من العلماء ومراجع الدين، فإنما هو نابع من ايمانهم وولائهم لأهل البيت عليهم السلام، وهم بذلك يقصدون التقرب اليهم اكثر ثم الى الله تعالى من خلال أولئك العلماء. يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أقرب الناس من درجة النبوّة أهل العلم والجهاد)، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: (علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل). وطالما تصور الحكام ان من السهل انتقال الحب والولاء الجماهيري من العالم الى الحاكم، من خلال وسائل خسيسة ورخيصة من قبيل تشويه السمعة وبث الاشاعات الكاذبة، لكن الايام اثبتت فشلهم الذريع لذا عمدوا الى القمع والتنكيل ونرى اليوم النتائج، فبعد اعتقال العلماء وتعذيبهم واغتيالهم، ها هي اليوم الصور الكبيرة للحاكم تضرب بالاحذية وتشعل فيها النيران فيما العلماء يحملون على الاكتاف ويأتون بهم الى صلاة الجمعة والجماعة بحضور الملايين، وهذا ما شهدناه في العراق بعد سقوط صدام. ثانياً: التخلّف عندما ينفصل الحكام عن العلماء ويصبح جزءاً من مصالح شركات النفط ومصانع انتاج السلاح وعموم المصالح الدولية، تبدأ مسيرة التخلف العلمي والثقافي، وكيف لهم قيادة مسيرة النمو والتطور وهم يفتقدون للاستقلالية في كل شيء سوى الظاهر من الاسم والمراسيم البروتوكولية القشرية؟ بينما علماء الدين معروف عنهم استقلاليتهم في كل شيء، وهذا مشهود لهم، لاسيما علماء الدين الشيعة الذين لم يركنوا الى الحكام منذ عهد الاستعمار وحتى اليوم، وقد أكد هذه الحقيقة العديد من المؤرخين والباحثين. لنلاحظ الدول المتقدمة في العالم، ونأتي بمثال من العالم الثالث حيث بلدان عاشت ظروف الاستعمار والحروب المدمرة والازمات مثل الصين والهند، ما الذي أوصلها الى مراتب الدول المتقدمة في العالم وجعلها تنافس الاسواق العالمية في منتجات عديدة؟ هل كان الحكام واصحاب الكراسي هم من دفعوا بعجلة العلم والابداع واوصلوا بلدانهم الى هذه المرتبة؟ أم ان العلماء والمبدعين بما لديهم من حرص بالغ على حياة الانسان، هم الذين كانت لهم اليد الطولى في هذه المسيرة؟ نعم؛ للحكومات دور كبير ايضاً لكن في احتضان وحماية هؤلاء العلماء وتقديم كل ما يحتاجونه للوصول الى افضل النتائج. وبذلك تحولت تلك البلاد من بلاد كانت بالأمس القريب مستعمرة وذليلة الى بلاد يحتاج اليها العالم، وهذا يذكرنا بحديث امير المؤمنين عليه السلام: (احتج إلى من شئت تكن أسيره واستغن عمن شئت تكن نظيره). يقول الامام الشيرازي (رحمه الله) من جملة ذكرياته ان رئيس العراق الاسبق عبد السلام عارف أرسل وفداً إلى فرنسا لشراء المعدات العسكرية وكان من جملة قائمته (فتيل الانفجار) فتعجبوا الفرنسيين من هذا الطلب، وقالوا: ألا تصنعون أنتم هذه الفتيل)؟! فقالوا: كلا...! قالوا: إذاً كيف تحاربون إسرائيل وهي تنتج أنواع الاسلحة المدمرة ومنها (القنبلة الذرية)؟! لقد حاول الحكام في بلادنا الترويج لكذبة ابتعاد الاسلام وعلماء الدين عن العلم والعلماء، إرضاءً للدوائر المخابراتية ومن خلفها المؤسسات الاقتصادية والاروقة السياسية ليخلو الجو لاقتسام الغنائم في بلادنا الغنية والثرية ليست فقط بالموارد الطبيعية إنما البشرية والعقول ايضاً، فهم يعلمون جيداً انه في غير ذلك، فان علماء الدين سيعيدون ذكريات فجر الاسلام حيث ازدهرت الحضارة الاسلامية واضاءت للعالم بمختلف العلوم والمعارف، واليوم نجد مؤلفات مهمشة تؤكد الفضل الكبير للإسلام على التقدم العلمي الذي بلغه الغرب اليوم. ثالثاً: الاضطرابات السياسية ان وجود العلماء الى جانب الحكام يشكل صمام أمان لاستقرار البلد سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، واذا نجد البلاد الغربية تشهد استقراراً سياسياً ولا تعرف الانقلابات العسكرية، فذلك بفضل وجود المؤسسات الدستورية مثل مجلس النواب ومجالس الاعيان او الشيوخ ومسمّيات عديدة، والهيئات الرقابية الى جانب مراكز الابحاث والدراسات التي تقوم كلها على اكتاف العلماء. أما عندما يكون زمام الامور بيد أناس بالكاد يكونوا قد أنهوا الدراسة الابتدائية او الاعدادية والصقوا بانفسهم ألقاب من قبيل (دكتور) أو (استاذ)، فانهم لن يفكروا بشكل علمي لادارة البلاد، إنما بشكل مصلحي بحت، لسبب بسيط وواضح انه يعرف بمحدودية الفترة التي يتسنّم فيها المنصب وان آخرين يقفون خلفه بالدور وربما يكونوا اكثر شراسة وقوة منه، فيسعى للاستفادة من الوقت ما أمكن بالاستحواذ على اكبر قدر ممكن من الاموال والامتيازات. وعندما تكون الاوامر والقرارات والاجراءات مصلحية وأنانية فمعنى هذا تمهيد الطريق أمام التنافس الشرس على السلطة. ويجب ان نتذكر دائماً ان القوى الكبرى سياسياً واقتصادياً تراقب هذه الحالة النفسية لدى النخبة السياسية في بلادنا، فهي تغطي عليهم بهالة من الشرعية الدولية والتعامل معهم كزعماء دول حقيقيين، لكن عندما تنتهي مدة الصلاحية، يرموهم جانباً فتفوح منهم الرائحة النتنة ويكونوا هدفاً للركل والاشمئزاز، ليحلّ محلهم أناس آخرين. الحل و البديل ان لكل شيء باب للدخول بشكل صحيح وآمن، والدولة الآمنة والمستقرة بابها هو العلم والعلماء، وليس الاحزاب والجماعات السياسية وجنرالات الجيش والكارتلات الاقتصادية، وقد حدد الاسلام الصيغة المتكاملة لنظام الحكم يضع كلٌ في محله، ويعطي كلٌ دوره المناسب. جاء في الحديث الشريف: (إذا رأيتم العلماء على أبواب الملوك فبئس العلماء وبئس الملوك، وإذا رأيتم الملوك على أبواب العلماء فنعم العلماء ونعم الملوك)، وجاء في حديث آخر: (الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك). فما هي ملامح هذه الصيغة الاسلامية؟ 1-شورى المرجعية.. وهي ان تكون في الدولة الاسلامية شورى لمراجع الدين يبحثون ويقررون السياسات العامة والتشريعات والقوانين بما يخدم مصلحة البلد ويضمن حقوق الناس، وعندها تكون المؤسسات الدستورية والنظام السياسي مرتاح البال من حيث صلاحية تلكم القوانين ومواد الدستور وتتفرغ للتنفيذ والتطوير والمراقبة وغير ذلك. 2- حرية الاحزاب ومنظمات المجتمع المدني.. فمن خلال النافذة يتمكن المجتمع من تنفس الثقافة والمعرفة وتسهل عليه مهمة السير في طريق طلب العلم، لأنه يعرف عندما يتخرج طبيباً او مدرساً او مهندساً او حقوقياً فانه سيكون ذو شأن وتأثير في المجتمع والدولة. وهذا ينسحب ايضاً على مدراس العلوم الدينية ايضاً، فإنها ستكون رديفاً للمراكز العلمية الاخرى، وتتحول الى كيان آخر ضمن ما يسمى في الغرب بـ (مجموعات الضغط)، وفي بلادنا الاسلامية يمكن تسميتها بمجموعات الاصلاح والتقويم وكل ما يوحي الى الايجابية والسلمية، وفي هذه الحالة فان الحكومة وإن كانت تعاني المشاكل او الاخفاقات او حتى من بعض السلبيات مثل حالات الفساد التي لابد ان تظهر من هذا وذاك، ستجد الحوزة العلمية وسائر العلماء والمثقفين والاكاديميين بمنزلة الجدار الاخير الذي تتكئ عليه وتلجأ اليه لحل المعضلات وازالة الشوائب. 3- الترويج للوعي العام، وذلك من خلال برامج ومشاريع تدعمها الحكومة ترفع من المستوى الثقافي والعلمي للمجتمع وفي كافة المجالات، بدءاً من الثقافية الدينية ومروراً بالثقافة السياسية والاجتماعية ثم الأسرية والصحية والبيئية والقانونية وغيرها. كل ذلك لن يكون الا بوجود شريحة العلماء كأحد اركان الدولة والمجتمع. يقول الامام الشيرازي الراحل في احدى مؤلفاته (اننا بحاجة الى طباعة مليارات الكتب وهو اقل الايمان لنشر الوعي بين المسلمين). وسماحته دائماً يذكرنا بالتجربة الرائدة للحضارة الاسلامية وكيف كان العالم ينهل من علوم الاسلام ويكتسب من اخلاق وقيم المسلمين. وكما يقول وهو الحق: (ان الدنيا هي دنيا الاسباب، فلا نتائج دون مقدمات، شاء الإنسان أم أبى، يقول تعالى: "وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى وأن سعيه سوف يرى"، "ثم يجزاه الجزاء الأوفى". واذا كان الامر كذلك فما الذي يمنعنا من خوض هكذا تجربة في بلد مثل العراق وقد حُظي بنعمة عظيمة بعد انتظار دام حوالي قرن من الزمن، وهي نعمة الحرية؟ بل وحتى سائر البلاد الاسلامية، وهي ليست مجرد أمنية او حلم، فالدول الغربية لا تعيش الحلم والوهم، بل الحقيقة على الارض، إنما المسألة بحاجة الى ارادة وتصميم وقرار شجاع لإنهاء القطيعة وردم الفجوة بين العلماء والحكام لتحقق النهضة ويعمّ الخير على الجميع. * مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث |