الأنسنة في الفكر العربي الإسلامي: هل كان أبو حيّان التوحيدي إنسانوياً؟

 

تجمع المصادر الفكرية التي تؤرخ للفكر العربي الإسلامي في العصر الوسيط على أن أبا حيان التوحيدي (310هـ - 414هـ) هو ابرز ممثلي النزعة الانسانوية، إن لم يكن الممثل الوحيد لها،

 

واعتقد أن هذه المسلمة التي استقرت في الوعي التاريخي مفارقة للواقع العربي الإسلامي، وتنطوي على مغالطة قابلة للنقد من حيث المبدأ، بخاصة ان العقل النقدي ومناهج البحث الحديثة لا تتورع عن نقد الأصول وإعادة النظر بمعطيات الواقع ومسلماته، ومنها على سبيل المثال موضوعة التوحيدي كممثل بارز للأنسنة في العصر الوسيط، وحتى تستقيم دعوانا لا بد من التذكير بأهم ركائز ومفاهيم ومنجزات الحركة الانسانوية وطبيعة اشكاليتها الأساسية، ومقارنة ذلك بمنظومة التوحيدي المفككة أصلاً.

فالانسنة والحركة الإنسانية نتاج تاريخي للغرب ووليد النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر وما بعده، وقد ازدادت تعمقاً وتجذراً مع الانتقال من بنية إلى بنية أكثر تطوراً وتعقداً في سياق الحداثة، فمن انسانوية عصر النهضة إلى انسانوية عصر التنوير التي مثلت انتصار العلمنة والانسانوية والعقل النقدي، ودخلت في صميم الواقع بعد انتصار الثورة الفرنسية الكبرى وتعميم شعاراتها الخالدة.

ومثّل انتقال الفكر الأوروبي من عصر الإقطاع إلى العصور الحديثة انتقال مركز الثقل والاهتمام من الدين إلى الدنيا ومن الذات الإلهية إلى الإنسان، فلم يعد الإنسان عبداً مكلفاً بالطاعة والعبادة قاصراً ومقصراً بحق نفسه وبحق الآخرين، بل وعي ذاته وقدراته ومصيره في الحياة الدنيا، وتطلع لانجاز مهماته في حاضره ومستقبله، ونهج نهجاً واقعياً بدلاً من النزعة الأخروية التي تعلق بها الإنسان، وجعلته راحلاً مرتحلاً من الدنيا الفانية التي ليست إلا جسراً للعبور إلى خلوده الأبدي في الجنة أو النار.

وما دام المركز ووحدة التحليل الأساسية وجوهر المنظومة المعرفية قد انتقلت من الآخرة إلى الدنيا فقد تم الانحياز تلقائياً ونهائياً إلى نشاط الإنسان الواقعي العياني في السياسة والاقتصاد واكتساب أسباب العيش والرزق من طريق العمل والإنتاج، وتم الابتعاد شيئاً فشيئاً عن التجميد والتأمل كمصدر للقيمة والأولوية، وهذا يعني الانتقال من القياس الأرسطي إلى استقراء فرانسيس بيكون.

وأصبح الواقع المعاش هو المجال الحيوي لفاعلية الإنسان العملية والفكرية، وهو الذي يمنحه القدرة على تأكيد ذاته وتحقيق مشروعاته التاريخية، بغض النظر عن أي اعتبار آخر. أما المعايير الضابطة للفعل والتفكير فقد أضحت قيماً دنيوية وعقلانية وعلمانية لم تتوافر للإنسان في العصر الوسيط سواء المسلم أو المسيحي، أو الإنسان الديني في شكل عام الذي لم يرَ في تاريخيته أو فعله المتعين برهاناً على حريته واستقلاله، بل اعتبر فعله ووجوده قدراً وحكمة إلهية محددة منذ الأزل، بخاصة بعد انتصار علم الكلام الأشعري، وشيوع الغنوص والتصوف والفقه السياسي المحافظ، والتزمت في المشرق والمغرب، على رغم جهود الفلاسفة المسلمين والمتكلمين في زحزحة الثوابت وتحريك المياه الراكدة التي ذهبت جميعها أدراج الرياح.

لقد كانت الأنسنة كواقع تاريخي محدد منهجياً وموضوعياً من إشكالية الإنسان في التاريخ، الذي تحول إلى ممارسة واعية فاعلة للإنسان نفسه، وليس تجلياً لإرادة عليا والتاريخ مسؤوليته أمام ذاته وأمام التزاماته وتعهداته مع الآخرين، وفي سياق هذه العملية اكتشف الإنسان قواه وقدراته المبدعة ونبله وثقته بنفسه وبالآخرين لتحقيق طموحاته، فلم يعد الإنسان (رجلاً وامرأة) كائناً قاصراً قصوراً جوهرياً يتحدد دائماً بالسلب والسلبيات، بل تسامى إلى أقصى حد في التعبير عن ذاته وعن صفاته وازدادت ثقته بنفسه للسيطرة على مشاكله الوجودية والواقعية من دون الاستعانة بقوى خارجية، فهدفه الأساسي تحقيق ذاته وتحقيق سعادته في الحياة الدنيا، ولم يعد الخلاص الأخروي يشغل باله ويلهب مخيلته، وأصبحت إنسانيته وسعادته الدنيوية شيئاً واحداً وغاية في حد ذاتها لا تحتاج لتسويغ أو تبرير.

لقد انتصر الإنسان في الأنسنه على قصوره وعلى واقعه المحدود، واستعاد ذاته التي استلبت سابقاً، وأنهى اغترابه بالتحرر من قيود الإقطاع، ومارس استقلاله الذاتي، ولا تقل هذه الاكتشافات والمنجزات أهمية عن اكتشافه لنفسه كشخص من لحم ودم؛ أي اكتشافه لجسده، فاقترب من الشهوات، وانغمس في المتع، ورفض قيم التقشف والزهد والتواكل والتبتل والرهبنة، وصارت للصداقة والثقة والحب الجنسي أهمية كبرى.

فهل كان التوحيدي ممثلاً لهذا كله أو بعضه؟ وهل كانت هناك نزعة إنسانية ذات خصوصية معينة في الفكر العربي الإسلامي في العصر الوسيط؟ وقد يجادل المجادلون بأصالة النزعة الإنسانية في الإسلام المعياري أو التاريخي، على اعتبار أن الأنسنة نشاط حضاري وتاريخي رافق اكتشاف الإنسان لذاته وصراعه بين ما هو دنيوي وما هو مقدس كما يرى عبدالرحمن بدوي ومحمد أركون، ولكن ما نراه في كتابات التوحيدي وفي حياته ومواقفه وتطلعاته لا يدل على توفر الحد الأدنى من النزعة الإنسانية، فالأنسنة والإنسانوية موقف من الوجود والحياة ومن الإنسان نفسه، ولا يعني إخضاع الإنسان كموضوع عند التوحيدي كافياً لاعتباره انسانوياً.

فقد شكل الإنسان موضوعاً عند التوحيدي وغيره من علماء الكلام والأدباء والفلاسفة الذين تحدثوا عن النفس والروح والعقل وجملة من المواضيع المجردة التي حفلت بها الميتافيزيقا الإسلامية المتأثرة بأفلاطون وأرسطو، إلا أن هذا الإنسان كموضوع عند التوحيدي كما يظهر في كتاباته المتناثرة التي تفتقر للانسجام في كتبه ورسائله، فمن الإمتاع والمؤانسة نقتبس العبارات التالية التي يوجد مثلها الكثير فيقول: «الإنسان بشر بنيته متهافتة وطينته منتثرة، وله عادة طالبة، وحاجة هاتكة، ونفس جموح، وعين طموح، وعقل طفيف، ورأي ضعيف يهفو لأول ريح، هذا إذا تخلص من قرناء السوء، وسلم من سوارق العقل، وكان له سلطان على نفسه، وقهر شهواته، وقمع هوائجه، وقبول ناصحه، وتهيؤ في سعيه، وتبوؤ في معان حظه، وإتمام سعادته، واستبصار في طلب ما عند ربه، واستنصاف من هواه المضل لعقله المرشد، الإنسان صغير الحجم ضعيف الحول، لا يستطيع أن يجمع بين شهواته وأَخْذ حظوظ بدنه، وإدراك إرادته وبين السعي في طلب المنزلة عند ربه بأداء فرائضه، والقيام بوظائفه، والثبات على حدود أوامره ونهيه، فإن صفق وجهه وقال: نعمل تارة لهذه الدار، وتارة لتلك الدار، فهذا المذبذب الذي لا هو من هذه ولا من تلك، ومن تخنث وتلبث لم يكن رجلاً ولا امرأة، ولا يكون أباً ولا أماً وهذا ما نرى».

ومن جهة أخرى، لم يكن التوحيدي الذي تتلمذ على يد كبار المناطقة وعلماء الكلام والمعتزلة في القرن الرابع الهجري لم يكن على وعي بانجاز المعتزلة بما يتعلق بحرية الإنسان ولهذا لم يكن على وفاق معهم ومع علم الكلام وهو ما قد يفترضه المراقب من حيث المبدأ لو كان التوحيدي انسانوياً، فالمعتزلة هم الذين مثلوا العقلانية، ونادوا بحرية الفرد، ويقال بأن أبا سعيد السيرافي أستاذ التوحيدي وصديقه كان منهم إلا أن التلميذ لم يطق ويتحمل الصراعات الفكرية والكلامية بين المتكلمين، فهاجمهم وهاجم علم الكلام وقال في كتابه البصائر والذخائر «إنما البلاء كله من أصحاب الكلام الذين يظنون أن التوحيد لا يصح إلا بنظرهم والذين لا يثبت إلا بنصرتهم والحق لا يعرف إلا بمقاييسهم، وهم بكل أسرار التوحيد ابعد مطرح وأنأى منزح والله تعالى اجلّ من أن يصحح توحيده عقول خلقه ومقاييس عباده وظنون العاجزين عن الحقائق» هذا ما يقوله عن المتكلمين ليس من موقع التجاوز والانحياز للفلسفة التي حلت مكان علم الكلام بل من موقع التراجع والارتداد إلى مواقع سلفية وقدرية سابقة على انجاز المعتزلة. أما عن إخوان الصفا وخلان الوفا الذين شغلوا الباحثين قديماً وحديثاً، ومنهم من اعتبر أن التوحيدي كان عضواً بارزاً في حلقتهم السرية بل وكتب بعض رسائلهم، مستدلين من أسلوبه الخاص - وهذا ما يفسر أسباب إعجابه بالجاحظ ككاتب وليس كمعتزلي كبير - إلا انه ينفي ذلك وتبرأ منهم فكما نأى بنفسه عن المعتزلة نأى بنفسه عن إخوان الصفا ليس تقية بل انسجاماً مع تكوينه النفسي والذهني.

لقد كان التوحيدي صورة الناس في عصره، عصر التفكك والاضطراب، بعد سيطرة البويهيين الشيعة على السلطة في بغداد، وتقييد صلاحيات الخليفة، فقد كان شديد التذمر والشكوى والتشاؤم، والشعور بالغربة، ورثاء ذاته على قلة حظه في هذه الدنيا، وفقدانه الثقة بنفسه وبالآخرين، وكفره بالصداقة والصديق، والحب والمحبة، ومع ثقتنا انه حاول المستحيل للتقرب من الأثرياء والأمراء طمعاً في صداقتهم وأعطياتهم، إلا انه لأسباب شخصية واجه الصدّ والرفض، فعاش فقيراً، محتاجاً، حاسداً، لحوحاً في الطلب والتمني، وقد أورثه فقره ادعاء التقشف والزهد، فتحول صوفياً بحكم الحرمان، فكتب الإشارات الإلهية، وازداد وحدة وكآبة وتشاؤماً، واستسلم لقدره منتظراً الموت «إلى متى نقول بأفواهنا ما ليس في قلوبنا... إلى متى ندعي الصدق والكذب شعارنا.. إلى متى نتمادى في الغواية وقد فني العمر بليلنا ونهارنا... إلى متى نخلد إلى الدنيا وقد دنا منا رحيلنا» وفي نص آخر يقول عن الحياة الحقيقية التي يتصورها في الآخرة «إن أعظم حياة هي حياة السعادة الحقيقية الباقية أما الغبطة والبهجة فهي النجاة من هذه الدار (الدنيا) إلى محل لا الم فيه ولا أذى، محل نجد فيه النعيم صافياً والحق بادياً... محل لا يعتريك فيه ملل ولا ينتابك فيه علل».

أما عن العقل فلم يؤمن به التوحيدي كمصدر موثوق للمعرفة مقارنة بالوحي والنقل ولفت الانتباه لقصور العقل وعجز العلم، فهو القائل في الهوامل والشوامل «إن العلم بحر وظنه أكثر من يقينه والخافي عليه أكثر من البادي وما يتوهمه فوق ما يتحققه».

لقد نزع التوحيدي ثقته بالعقل والعلم والمنطق وعلم الكلام وتهجم على المعتزلة وإخوان الصفا والفلسفة والفلاسفة على رغم أن تكوينه الفكري كان على يد فلاسفة ومناطقة، فهو ليس انسانوياً بل هو ضد انسانوي لأنه كما يقول زكريا إبراهيم عنه «ليس من المتحمسين لقدرة الإنسان وقوته وعلمه وعمله وشتى مظاهر نشاطه الإبداعي، بل كان على العكس من ذلك اعرف الناس بعجزه وقصوره وجهله وتوانيه وشتى مظاهر نقصه وليس بدعاً أن نرى أن أبا حيان التوحيدي ينادي بعجز الإنسان». فهل التوحيدي المنادي بعجز الإنسان وقصوره انسانوي؟

لقد آمنت الانسانوية بجوهر الإنسان الخير وبقدرته على التغير والتغيير عبر مسيرته التاريخية نحو الكمال العقلي والأخلاقي، أما التوحيدي فقد اعتبر الأخلاق السيئة طبعاً أو معطى أولياً لا يمكن تقويمه أو تعديله.

وأما حادثة حرق كتبه فافهمها في سياق ثقته المعدومة بالناس الذين حرموه وهمّشوه، فلم يكن منه إلا الانتقام وحرمانهم مما يملك من كتب ومعرفة!

لقد كان فكره الضد إنساني صورة لحياته الشخصية القلقة، وحرمانه الأبدي، فعبر عن قصوره وشكه وامتهان الإنسان في شخصه «الإنسان ضعيف محدود الجملة مملوك الأول والآخر غشاؤه كثيف وباعه قصير وخطؤه أكثر من صوابه». ولذلك فلم نجد في أفكاره عن الإنسان وهي متناثرة في جميع كتبه إلا التفكك والضياع، ولا تحقق تلك الأفكار في مجموعها نسقاً موحداً، أو إشكالية فلسفية، فغربته ومعاناته بقيت في حدود الشخصي والنفسي، ولم ترقَ إلى مستوى الموقف الميتافيزيقي من الوجود.

لقد استبطن التوحيدي ذاته المحرومة، ونفسيته المجروحة، وعمم نتائجه على جميع الناس، لتكون سمات الإنسان الكلي في كل زمان ومكان، فهل كان التوحيدي انسانوياً؟

أشك في ذلك.

المصدر: http://almothaqaf.com/index.php/rasad/629.html

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك