إشكالية العلم والفهم الديني
ان كثيراً من الناس يتصور بان العلم يقف قبال الدين، فقد يتفقان او يتعارضان. ومن الناحية المنطقية ان هذا الطرح لا يخلو من خلل، فهو لا يعبر عن طبيعة ما يجب ان يكون عليه الموقف بين الطرفين. فالعلم هو ادراك لموضوع خارجي يطلق عليه الطبيعة. والدين هو الموضوع الخارجي، او المدرك الذي يحتاج لادراكه عنصر ما نسميه الفهم. فالفهم هنا يقف بازاء العلم، والدين يقف بازاء الطبيعة. فكلا الموضوعين الاخيرين يعبران عن شيئين خارجيين مقارنة بالادراك المتمثل بالعلم او الفهم. ورغم ان هذا الحال واضح منطقياً الا ان غالب الباحثين لم يلتفتوا اليه، فالبسوا الفهم بالدين، والعلم بالحقيقة الموضوعية. وربما يكون اينشتاين من القلائل الذين اقتربوا الى هذا المنطق، فعندما سئل هل يتعارض العلم مع الدين؟ اجاب: ‹‹ان هذا لا يحدث في الحقيقة، لكن ذلك يتوقف بطبيعة الحال على ارائك الدينية››.
نعم قد يكون العلم في توافق او تعارض مع الدين، لكن قبل ذلك يصادف العلم الفهم قبل مصادفته للدين. وبالتالي فقد تكون المشكلة بالعلم او بالفهم دون الدين والطبيعة. فهناك مرحلة سابقة للفهم على الدين، والعلم على الطبيعة، لتقدم ماهية الشيء على وجوده في المعرفة، او لكون الثبوت يأتي متأخراً عن الاثبات في الادراك، رغم ان الحقيقة الموضوعية هي العكس بالضبط. بمعنى اننا نواجه في البداية ما مطروح من فهم وعلم، ولا نواجه ديناً وطبيعة رغم سبق ثبوتهما. واذا كانت مهمة الفهم والعلم تتحدد بامتثال ما لدى الدين والطبيعة، فان هذا الامتثال قد لا يكون مطابقاً للاصل بعد التحول مما هو موضوعي الى ما هو ذاتي.
صحيح ان هناك حالات لا يمكن انكارها من التطابق، لكنها – مع ذلك - تخضع لشروط وقيود قد لا تتوفر في كثير من الاحيان، لا سيما في المجال الديني. وبالتالي فنحن لا نتجاهل الحالات التي تؤكد مطابقة العلم للطبيعة، وكذا الفهم للدين، لكن هذه الحالات - كما قلنا - مرهونة بشروط ليست متيسرة دائماً.
نضيف الى ذلك انه لو ثبت لنا بأن الاشكالية العلمية ليست معنية - هذه الايام - بالتطابق مع الطبيعة، فسينعكس الامر على العلاقة مع الدين. ففي هذه الحالة لا يمكننا محاكمة الدين من منطق العلم. فقد يكون الاخير غارقاً في الذاتية وبعيداً عن الموضوعية المعبرة عن كنه الطبيعة وجوهرها. فمثلما لا يصح الخلط بين فهم رجال الدين والدين ذاته، فكذا لا يصح الخلط بين علماء الطبيعة والطبيعة ذاتها، فلكل من الطرفين رؤية تأويلية، قد تعارضها رؤى اخرى مماثلة. ونحن ندرك ان فهم الدين عائد الى الهرمنوطيقا، لكنه ليس منفصلاً بالتمام عن الابستمولوجيا، كما ان العلم عائد الى الابستمولوجيا، لكنه غير منفصل ايضا عن الهرمنوطيقا. ويمكن النظر الى ان العلم قد ورث من الفهم الديني الرؤية التأويلية للكون. فقد كانت الاديان تثير هذا الفضول حتى قبل ان يبدأ العلم بدايته كعلم، ومع مر القرون تحولت هذه الوظيفة الى العلم شيئاً فشيئاً دون الدين، واختصت به الى يومنا هذا، حتى ظهر هناك من يقول بأن العلم يتعامل مع الكشف عن الواقع والحقائق الموضوعية، في حين ان الدين يتعامل مع سلوك الناس واخلاقهم، وقد اخذ الكثير من المؤمنين بالمسيحية وغيرهم يعتقدون بهذا التقسيم نتيجة اضطرارهم اليه كي لا يظهر التعارض بين العلم والدين.
فالعلم هو ما يطرح علينا التأويلات المختلفة والمعمقة ازاء الكون، حتى تحول فيها المتدين من وظيفة حمل الرؤية التأويلية للدين ازاء الكون الى وظيفة اخرى، وهي كيف يوفق بين فهمه للدين وما يطرحه العلم من تأويلات او نماذج تفسيرية. والنتيجة هي ان الوظيفة الموسعة للفهم قديماً قد تم اختزالها – اليوم – في كيفية ايجاد نسق ملائم يتفق مع ما يقدمه العلم من نماذج تأويلية. فقد كان للفهم قبل النهضة العلمية الحديثة دور سيادي حتى على العلم ذاته. فسلطة الكتاب التي يستمد منها الفهم غذاؤه؛ مقدمة على سلطة العلم غالباً. ففي الوسط الغربي المسيحي كان القديس اوغسطين (المتوفى سنة 430م) يقول: إن ‹‹سلطة الكتاب المقدس هي اكبر من جميع قوى العقل الانساني››، مما يعني انه عندما يقع التناقض بين العلم والكتاب المقدس، فلا محالة ان يقدم الاخير على الاول. وتأتي بعد الكتاب المقدس سلطة ارسطو، فهي الاخرى مرجحة على العلم عند التعارض، وبالتالي كان يؤخذ بها ما لم تناقض العقيدة المسيحية مناقضة واضحة، كانكار خلق العالم مثلاً. ثم بعد ذلك يأتي العقل الطبيعي وهو الحس المشترك العام ويؤخذ بصحة احكامه عندما تؤيدها اراء القدماء. وينعكس هذا العقل في عدد من البديهيات، كالقول بمبدأ السببية العامة وهو ان لكل حادثة لا بد من سبب.
اما في الوسط الاسلامي فكثيراً ما يرفع شعار إنما أُمرنا أن نأخذ العلم من فوق، فيكون الاصل هو النص كملجأ لمعرفة الواقع وحل معضلاته. وقد بالغ جماعة في جعل النص القرآني دالاً على العلوم البشرية كلها، ومنهم الغزالي كما في (جواهر القرآن)، إذ اعتبر القرآن ميداناً لا ينضب في حمله لعلم الأولين والآخرين. فجميع العلوم مغترفة من بحر واحد، وأن أوائلها ليست خارجة عن القرآن. كما رأى عالم اللغة والقراءات ابن الفضل المرسي (المتوفى سنة 655هـ) في تفسيره بأن القرآن جمع علوم الأولين والآخرين. ونقل الشاطبي بأن هناك جماعة كانوا يعتمدون على تفسير الآيات طبقاً لمقررات علوم الطبيعة في ذلك الوقت، إذ أضافوا الى القرآن كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين من علوم الطبيعيات والتعاليم والمنطق وعلم الحروف وما إليها.
وسواء في الفهم او العلم هناك تأويلات كثيرة للعالم الخارجي، ففي الفهم ان هذه التأويلات مناطة بمرجعية العقل والواقع، وهو ما يجعله ذا نزعة نقدية نظير ما يحدث في العلم. ونجد في تراث الفهم ما يناظر العلم في تأويلاته المختلفة للعالم. فالتأويلات الدينية – هنا - هي اشكال اولية للعلم. لكن حيث ان سلطة العلم قد حلت محلها من الثبات والمرجعية، لذا فكل فهم يطرح انما يعرض على هذه المرجعية، حتى اصبح من المحال تقديم رؤية تأويلية منافسة ما لم تكن ممعنة بالطريقة العلمية ذاتها. بمعنى ان ما يقدم احياناً من رؤى مرجعها النص والفهم السلفي لبعض القضايا العلمية المطروحة، كحركة الارض وما اليها، انما هي رؤى خاسرة، لاعتبارين، احدهما انها مجرد فهم دون ان تعبر عن جوهر النص، اي خلاف ما يدعى. يضاف الى انها غير متسلحة بالادوات العلمية الكاشفة عن الواقع الموضوعي وبغض النظر عن مقولات النص الديني. فمن الناحية المنطقية ان الواقع الموضوعي شيء، والنص الديني شيء اخر قد يتفقان او يختلفان. او ان الحقيقة التي نستكشفها من احدهما لا تعني هي ذاتها لدى الاخر بالضرورة. فعندما نريد التعرف على الواقع ينبغي المثول الى هذا الواقع اساساً، وان امكن الاستعانة بالنص احياناً لتقريب الرؤية دون ان تكون على حساب الواقع ذاته. وهو الحال ذاته عندما نريد التعرف على النص، فينبغي المثول الى هذا النص في الاساس، لكن المثول اليه قد يجبرنا الى اخذ الواقع بعين الاعتبار لتبريرين هامين: احدهما ان النص ذاته كان يستعين بالواقع باستمرار. اما الثاني فهو ان النص بحاجة للواقع لحل دلالاته المتعارضة احياناً، مثلما انه بحاجة اليه في اثبات صدقه وحجته. ففي كلا هذين الحالين ان النص بحاجة الى الواقع، لكن العكس غير وارد، فلو تعارض النص مع الواقع صراحة دون امكانية للجمع والتأويل فلا محالة من اللجوء الى الواقع دون النص، لان صدق الاخير لا يكون من غير الاعتماد على الاول اساساً.
***
لنبدأ الان في البحث عن اشكالية كل من الفهم والعلم. فهل لهما ذات الاشكالية ام انهما يختلفان حولها؟
من الناحية التاريخية فان كلاً من الفهم والعلم قائم على مسلمة التطابق، فالقضية التي لا تحمل تطابقاً لم يكن لها اعتبار. ففي العلم جرى ذلك وفقاً للبراهين الفلسفية طبقاً لمبدأ السنخية وتطابق العقل والواقع. فقانون السنخية هو الاصل الذي يتحدد بموجبه التطابق بين ما يحصل في النفس من صور ذهنية من جهة، وبين ما يحمله العقل الفعال من صور جميع الموجودات. وهو ما يعني التطابق بين الذهن والوجود الخارجي الذي يحدده هذا العقل، ومن ثم فالذهن يرى ذاته في الوجود. فقد توصل الفلاسفة إلى تلك المطابقة بعد أن رأوا ما يجري في الطبيعة بأنه على شاكلة ما يجري في النظام العقلي من إعتبارات السببية. فعادة ما يولي النظام الوجودي للعقل الفعال صلة الوصل والتطابق بين العقل البشري والطبيعة أو الوجود الكوني، فهو مرآة لتصوير الواقع. إذ يعمل على صنع صورنا المتطابقة مع الواقع.
كذلك الحال في الفهم، اذ كانت الافهام المتعلقة بالقضايا الدينية قائمة على فكرة المطابقة هي الاخرى. فلم يكن للظنون اعتبار، وعلى الاقل كانت الظنون تأتي بشكل تال ومتأخر فيما يعرف بالاجتهاد فيما لا نص فيه. الا انه مع تقادم الزمن اخذت فكرة التطابق تتقلص شيئاً فشيئاً، سواء على صعيد العلم او على صعيد الفهم.
فعلى الصعيد الديني اظهر الفهم عجزه عن معرفة النص كما هو، لذا لجأ الى درجات المعرفة المقربة للتطابق، اي تقبل القضايا الدينية على ظنونها، وعندما وصل الحال الى اليأس، حتى بمثل هذه الحالة، فانه قد تم التعويل على ما يعرف احياناً بالاصول العملية. وتعتبر هذه الحالة اضعف الحالات الممكنة في الفهم الديني من الناحية المعرفية، فهي تمثل العجز التام لاعطاء اي درجة احتمالية معتدّة للفهم. ففي هذه الحالة ان الترجيحات المعرفية ودرجات التطابق او التقارب كلها معدومة باستثناء اصل التكليف الاجمالي. فكل ما يراد من هذه الاصول هو افراغ الذمة دون اعطاء فهم معين للنص.
ويستثنى من ذلك حالة الفهم التي عول عليها المتكلمون عادة، ومثلهم اصحاب الحديث والفقهاء فيما يتعلق بفضائل الاعمال واوصاف الجنة والنار والثواب والعقاب. ففيما يخص المتكلمين يلاحظ ان تفسيرهم للنص لا يراد منه – عادة - الاثبات والتطابق، بل يراد منه نفي ما يعارض المقتضيات العقلية، وبالتالي فان المعني ليس الدرجات المعرفية المقربة للتطابق. لكنها في جميع الاحوال مختلفة عما يدور في العلم. فالاخير يلجأ في حالة عجزه عن الوصول الى نتائج متعلقة بالكشف عن كنه الطبيعة الى قواعد مفترضة لا علاقة لها باحتمالات التطابق، كما انها تختلف عن القواعد التي يلجأ اليها الفهم عادة.
لقد كانت فكرة التطابق لدى العلم حاضرة على مدى قرون تحت ظل سيادة الفكر الفلسفي التقليدي، واستمر هذا الحضور حتى مع تغلغل الفكر العلمي الى ما قبل القرن العشرين. ثم بعد ذلك بدأ الاهتزاز يصيب الثقة العلمية، وتطور الحال حتى تعدلت النظرة العلمية ولم تعد فكرة المطابقة حاضرة مثلما كان عليه الحال في الماضي. واخيراً ساد جو من الاعتقاد بان الوصول الى المطابقة هو امر مستحيل، لاعتبارات بعضها علمية كتلك التي قدمتها نظرية الكوانتم في التفاعل بين الذات والموضوع، او لاعتبارات بُعد الموضوع المدروس عن القرب والمباشرة. لذلك لجأ العلم الى مبادئ براجماتية عديدة قد تعوض الخسارة التي منيت بها النظرة العلمية حول التطابق، وعلى رأسها كل من المبدأ الاصطلاحي كالذي اذاعه بوانكاريه والشذوذ والتكافؤ وثنائيات نظرية الاوتار (الازدواجات) والبساطة والجمال والاتساق وغيرها من المبادئ التي اخذت تتحكم في القضايا العلمية عوض فكرة التطابق. فعلى الاقل ان بعض هذه المفاهيم يتنافى مع هذه الفكرة، وان البعض الاخر لا يقتضيها بالضرورة. وانه كلما كانت الظاهرة المدروسة اكثر ابتعاداً عن المباشرة كلما زاد العمل بتلك المبادئ دون فكرة التطابق واحتمالاتها التقريبية، كالذي تشهده الفيزياء المعاصرة اليوم. فهي وان كانت معنية بتفسير الطبيعة وفهم الكون لكنها تجد نفسها عاجزة عن التعبير عن كنه هذه الطبيعة، مما يجعلها تتخذ اهدافاً اخرى مختلفة. فالعلم من هذه الناحية يتميز عن النظر الفلسفي، مثلما يتميز عن الفهم الديني في علاقته بمعنى النص كما هو.
لقد كانت بعض المفاهيم الانفة الذكر سابقة للعلم الحديث، ومن ذلك مبدأ البساطة. وكان يعبر عنه بنصل أوكام، نسبة الى وليم أوكام (المتوفى عام 1349 او 1350)، فله مبدأ يقول فيه: يجب عدم زيادة عدد الكيانات بغير حاجة.. لا ينبغي الاخذ بالعلل المتكثرة بينما علة واحدة تكفي للتفسير.. حاول دائماً ان يكون عدد فروضك هو الحد الادنى.. لا تُكثر من عدد البديهات واستبعد الزيادات في المنطق.. لا تتردد في تطبيق المبدأ نفسه على الميتافيزيقا.. حين تشير الى الرب من حيث هو خالق فلا معنى لأن تفترض محمولات اخرى سوى الخلق، لأنها حاضرة بالفعل في طبيعة الرب.
وقد حضر هذا المبدأ خلال النهضة لانقاذ العلم الحديث من تسلط الكنيسة. فمنذ بداية هذا العلم ظهر هذا المفهوم كعذر للعلم الجديد لدى بعض المهتمين. فقد نشأ العلم الحديث على يد كوبرنيك من نقطة الاقرار بحركة الارض حول الشمس خلال القرن السادس عشر. واتخذ هذا الاقرار حيلة للابتعاد عن الحكم على الواقع الموضوعي الخارجي كما هو، وكانت هذه الوسيلة مبنية على مفهوم مبدأ انقاذ الظواهر. ويعود السبب في هذا الالتفاف الى اعتبارين: علمي فلسفي وديني، فاما الاول (العلمي) فهو انه كان من الصعب مخالفة الاعتقاد الراسخ المؤيد بالكثير من الادلة والاعتبارات، ومنها الاعتبارات الحسية؛ كشعورنا بسكون الارض وكون الاشياء تسقط من اعلى الى اسفل بخط مستقيم، وهو ما يبدي علامة على سكون الارض، فهذا الهاجس هو ما كان يؤرق كوبرنيك. اما الاعتبار الثاني (الديني) فهو الخشية من مخالفة رأي الكنيسة وغضبها، باعتبار ان الاعتقاد بحركة الارض يعد مخالفاً لنص الكتاب المقدس، ومن بعده فلسفة ارسطو المتبناة.
اما اشكالية الفهم فهي تدور في الغالب حول البحث عن المطابقة او ما يقاربها من القيم المعرفية - كالظن عند عدم تحقق القطع، وكالمسامحة المبنية على القطع - سواء من خلال الرؤية الظاهرة، كما لدى الدائرة البيانية او غيرها من الدوائر الاخرى. وتعتبر ممارسات الفهم التأويلية مماثلة لمبدأ انقاذ الظواهر في العلم. فوظيفة التأويل في الفهم هو عرض النص على العقل، ومن ثم ممارسة الحرف والعدول، ويمكن ان نطلق عليه انقاذ المظاهر اللفظية، مثلما يقوم العلم بانقاذ الظواهر الطبيعية.
في حين اخذت اشكالية العلم– اليوم - منحى اخر لا علاقة له بالبحث عن المطابقة وما قاربها من قيم معرفية. فما يهم العلم – من وجهة نظر شمولية - امور اخرى كالبساطة والاقتصاد والجمال والتكافؤ وما الى ذلك، بعد الاعتراف بالعجز عن تحقيق المطابقة مع الواقع، تأثراً بالنظرة الفلسفية التي ترى ان العقل هو ما يحدد الموضوع دون عكس؛ كالذي نظّر له (عمانوئيل كانت)، ثم اخذت تتوسع حتى اصبحت مهيمنة على النظرة الكلية للعلم الى يومنا هذا. وكل ذلك يختلف عما يجري في الفهم الديني لدى الدوائر التراثية.
وهذا لا يجعلنا نتجاهل الخلاف الحاصل بين النزعتين البراجماتية والوضعية للعلم، فالاولى تؤكد بأن النظريات العلمية تتحدث عن امور لا علاقة لها بالواقع الفعلي، او انها ليست بصدد تقرير حقائق الواقع فيما يخص الظواهر غير المباشرة. واعتماداً على هذه النزعة فانه لا يوجد دليل يمكن تبريره للكشف عن الاشياء غير المشاهدة، كالدليل على وجود قطة خلف هذا الجدار مثلاً. واقوى تطبيق لهذه النظرية ما يتعلق بالجسيمات غير المرئية كالالكترونات وما اليها. فالرصد يكون في مثل هذه الحالات رصداً غير مباشر، مثل رؤية نقطة سوداء على لوح فوتوغرافي، او سماع قعقعة صوتية لعداد جيجر، او مشاهدة اثار الجسيم في غرف الفقاقيع لدى المسرعات او المصادمات؛ فمن خلال معرفة ثخن المسار وانحنائه يتم التعرف على طبيعة الجسيم الذي يكوّن هذا المسار، وهي اشبه بالطريقة التي تخلّف فيها طائرة نفاثة ذيلاً في السماء. ويطلق على المذهب الذي يتبنى هذه النظرية بالـ (Reductionism) ويسمي تلك الاشياء غير المرئية بالتركيبات المنطقية او الكيانات النظرية (theoretical entities)، فليس ثمة دليل على وجودها، وانما هي اختراعات ذهنية فحسب. ومن امثلة من يتبنى هذه الرؤية برتراند رسل في كتابه (مقدمة الى فلسفة الرياضيات) ووليم نيل في كتابه (الاحتمال والاستقراء).
ويخالف هذه النزعة من يرى ان العلم يتحدث عن اشياء واقعية حقيقية وان لم تثبتها التجربة والمشاهدة. فلو سئل الطرفان عما اذا كانت الجسيمات المجهرية بحسب الوصف العلمي موجودة ام لا؛ لكانت اجابتهما مختلفة، فبحسب النظرة البراجماتية ان هناك حوادث تخضع للملاحظة في غرف الاختبار، وهي يمكن وصفها بدوال رياضية معينة ضمن نظام نظري محدد، وكل ذلك لا علاقة له بحقيقة هذه الجسيمات ان كانت موجودة بالفعل كما هو الوصف العلمي ام لا؟ ويمكن التعبير عن هذا الاتجاه بما سبق اليه الفيلسوف الهولندي اسبينوزا خلال القرن السابع عشر، وهو قوله: ‹‹العلم صادق لأنه ناجح، وليس ناجحاً لأنه صادق››.
في حين ان النظرة الوضعية تخالف تلك الاجابة وترى ان العلم يتحدث عن كيانات موجودة بوسعه اثباتها عندما تحين الادوات المناسبة، مثلما اثبت اشياء عديدة كانت تعز على الرؤية والمشاهدة، كالخلية والفيروس والجزيء والذرة وما الى ذلك، لدرجة ان ارنست ماخ كان يعارض التفكير في الجزيء او الذرة بوصفه شيئاً موجوداً، واعلن ذات مرة انه ‹‹محض خيال لا قيمة له››، في حين انه اليوم امكن تصويره فوتوغرافياً، ويمكن ان ينطبق الامر على كل اكتشاف جديد لجسيم مجهري او كيان فلكي.
واول ما يلفت النظر ان العلم الحديث قد بدأ وهو يشهد هذا الاختلاف بين الاتجاهين. ففي الوقت الذي كان ناشر كتاب كوبرنيك واتباعه يرون بان النظرية المطروحة هي مجرد تسهيل للحسابات الفلكية دون ان يعنى بها الكشف عن الحقيقة الخارجية، فان علماء من امثال كبلر وغاليلو ونيوتن رأوا ان هذه النظرية تعبر عن حقيقة صادقة وليس مجرد افتراض لتسهيل الحسابات الفلكية. ومنذ ذلك الوقت وحتى نهاية القرن التاسع عشر كان التصور بان ما يقدمه العلم من نتائج دقيقة بفضل المنظومة النيوتنية لهو خير دليل على خاصية الكشف الحقيقية. لكنه ما ان حل القرن الماضي حتى اخذت النظرة العلمية للامور تتغير شيئاً فشيئاً، ومن ثم اصبح الاعتقاد يترسخ بان العلم لا يعبر في تنبؤاته وكشوفاته عن حقائق الامور بقدر ما يعبر عن الكيانات النظرية والنزعة الاداتية والاعتبارات النفعية البراجماتية. وقد كان الفيزيائي ادنجتون يؤكد بان العقل البشري هو من يصنع افكار المكتشفات من غير رؤيتها ودون ان يدل ذلك على حقيقتها، فهو بحسب وصفه كالفنان يصنع في ذهنه ما يريد تشكيله. وقد طبق ذلك على اكتشاف رذرفورد للنواة مع انه لم يرها احد، كذلك البوزيترون وايضاً النيترينو الذي كان يشك في وجوده، وهو يرى ان التجريبيين ليس لديهم البراعة الكافية لصنع النيوترنوات.
ان ما يعزز الروح البراجماتية للعلم هو استناده الى التعميمات ذاتها، فهي تشكل صلب نسيج العلم الحديث، رغم الاعتقاد السائد بان التعميم لا يجد له تبريراً على الصعيد المنطقي، لا سيما بعد ان كشف ديفيد هيوم عن تهافته خلال القرن الثامن عشر، وبعد ان تبنت الوضعية المنطقية الموقف السلبي اتجاه هذه التعميمات من الناحية المنطقية خلال القرن العشرين، فهذه التعميمات غير مقبولة لديها، الى درجة ان البعض يراها قضايا لا معنى لها. لكن مع ذلك اصرّ العلم على ضرورة الاخذ بهذه التعميمات لاهميتها، حتى وان وجدت بعض الشواهد التي تكذبها او تتنافى معها. فقد اظهر العلم انه يغض الطرف عن الشواهد السلبية للتعميمات، ويعتبرها وكأنها غير موجودة، او انها لا تعنيه ما لم تكن هناك نظرية تعميمية افضل. وكل ذلك يفرض الجانب البراجماتي على العلم حتى في مسكله الوضعي او الواقعي الذي ساد منذ النهضة العلمية وحتى بداية القرن العشرين، كالذي يتبين من شواهد الشذوذ التي الفها العلم دون ان يضطره الامر الى تكذيب النظرية، اي خلاف ما كان يتبناه كارل بوبر في نزعته التكذيبية المعروفة.
لكن مثلما انه لا يمكن نفي النزعة البراجماتية من العلم، وهو يسلك المسلك الواقعي، فكذلك لا يمكن نفي جانبه الواقعي حتى في نزعته البراجماتية السائدة. وقد يقال بان النزعتين السابقتين صحيحتان كتصفية للحساب، وربما لذلك اعتبر كارناب ان التعارض بينهما هو في حقيقته تعارض لغوي. واحياناً يعبر عما سبق بالنزعتين الواقعية كما هو الحال مع النزعة الاستقرائية والوضعية من جانب، والتمثلية كما هو الحال مع الاداتية والاصطلاحية من جانب ثان. ولكل منهما انصار، لكن المسار الذي شهده العلم خلال القرن العشرين اثبت ان النزعة البراجماتية والتمثلية للعلم كان لها السيادة التامة اذا ما قورنت بالنزعة الوضعية والواقعية.
وقبل ان ننتقل الى ما يتصف به الفهم في علاقته بهذه المفاهيم، علينا ان نميز بين الاعتبارات البراجماتية والكيانات النظرية او الاداتية، فهما وان اشتركا بكونهما ليسا معنيين بالبحث عن الحقيقة الموضوعية، لكن التعويل على احداهما لا يعني الاخذ بالاخرى. وبالتحديد فان الكيانات النظرية او الاداتية هي اعم من الاعتبارات البراجماتية. فقد نجد في حالات معينة ان الكيانات النظرية او الاداتية تعبر عن نزعة براجماتية محددة، لكن في حالات اخرى نجد انها لا تعبر عن ذلك، او انه ليس وراء الخيارات المتاحة دوافع نفعية مرجوة او واضحة. فمثلاً قد نجد تكافؤاً بين نظريتين او مفهومين دون ما يستدعي ترجيح احدهما على الاخر في التفسير، وبالتالي فمن الناحية المبدئية ان خيار العلم لاحدهما ليس لاعتبارات نفعية كالبساطة او الجمال او الملائمة او غير ذلك، بل كان لا بد من الاعتماد على واحد منهما على الاقل، لذلك نطلق عليه النزعة التماثلية. بمعنى ان الكيانات النظرية او الاداتية او التمثلية للعلم تارة تكون براجماتية وهي الصفة الغالبة، واخرى تماثلية. واذا كانت النزعة البراجماتي واضحة المعالم في العلم اكثر مما هي في الفهم، فان النزعة التماثلية تتضح اكثر في الفهم مما هي في العلم.
لا شك ان اغلب التصورات في الفهم تناظر ما عليه النزعة الواقعية في العلم. بمعنى ان مهمة الفهم هي البحث عما هو موجود في النص من معنى، وقلما نجد هناك اتجاهاً يبحث عن قضايا مفترضة لا علاقة لها بالنص. بمعنى ان المفاهيم الموضوعة حول النص هي في الغالب مفاهيم يراد منها التعبير عن حقيقة ما عليه من معنى.
ومع انه ليس هناك نزعة براجماتية مصرح بها في الفهم اساساً، مثلما هو الحال في العلم وفلسفته، لكن قد نجد تأثيرات هذه النزعة من حيث التحليل، رغم انها قد تكون ملتصقة بفكرة التطابق ذاتها لدى الممارسين للفهم. فلو نظرنا من خارج دائرة الفهم فسنرى ان الاخير لا ينفصل احياناً عن الاطار البراجماتي. واقصد بذلك الجانب الابستمولوجي لا الايديولوجي، فسواء نظرنا للمسألة من زاوية التأثيرات الجزئية في صلب نظام الفهم السائد، او من خلال التأثيرات الكلية المرافقة لنظام الفهم، ففي كلا الحالين نجد التأثير البراجماتي واضحاً. فقد تتضمن البراجماتية في الخيارات المطروحة حول المعنى من دون فصل، كما في بعض الجزئيات وليس كمبدأ عام، مثل الاخذ بالتخصيص وترجيحه على النسخ وغيره، فبنظر علماء الفقه واصوله أنه لو تردد الأمر بين النسخ والتخصيص فإنهم يحملونه على التخصيص، بإعتبار أن النسخ رفع للحكم والتخصيص دفع له لا رفع، والدفع أهون من الرفع. اما التأثيرات الكلية للنزعة البراجماتية فهي تلك التي تعطي تعميماً وشمولاً مطلقين وخارجين عن الزمان والمكان للنص، كقبلية اساسية متحدة مع الفهم، مثل إعتبار الشريعة مطلقة لا تحد بزمان ولا مكان، رغم ان ذلك ليس عليه دليل كاف من النص ذاته. فهو اشبه بالتعميم العلمي المأخوذ به رغم انه لا مبرر منطقي لمثل هذا التعميم.
ومثلما نجد بعض البراجماتية في الفهم فاننا نجد ايضاً ما يعبر عنه بالكيانات النظرية في الفهم، وتتجلى هذه الكيانات من خلال الخيارات التي يطرحها المتكلمون حول تفسيرهم للنص، وان كان ذلك لا علاقة له بكل من البراجماتية والحقيقة التطابقية، فهم يبحثون في تأويل النصوص ضمن خيارات متعددة المعنى دون ان يحددوا طبيعة ما عليه النص، بل ما يهمهم هو ان يكون الفهم غير متضارب مع القبليات العقلية، ودون ان يكون الفهم بعيداً عن المجال الذي يتحدث فيه النص. وبالتالي فان مثل هذه الخيارات هي كيانات نظرية لا يراد منها عكس حقيقة ما عليه النص كما هو في ذاته.
عموماً نعتقد بان العقل العلمي الحالي لا يعير أهمية كبرى للتحقق من المطابقة مع الواقع؛ عندما يكون الأخير بعيد المنال. فما يهم العلم اليوم هو الوصول الى حالة تأويلية عامة بغض النظر عن مطابقتها للحقيقة الواقعية لاعتبارات عديدة تختلف كثيراً عما هو الحال في الفهم. فقديماً وحتى بداية النهضة العلمية كان اهم الاعتبارات المعول عليها هو مبدأ انقاذ الظواهر كما اشرنا الى ذلك من قبل. لكن لم يكن لهذا المبدأ ديمومة من الاعتبار من الناحية المبدئية، وقد حل محله مبدأ البساطة، وان كنا نعتقد بأنه لم يفارق العمل العلمي من حيث التحليل. ويضاف الى ذلك جملة من الاعتبارات التي تجعل العلم لا يعير اهمية كبيرة للمطابقة مع الحقيقة الموضوعية، وهو امر يختلف فيه الحال مع الفهم كما عرفنا.
المصدر: http://mail.almothaqaf.com/index.php/tanweer/75386.html