قضايا مجتمعنا بين الديمقراطية والطائفية والتغريب
من الأولى لنا كمثقفين وكتاب وإعلاميين أن نطرح القضايا المفصلية التي من خلال مناقشتها وتحليل أهم ما تفرزه من أسئلة، تجعلنا نفهم تماما ثقافة مجتمعنا وما يفرزه من سلوك اجتماعي وثقافي وديني وتربوي. وإذا كان من الصعوبة بمكان الاتفاق على مثل هذه القضايا، أيضا من الصعوبة نفسها الاتفاق على طرح الأولويات التي تشكل مجمل هذه القضايا.
فعلى سبيل المثال هناك من الكتاب من يرى أن مجتمعنا السعودي في الفترة الراهنة بحاجة إلى تفعيل قضايا الحقوق المدنية من خلال طرح الأسئلة التي تتعلق بثقافة الحرية والحقوق الأساسية للمواطن وما يستتبع ذلك من التزامات تجاه الدولة ومؤسساتها واحترام القانون وعدم انتهاك الحق العام الذي تتكفل برعايته الدولة. بل يرون أن من أهم واجبات الدولة في الوقت الراهن، وفي ظل التقلبات السياسية التي تعصف بالعالم العربي، وما أوجدته من حالة عنفية، اختلط فيها العنف بالسياسة، والدين بالحقوق والواجبات، حتى أننا لا يمكن أن نتحدث عن السياسة العربية بوصفها خطابا له أدبياته وتاريخه ومفاصله الواضحة للجميع، بل السياسة العربية الآن ليست سوى عقد تاريخية صنعها الاستبداد والعنف من جهة، وسلطة العقائد والإيديولوجيات من جهة أخرى، وهي تعيد إنتاج نفسها عبر قنوات، من أهمها ما يسمونه الآن «بالثورات العربية».
لذا يرى هؤلاء أن على الدولة أن تتبنى مشروعا ثقافيا وثيق الصلة بالديمقراطية، بحيث يرتكز على السياسة التعليمية والتربوية التي ترتبط بمؤسسات الدولة، ومن ثم ترتبط بالمجتمع وبمؤسساته الأهلية وبالخصوص الخيرية منها. حتى تتحاشى البلاد الوقوع في طوفان العنف المستشري في جسد السياسة العربية، الذي يرى في استقرار الخليج العربي شوكة في خاصرته ينبغي انتزاعها بالقوة. وإذا كان هؤلاء الكتاب يرون أن مشروع خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله المتعلق بالحوار الوطني من جهة، وبحوار الحضارات من جهة أخرى، هو الرافعة التي تفضي إلى صناعة ثقافة منفتحة على الحرية والديمقراطية، فإنهم من جانب آخر يعتقدون أن الرافعة الأخرى الداعمة للأولى، هي في دمج هذه الثقافة في السياسة التعليمية للبلد.
أما البعض الآخر من الكتاب فله وجهات نظر أخرى، وذلك فيما يخص القضايا ذات الأهمية والأولوية في الطرح والمناقشة. هم أولا يحددون الأزمة التي ينبغي أن تناقش، ومن ثم يتم الاتفاق على إيجاد حلول مشتركة لها من جميع فئات المجتمع القبلية والطائفية والمناطقية وفق خطط مرسومة ومبنية على حوارات جادة بين تلك الفئات. تنامي العداء الطائفي هو الداء أو الأزمة، وهي كما نرى لا ترتبط بقرار سياسي فقط، وإنما الأهم من وجهة نظرهم هو ارتباطها بثقافة مجتمع بأكمله. لذلك تخوفهم ينبع من كون الطائفية قد تتحول إلى هوية تسيطر على ما عداها من الهويات عند الفرد والمجتمع على السواء، وبالتالي تصبح العلاقات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية مبنية على هذه الهوية، التي بالتأكيد تضعف الروابط، وتقوم بتفكيك النسيج الاجتماعي، لذلك الأغلب الأعم من هؤلاء الكتاب يقترح للتخلص من هذا الداء، المكاشفة والمصارحة أولا، ومن ثم تقبل النقد «المزدوج» -مصطلح يرجع أساسا إلى المفكر عبدالكبير الخطيبي- ثانيا، بحيث يفترض أن يؤدي ذلك عندهم إلى تنفيس الاحتقان التاريخي بين المذاهب، إن إخراج ما هو مكبوت على السطح للنقاش والحوار هو إحدى البدايات التي تفضي إلى طريق التصالح مع التاريخ.
فالمكاشفة لا تعني سوى أن نمتلك الإرادة والرغبة في تجاوز داء الطائفية، بعد أن نكون قد اقتنعنا جميعا على أنها هي الداء الذي يمزق النسيج الاجتماعي من العمق. أما النقد المزدوج فلا يعني سوى أن يتقبل كلُّ مذهب نقد المذهب الآخر له، بكل استقرار وطمأنينة، وفي نفس الوقت أن نرى خطاباً نقدياً ينهض من داخل المذهب ذاته بالموازاة مع نقده للخارج. هذا الحراك النقدي بين الداخل والخارج سرعان ما تتوسع دائرة أسئلته، وأيضا مقترحات إجاباته. بحيث يغتني الحوار بين المذاهب به، بما يقترحه عليه من قضايا وأفكار، لولا هذا الحراك النقدي، لا يمكن أن ينهض حوار حقيقي بين هذه المذاهب. هناك أيضا فئة ثالثة من الكتاب ترى أن مسألة «تغريب المجتمع» هي كبرى الكبائر التي هي من الأولويات التي يجب محاربة من يتبناها من المثقفين والكتاب. لأنها في تصورهم تؤدي بالمجتمع إلى التهلكة والانحراف عن الطريق المستقيم الذي سنته له الشريعة والسنة المطهرة. هناك فئات أخرى تحمل أفكارا تتقاطع بطريقة أو بأخرى مع هذه التوجهات في الأفكار.
لكن أكتفي هنا بهذه الثلاثة توجهات. ربما هذه الصورة البانورامية التي طرحتها هنا اختزالية. لكنها في ظني تقع على أبرز الأفكار المتداولة في مشهدنا المحلي. وهي أفكار، رغم وجاهتها ورغم أيضا اتفاقي مع الكثير منها، فإنها أفكار ترتبط برؤية استشرافية للمستقبل، وهذا مطلوب وضروري، خصوصا في هذه المرحلة الحرجة التي يمر بها العالم العربي.
لكن إذا كانت هذه الرؤية الاستشرافية غير مدعومة بأفكار مستخلصة من تجارب الماضي والتاريخ، فإنها تبقى مبتورة، أي أنها تمشي بقدم عرجاء. خذ على سبيل المثال المفارقة التالية، التي يمكن صياغتها بطريقة السؤال: كيف يمكن أن نتحدث عن الليبرالية في مجتمع أغلبه لم يتعرف فيه الفرد منذ الصغر إلا على ثقافة واحدة فقط؟ فالخيارات محسومة بالنسبة للطالب داخل المدرسة وخارجها في أغلب الأحيان أيضا!