لماذا لم نصنع بالقرآن حضارة؟؟

أحمد أبورتيمة

القرآن هو كتاب الهداية الإلهي للعالمين، يستهدف تحرير الإنسانية من الإصر والأغلال وتفحير طاقاتها واستثارة أقصى فاعلية لإمكانياتها، وبلوغ النفس حالة السلام والطمأنينة، وعلى المستوى الجماعي تحقيق العدالة وليقوم الناس بالقسط..
لكن الواقع مختلف، فالقرآن اتخذ مهجوراً حتى بين أتباعه الذين يتلونه ليل نهار، والتعامل مع هذا الكتاب أشبه بالطقوس الباردة من التفاعل الحي، ومن يقرؤه فإنما يفعل ذلك بقصد التماس البركة وطرد الشياطين أو في أحسن الأحوال بقصد فهم أحكامه الجزئية دون تدبر المقاصد الكبرى والنفاذ إلى عمق القضايا الرئيسية التي يفرد لها القرآن الحيز الأكبر..
إن الهدف القرآني بإطلاق عقال الإنسان وتفعيل إمكانياته وتنمية مقدراته وتحقيق السلام الداخلي والعدل الخارجي لم يتحقق إلا قليلاً فأين الخلل؟؟
رغم كون القرآن كتاب الخالق المعجز إلا أنه لا يؤثر في الناس بطريقة خارقة، بل هي استفادة مشروطة بالجهد الإنساني وفتح القلب لتلقي معانيه، والقرآن يتحدث عن فريق من الناس لن يزيدهم القرآن إلا خساراً "ولا يزيد الظالمين إلا خساراً"، "وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً"
فتح القلب -وهو الشرط الضروري لتلقي معاني القرآن- هو عمل يجمع بين الروح والفكر، فلا بد من روح شفافة لتلقي هذا القول الثقيل، ولا بد من منهج سليم في التفكير حتى نفقه مقاصد القرآن ومراميه، والقرآن كثيراً ما يحدد مشكلة الكفار بأنها مشكلة عقلية فهم لا يعقلون ولا يفقهون ويستعصي عليهم فهم المعاني القرآنية "حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفاً"، لذا فإن أقفال القلوب التي يتحدث القرآن بأنها تحول بين الإنسان وبين تدبر القرآن هي أقفال روحية وعقلية في آن واحد "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها".
جاء القرآن برسالة هداية للعالمين تتجاوز حدود الزمان والمكان، وهذا يقتضي بالضرورة أن القضايا التي يعالجها القرآن هي قضايا عامة تواجهها البشرية في كل مكان وزمان، وأنها قضايا إنسانية تتناول الإنسان من حيث كونه إنساناً أياً كان لونه وقومه ومذهبه، لكن تعاملنا مع القرآن لا يزال يغلب عليه الطابع النرجسي المنغلق على الذات مما حال بيننا وبين النفاذ إلى عمق المعاني الإنسانية في هذا الكتاب.
نمر على الآيات التي تتناول مشكلات الكفر والشرك والترف والظلم والاستكبار في الأرض فنقول إن هؤلاء هم الآخرون ولا نتفطن إلى الغايات الواقعية لإفراد المساحة الأكبر من القرآن لتناول هذه المشكلات، والتي لا بد أنها تخصنا نحن بالذات وتشتمل على تحذير لنا لأننا نحن من يقرأ القرآن ويتلقى توجيهاته قبل غيرنا.
نمر على الآيات التي تتناول الأحداث المعاصرة لنزول القرآن فنقول إن مقصد هذه الآية تلك الغزوة أو ذلك الصحابي أو المشرك الفلاني، وبذلك نعطل فاعلية القرآن في حياتنا بالغفلة عن السنن العامة التي تتضمنها الآيات حتى تلك التي تتناول أحداثاً تاريخيةً محددةً، وندور مع خصوص السبب ونغفل عموم المعنى.
نمر على الآيات التي تتناول عاقبة الأمم التي خلت من قبلنا، والتي تأخذ حوالي ثلث مساحة القرآن فنظن أنها قصص دينية دون أن نتفكر في الأمراض الفكرية والقلبية التي أهلكت تلك الأمم ونستخرج ما فيها من قوانين عامة فنستفيد منها ونحذر أن يصيبنا ما أصابهم، مع أن المنهج النبوي كان يتمثل في تفعيل هذه القصص التاريخية واقعياً بالربط بين أفعالهم وأفعال الصحابة بقصد رفع مستوى التحذير " إنما أهلك من كان قبلكم.... "
حين نعطل القضايا التي تحتل المساحة الأكبر من الاهتمام القرآني مثل الشرك والتوحيد والكفر والإيمان وعاقبة الذين من قبلنا فنتعامل معها بأنها تتناول قوماً آخرين أو زماناً آخر، وأنها معان ساكنة فهناك قالب اسمه الكافرون، وقالب آخر معزول تماماً اسمه المسلمون لا يصيبه شيء من أمراض الكافرين، ولا نتفطن إلى حركية هذه المعاني وتناولها للإنسان من حيث كونه إنساناً سواءً كان يهودياً أو نصرانياً أو مسلماً، ونغفل عن عموم هذه القوانين القرآنية "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءً يجز به"، حين نفعل ذلك فإننا نهجر أكثر القرآن فلا يتبقى من آياته ما يمكن أن يقوم بوظيفة حيوية في إصلاح واقعنا المعاصر سوى بضع مئات من آيات الأحكام التي نتعامل معها بمنطق بارد بعد أن نزعناها من سياق الكليات القرآنية فخلت من حرارة الروح، وربما نتوقف مع اللفتات القرآنية الجميلة التي تبرز روعة هذا الكتاب ودقته وتدلل على المصدر العلوي له بلا شك، لكنها لفتات موضعية، أي أنها تبقى في حدود الآية الواحدة، ولا تبرز التوجهات الكلية والاهتمامات العامة للقرآن فلا تصلح لإحداث حالة استنهاض حضاري شامل.
حين نظن أن القضايا القرآنية الكبرى التي لا تكاد تخلو صفحة من كتاب الله من تناولها مثل الكفر والإيمان والشرك والتوحيد وعاقبة الذين من قبلنا هي مسائل أيديولوجية معزولة عن الحياة المدنية، أو نتعامل معها بخصوص السبب التاريخي لا بعموم المعنى ولا نتفطن إلى المحتوى العلمي السنني المتجرد عن الزمان والمكان في هذه الآيات فإننا نفرغها من وظيفتها الحيوية بل ونفرغ القرآن كله من وظيفته الحيوية لأن كتاباً يتناول في مساحته الأكبر قضايا على هامش الحياة المعاصرة، وليست ملحةً في الحياة البشرية هو كتاب غير مؤهل للقيام بدور حضاري.
لاستعادة الوظيفة الحيوية للقرآن لا بد من منهج جديد في التعامل معه، فنحرره من سجن الأيديولوجيا التي حجّرت واسعاً ونطلق آياته من أسر القوالب التاريخية فنلمس ما بها من معان إنسانية فضفاضة حتى نستشعر ونحن نتلو القرآن كأنه يتنزل الساعة وبأنه يلامس الاهتمامات الإنسانية المعاصرة ويقدم الحلول الجذرية لأكثر المشكلات البشرية إلحاحاً على كافة المستويات النفسية والاجتماعية والحضارية فلا يعود هذا الكتاب كتاب تراث يخص المسلمين وحدهم، بل يستعيد رسالته العالمية ويدرك الناس أنه ضرورة ملحة لا غنى عنها للإنسانية كلها.
إن القرآن هو الكتاب الأقدر على النفاذ إلى أعماق النفس الإنسانية وتشخيص حالتها بكل صراحة وجرأة دون مواربة، واستخلاص القوانين العامة التي تتناول حركة النفس والمجتمع والتاريخ. لكن هذه الحقيقة لن تكون فاعلةً حتى ننقل القرآن من كونه أيديولوجيا أو كتاباً تراثياً للمسلمين إلى الحقل الفسيح للعلم والسنن والإنسانية..
التعامل العلمي الإنساني مع القرآن يعني أن نخلع نظاراتنا الثقافية والتاريخية ونحن نقرؤه، فنبصر فضاءاته الواسعة، وننفذ إلى عمق معانيه الإنسانية، ونستخلص القوانين النفسية والاجتماعية والحضارية من بين ثناياه.
حين نقرأ قصص الأمم الغابرة لا نقرؤها بأنها قصص دينية، بل نرى فيها قانون الاستعصاء الذي يصيب المجتمعات والحضارات حين تسد منافذ الفهم وتصم الآذان وتغشاها العماية فتتوقف حركة الفكر والعقل وتتمسك بأوضاع صنمية جامدة وتحارب أي محاولة للتجديد وتحريك العقول فتتقوقع على ذاتها وتعيد إنتاج نفسها في نسخ مكررة خالية من الروح "لن يلدوا إلا فاجراً كفاراً" فينتهي دورها التاريخي وتصير عبئاً على التقدم الإنساني.
وحين نقرأ عاقبة تلك الأمم لا نقرأ فيها جانب المعجزة الخارقة للعادة، بل ننظر في بعدها السنني "فانظر كيف كان عاقبة المكذبين"، فالعذاب الذي نزل بتلك الأمم هو النتيجة الطبيعية والحتمية لحالة الاستعصاء وتوقف حركة الفكر، وذلك العذاب هو قانون تاريخي يصيب أي أمة جزاءً وفاقاً لها حين تعكف على أصنامها من الموروثات وتحارب أي تجديد فكري.
وحين نقرأ آيات التوحيد التي لا تكاد صفحة من كتاب الله تخلو منها فهي ليست حديثاً في الميتافيزيقيا، أو شأناً دينياً لا علاقة له بالحياة المدنية بل هو معنى إنساني ضروري للبشرية، فالتوحيد هو طاقة تحرر الإنسان من مشاعر العبودية والاستلاب والذل والخوف والقلق والحزن حين يؤمن أن أحداً لا يملك له الضر أو النفع أو الرزق سوى إله واحد مطلق، فيطلق هذا الإيمان إمكانيات الإنسان ويفجر إبداعه، والشرك في المقابل هو مرض إنساني عام يؤدي إلى التشتت والتمزق الداخلي فتتبدد قوى الإنسان حين يصير مثل رجل فيه شركاء متشاكسون، ويعجز عن التركيز في اتجاه واحد مثمر.
والكفر كذلك ليس معنىً غيبياً أخروياً، بل هو حالة من اللا عقلانية تعتري النفس البشرية فتجحد الحقائق البينة، وتطمس صوت الفطرة المنبعث من داخلها فتنشأ بذلك حالة من العمى والتخبط والضلال، ليس بالمعنى الديني وحسب، بل ضلال يمنعه من التفكير الطبيعي السليم واتخاذ قرارات صحيحة، فيكون الفرق بين معنى الإيمان ومعنى الكفر هو الفرق بين إنسان يعمل عقله وآخر لا يسمع ولا يبصر ولا يعقل فيكون عبئاً على الإنسانية..
ما يحول بيننا وبين ملامسة هذه المعاني الإنسانية العميقة التي يزخر بها القرآن هو النظارات القاتمة التي نلبسها، والأكنة والأقفال التي على القلوب، أما حين نقرأ القرآن بنفسية جديدة وقلب مفتوح فسنلامس عمقه الإنساني وسيكون بوسعنا حينذاك استخراج أعظم رؤية حضارية إنسانية منه فيها العدل والرحمة وشفاء ما في الصدور
واجب الساعة الحضاري هو تحرير القرآن من ضيق الأيديولوجيا إلى سعة العلم والإنسانية فهل من مشمر؟؟
والحمد لله رب العالمين..

المصدر: http://www.grenc.com/show_article_main.cfm?id=27162

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك