آداب الاختلاف لدى الصحابة رضوان الله عليهم

أحمد محمد هاشم

 مقدمة

الحمد لِلَّهِ والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وخاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد  عليه الصلاة والسلام ،  يقول اللَّه سبحانه وتعالى في محكم التنزيل: {ياأيها الذين آمنوا أطيعوا اللَّه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى اللَّه  والرسول إن كنتم تؤمنون باللَّّه واليوم الآخر ، ذلك خير وأحسن تأويلاً} (سورة النساء، الآية: 59)، ويقول في آية أخرى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمهُ إلى اللَّه، ذلكم الله ربي عليه توكلتُ وإليه أنيب} (سورة الشورى، الآية: 10).

في هاتين الآيتين الكريمتين، وغيرهما من آيات اللَّه البينات التي وردت في القرآن الكريم المنزل من رب العالمين، على رسوله الطاهر الأمين،  عليه الصلاة والسلام ، تشريعاً سماوياً إسلامياً: هداية ودلالة، كما هو للتدبر، والعمل به. ومن مدلول هاتين الآيتين: يتبين أن الاختلاف في بعض القضايا والمسائل الإسلامية لابد سيقع. وها هو ذا قد وقع ووجد، بل وتشعب، وأخذ مداه حتى وصل أمر الإسلام والمسلمين إلى ما وصل إليه، كما أن من هديهما: وجوب الأخذ والعمل به، وهو عرض المختلف فيه على كتاب اللَّه، وعلى الصحيح من سنة رسوله عليه الصلاة والسلام ، باعتبارهما دليلين قطعيين أساسيين، فإن وافقهما أو وافق أحدهما كان دليلاً يحتج به وإلا رُدَّ، لتباينه وتعارضه معهما، ليتضح الحق، ويستبين الهدى والرشاد، ويزول الاختلاف، وفي ذلك خير للمختلفين، حفاظاً على وحدة الأمة الإسلامية، وصون جذوتها، وجمع كلمتها.

ومن ذلك نعلم أن الاختلاف في المسائل والقضايا الإسلامية محتمل كما هو ثابت، وأن له مرجعية تشريعية، وإطاراً قيمياً عقلياً محكماً، كما أن له آداباً محددة، جرى عليها السلف الأول، من صحابة راشدين، وتابعين متقين، وأئمة وفقهاء ومفكرين.

وفي رحاب الحوار القيمي، ولهدف التقارب الإسلامي، وتجسيد وحدة المسلمين نستعرض "مع سادة أجلاء، ومشاركين فطناء" في هذه الندوة العلمية الجليلة، موضوع"أدب الاختلاف في الإسلام". ذلك الأدب الذي التزمه وسار عليه بناة الدعوة الإسلامية الأقدمون، وحماة الشريعة المحمدية المطهرة السابقون، مقتصراً في مداخلتي المتواضعة على تناول محور" آداب الاختلاف لدى الصحابة، رضوان الله عليهم،  في إطار العقيدة الإسلامية ومنهجها القويم، الذي جاء به الصادق الأمين، لهداية الناس أجمعين، وليجعل أمة الإسلام أمة واحدة، رحمة من اللَّه لعباده، والمؤمنين من خلقه. ومن المستحسن، بل ومن الواجب أن نلتزم الموضوعية حول الاختلاف أو الخلاف، وأسبابه ومبرراته، لغرض التقارب الفكري والوجداني، والبعد عن التباين والتضاد، بخاصة ونحن أبناء عقيدة واحدة، نجد أنفسنا اليوم، وقد شردنا كثيراً عن الجادة الصحيحة، وتاهت بنا معطيات العصر عن الحقيقة الناصعة، وسلكنا دروب الفرقة المنبوذة، حتى تشدد البعض، وتصلب آخرون، على غير سبيل الحكمة الإيمانية، ومع الأسى كادت ظاهرة الاختلاف المذهبي أن تطغى على وجوبية ومشروعية الائتلاف الإسلامي، فافترقت الأمة الإسلامية إلى فرق: منها الناجية، كما تدعي، ومنها غير ذلك، كما هو معروف، وصارت المذهبية الإسلامية شيعاً وأحزاباً، نتج عنها تفاقم مقيت، وتحيز منبوذ، وتعصب ذميم، بينما الاختلاف في إطار الشريعة الإسلامية لا يحمل على التباين والتضاد، كون مجمل أدلته ومبرراته تدور حول محوري التقليد، والجهل الدليل الصحيح، ولذلك نجده محصوراً في القضايا والمسائل الاجتهادية الظنية، ومع تنوع وسائل التواصل المعرفي وتعددت طرق اكتساب العلم. فإن الحوار سيظل كما هو دائماً أفضل وأجل وسيلة للتواصل، فالتقارب، فوحدة الأمة الإسلامية، كما أنه سيكون أنجع طريقة للتخاطب، وتبادل الرأي فالأخذ بالدليل، بخاصة بين قادة الفكر الإسلامي وعلماء وفقهاء الملة المحمدية.

ومن هذا المدخل سنسبر غور الغاية والمقصد من ندوتنا هذه، مؤكدين أن الحوار بالحجة والدليل سيظل دوماً أفضل منطق للاتفاق، وأسلس سبيل للوفاق، كما هو للائتلاف ونبذ الخلاف، أمضى آلة لتضييق مساحة الاختلاف، سيما وقد أصبح في مقدور الفرد في عصرنا الحاضر، بل وعلى رغم منه، أن يسمع "صوتياً"، وأن يشاهد "بصرياً"، ما يرضاه وما لايرضاه، عن الإسلام وشريعته الغراء بشكل عام.

 وفي واقع الأمر وحقيقة الحال فإن ما يقال وما يكتب عن تعددية الدين الإسلامي الحنيف، وعن الاختلاف فيه، ليس إلا نفثاً مجرداً عن حقيقته وجوهره، تصوغه الأفكار الهدامة، وتردده النزعات المضادة للشريعة الإسلامية وتعاليمها السمحة السهلة، في الوقت الذي لا يتقبلها إلا جهلة التشريع، وإلا قليلوا العلم وفقراء المعرفة، مما ساعد في كثير من الأمر على عزوف أغلب أبناء الأمة الإسلامية عن تعلم العلوم الشرعية والتبحر فيها، كما تولدت  لدى بعض القيادات التعليمية وراسمي سياسة التربية إلى اعتبار مادة التربية الإسلامية في المدارس والمعاهد والجامعات الإسلامية مادة تخصصية، نتج عن ذلك خطر آخر هو: اعتبار تعلم الدين الإسلامي فرض كفاية، إذا تعلمها واحد كفى عن البقية الباقية من الشباب المسلمين، خلافاً لما ورد في الهدي النبوي الشريف: قوله  عليه الصلاة والسلام : >طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة< . وحديثه، عليه الصلاة والسلام: >من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيى به الإسلام، فبينه وبين الأنبياء في الجنة درجة واحدة<. ويقصد بالعلم في هذه الأحاديث: العلم الموصل إلى معرفة البعد الرفيع للشريعة الإسلامية، وتبيان كنهها الإنساني العظيم، باعتبار أن العلم بالتشريع الإسلامي أساس العلوم كلها، وفي هذين الحديثين الشريفين، دلالة ملزمة وصريحة  تؤكد بان المعرفة سلاح المسلم، بها يتمكن من الدفاع عن ذاته وهوُيته وعن معتقده، وبالعلم تقوى الحجة ويستنير البيان، وتتضح سبل الحياة الطيبة، المستقرة، وفيهما وفي وغيرها من الأحاديث الموجبة لطلب العلم وتعليمه دعوة نبوية لمحاربة الأمية، وسد منابع الجهل، باعتبار الجهل أشرس موارد الغواية والضلال، فبسببه نشأت الأخطار المحيطة بالإسلام والمسلمين، واستفحال التخلف، وتورم الاختلافات، وأََعْظِمْ بالجهلِ من خطرِ على كيان الأمة الإسلامية.

وكما هو معلوم فإن مظاهر الاختلافات الفقهية كانت المُناخ المناسب للحاقدين على الإسلام للطعن في وحدة الأمة، وفي تكامل تشريعاته وتماسك مصادره، بقصد النيل منه، والتشكيك في بُنيته والتأثير على متبعيه، وقد شكلت بالفعل لدى الجهلة شبه دلالة على وجود تعددية في جوهر الإسلام، وثبوت خلل في أصول ومصادر تشريعاته، ولذلك استغلت مدخلاً ملائماً لإشعال نيران الفتن، وإضرام الإحن بين المسلمين، بقصد النَّيْلِ من ذات الإسلام، ومن رسوله عليه الصلاة والسلام ، ومن أصحابه وتابعيهم ومن تلاهم من الأئمة الهداة والفقهاء والمفكرين الأعلام.

 وبتفشي الجهل بأسباب ودوافع الاختلاف، وبتوقف الحوار الإسلامي المباشر بين العلماء والفقهاء، بل وبندرته، غدت النعرات الجاهلية متورمة تنخر مؤثرة في نعمة الاختلاف ومقاصده، وتزيد من تفرق المسلمين وتلاحمهم، بينما الدين الإسلامي بريء من التعددية المزعومة فيه، كما هو برىء من الاختلافات العقدية، والتباينات الجوهرية ولايوجد فيه، ولم ولن يدخله التحريف قط، كما ذلك ثابت في نصوص الديانات السماوية الأخرى، فأركان الإسلام، الاختلاف في عددها ولا في ذاتها، ولا في جوهرها، مسلم بها لدى كل فرقة إسلامية، وقواعد الإيمان كاملة لايختلف عليها أي فريق، وأصل التشريع الإسلامي، وهو القرآن الكريم مودوع في لوح محفوظ، تولى اللَّه جلت قدرته حمايته من التحريف والتشويه والمسخ والتبديل، والسنة النبوية الصحيحة المطابقة لكتاب اللَّّه مدونة محفوظة، لذلك فالإسلام واحد، وغير متعدد، وإن ظهر أتباعه من المسلمين في ظاهرهم مختلفين، فما ذلك الاختلاف واقع إلا في بعض جزئيات العبادات وسننها، والكيفيات الشكلية للقضايا والمسائل الظنية في بعض المعاملات الاجتهادية، لا في جوهرها.

وحفاظاً على وحدة أبناء الأمة الإسلامية، والعمل على لم شملها وتوحيد صفها، وتصدياً للشبهات التي تحوم حول وحدة التشريع الإسلامي، فإن المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، أسهمت وتسهم بجهود طيبة ومقدرة في هذا المضمار، وبإخلاص مشكور يتابع قياديو ومسؤولو العمل الثقافي داخل إدارة المنظمة بذل جهودهم الخيرة، وتقديم خلاصة أفكارهم النيرة، لتحقيق أهداف المنظمة في حماية واستقلال الفكر الإسلامي من عوامل التشويه، والمحافظة على خصائصه المميزة، وحماية المسلمين من سلبيات الغزو الثقافي والفكري الذي تنتهجه الجهات المعادية للإسلام، ولتضييق هُوة الاختلاف الفقهي بين المسلمين، بقصد تدعيم التفاهم بينهم، وفي رحاب آداب الحوار الإسلامي الهادف، يأتي لقاؤنا هذا في تونس الحبيبة، وفي واحدة  من أعرق صروح العلم والمعرفة الإسلامية، جامعة الزيتونة  (زيتونة العلم والاجتهاد)، في هذه الندوة المباركة التي أتت: تحت عنوان ـ أدب الاختلاف في الإسلام ـ، (وإن كنت لا أجد في الإسلام اختلافاً، إنما الاختلاف القائم هو لدى المسلمين!! )، مستهدفة  الدعوة إلى الالتزام بمبدإ الحوار السليم وإرساء تقاليده الهادف البناءة في معالجة الاختلافات الفكرية والفقهية الإسلامية، التي كانت قد تكونت بسبب طريقة فهم النص أو علة في الدليل، كما تستهدف تنمية روح التفاهم والتآلف بين علماء ومفكري العالم الإسلامي، وصولاً إلى توحيد جهودهم واجتهاداتهم، وتدعيم التكامل بينهم، وتمكينهم من التصدي للمسؤوليات الحضارية التي تواجهها الأمة الإسلامية جمعاً، وأجد استخراجاً واستنباطاً لايقبل الاختلاف أن هذه الندوة في حد ذاتها دليل إثبات وشاهد تعريف، يؤكد بأن الاختلاف الظاهر والشائع بين علماء المسلمين لم يكن اختلافاً في أصول ومصادر التشريع الإسلامي، وإنما هو ناتج عن اجتهادات فردية لنصوص أحادية وظنية، وفي قليل من المسائل الظنية الفقهية، أما المسائل الاعتقادية والثوابت التشريعية القطعية، فلم ولن يدخلها الاختلاف مطلقاً، فالإسلام واحد، ودعوته واحدة، وغايته واحدة، وبلوغ كنهه لاسبيل إليه إلا بالعلم الشمولي للإسلام، كما هو بالتمسك بمصادره الصحيحة، لذلك يأتي التعريف بأن الاختلاف القائم بين المذاهب الإسلامية ليس اختلاف تباين أو تضاد، أو اختلاف في الغاية والمقصد،  وإنما هو اختلاف في طريقة أداء العبادات، وثبوت صحة الدليل، وفي جزئيات أشكالها.

وبما أن الاختلاف ثابت بصفاء، ووارد بحسن نية، فلا شك أن له قواعد وآداباً، كانت قد تكونت واتبعت منذ إشرافة فجر الإسلام، وفي عهده الأول، أي في عهد رسول اللَّه  عليه الصلاة والسلام ، وعهد الصحابة، رضي الله عنهم، وعهد من تبعهم وتلاهم من حملة مشاعل الهدى وأعلام الفكر الإسلامي ودعاته. ولإيضاح ما أقصده من مدلول اصطلاحي لمفردات لغوية، أجيز لنفسي أن أتناول حصراً تعريف مفردات الخلاف والاختلاف، مع تحديد المقصود من كلمة الصحابي، لغةً واصطلاحاً، كما يلي:

الخلاف والاختلاف ـ معنى ودلالة ـ لغة واصطلاحاً:

 غَرْفاً من معاجم اللغة العربية ومواقع استعمالاتها الاصطلاحية، أقتصر في التبيان: بأن أصل اشتقاقهما لغوياً من كلمة خلف الثلاثية، التي وردت في أصول معان ثلاثة: أحدها: بمعنى مجيء شيء بعد شيء يقوم مقامه، والثاني: مايعني خلاف أمام وقدام، والثالث: ما يأتي بمعنى التغيير، وفي لسان العرب: الخلاف بمعنى المضادة، وقد خالفه مخالفة، وخلافاً إلى الشيء، عصاه إليه أو قصده بعد ما نهاه عنه، وفي القرآن الكريم قول اللََّه تعالى: {وما أريدُ أن أخالفَكم إلى ما أنهاكمُ عنه} (سورة هود، من الآية: 88)، وتخالف الأمران إذا اختلفا ولم يتفقا، ويأتي خلفه في كذا: أي سلك طريقاً آخر غير طريقه، فبينهما تفاوت وتباين وتناف وتغاير، وعلى هذا فإن الخلاف يساوي عدم الموافقة إطلاقاً، ولا يأتي عند المقارنة، وإنما يكون عند المعيار، والاختلاف: يعني عدم الاستواء، ومنه الحديث النبوي الشريف: (استووا ولاتختلفوا فتختلف قلوبكم)، وعلى هذا فإن الاختلاف يعني عدم الموافقة بين الشيئين، ويستعمل عند المقارنة، ذلك معناهما لغة.

أما في الاصطلاح، فقال الراغب، كما في لسان العرب: والاختلاف والمخالفة أن يأخذ كل واحد طريقاً غير طريق الآخر في حاله أو قوله، والخلاف أعم من الضد. لأن كل ضدين مختلفان، وليس كل مختلفين ضدين، وعند الجرجاني: أن الخلاف منازعة تجري بين المتعارضين لتحقيق حق أو إبطال باطل، قال الآمدي، >الموافقة مشاركة أحد الشخصين الآخر في صورة قول أو فعل أو ترك أو اعتقاد أو غير ذلك<، ويرى الشيخ ابن تيميَّة، أن (لفظ الاختلاف في القرآن الكريم يراد به التضاد والتعارض ولايراد به عدم التماثل)، كما هو اصطلاح كثير من النظار، ومنه قوله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} (سورة النساء، من الآية: 82)، وقوله تعـالى: { إنـكم لفي قول مختـلف* يُؤْفـك عنـه مَـنْ أَفِـكَ} (سورة الذاريات من الآيتين: 9-8)، وقوله تعالى: {ولكن اختلفوا فمنهم مَنْ آمن ومنهم مَنْ كََفَر} (سورة البقرة، من الآية: 253).

ويبدو أن حقيقة الصلة بين الخلاف والاختلاف تدور حول معنى واحد، وأن أحدهما يطلق على ما يطلق عليه الآخر، وأنه لا خلاف بينهما، لاكما حدده الراغب، حينما ذكر أن الخلاف الضد أو أعم منه، أو كما يرى ابن تيميه من أن الاختلاف هو التضاد، وليس كما قال غيرهما من أن بينهما عموم وخصوص، أو أن أحدهما قائم على الدليل والآخر قائم لا على الدليل، وللدكتور عبد اللَّه شعبان رأي مقبول، عندما ذكر أنه:  >عند التحقيق ثبت أن الخلاف كالاختلاف سواء، وأنهما مترادفان، وأن السبق وحده هو الذي يفرق بين المقبول منه والمردود، مستدلاً بأن اتفاق معاجم اللغة على جعل مادة خلف الثلاثية اصلاً لمجردها ومزيدها، وأنها من المشترك اللفظي، وزيادة المعاني تابع لزيادة المباني، وبأن المحدثين يأتون بالكلمتين مما يدل على الترادف<، وذلك اقرب إلى الصحة فيما أظن وأميل إليه، ونجد الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى، رحمه اللَّّه، يرى أن مدلول كلمتي الخلاف والاختلاف واحد، ومع ذلك، قال:  >أن الخلاف بين المسلمين إلى ضروب ثلاثة، ضرب لا خطأ فيه وهو الخلاف في الاجتهادات، وضرب يقتضي الخطأ ولكن دون تكفير أو تفسيق، وضرب يقتضي التكفير، كالجبر والتجسيم، أوكخلاف الخوارج لسبهم علياً، عليه السلام، إلى آخر ما ذكره في أحد مؤلفاته الشهيرة<.

ويعلم من مصادر الرواية وكتب التاريخ والتراجم أن الاختلاف بين علماء الأمة الإسلامية كان قد ظهر منذ بزوغ شمس الإسلام، وأنه لا يعني التضاد والتعارض، كما لايعني التباين والتنافر، لأن الذي يجمعهم ويدعوهم للاتفاق أحادية العقيدة، المبنية على أصول تشريعية منزلة من عند اللَّه الواحد وعلى لسان نبي واحد، وبكتاب محكم محفوظ، وما الخلافات التي برزت وفي مجمل أنواعها وعلى مختلف مراحلها إلا نتائج أراء توصل إليها العلماء والفقهاء، حول نصوص أحادية ظنية، كما هي دليل اجتهادات وصل إليها الباحثون وأولو العلم، لهدف الوصول إلى العبادة الصحيحة، وأداء الفريضة بتحرٍّ ودقة، ولغرض التقرب إلى اللَّه جل جلاله، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ومن هذا المنطلق يتبين، أيضاً، أن الاختلافات الفقهية بكل أنواعها وعلى مختلف مراحلها الزمنية، إنما كوَّنت اختلافاً رحيماً، لايجر إلى كفر، ولا يشد إلى فسق، ولا إلى فصل وإخراج أحد من المِِِلَّة المحمدية، فكل مجتهد مصيب، وكلهم كما يقول الشاعر:

وكلهم من رسول اللَّهِ ملتمسٌ                رشفاً من البحِر أو غرفاً من الدّيمِ

أما تعريف الصحابي: فصفة تطلق على من ثبتت مجالسته لرسول اللَّه عليه الصلاة والسلام  ولو ساعة، وسمع منه ولو كلمة فما فوقها، أو شاهد منه عليه الصلاة والسلام  فعلاً بعينيه، ولم يكن من المنافقين الذين اشتُهر نفاقهم ومات عليه، وهذا التعريف يشمل من كان قد وجد في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام  صغيرا ًأو بالغاً: كالحسن والحسين ريحانتي أهل الجنة ابني الإمام علي، كرم اللَّه وجهه، والنعمان بن البشير، وعبد اللَّه بن الزبير، وابن الربيع، وسواء في ذلك الرجال والنساء. وأما من أدرك النبي عليه الصلاة والسلام  ولم يلقه، فليس بصحابي، ولكنه يعد تابعياً. وصحابة رسول اللَّّه عليه الصلاة والسلام ، رضوان الله عليهم، كثيرون، لم يضبط المؤرخون عددهم، ولم أعثر على حصر شامل لأسمائهم أو ألقابهم، عدا الذين عرفت أسماؤهم أو ألقابهم، واشتُهروا بمواقف أو أفعال عرفت بهم، وتم لرجال الحديث والسند معرفتهم، يقول ابن حزم الظاهري: أنه بلغ عددهم، رضوان اللَّه عليهم، أكثر من مائة ألف إنسان بين رجل وامرأة، وأولئك  الذين ورد ذكرهم في مؤلفات يعسر حصرها، لكثرة عددها، ولذا يقول الحافظ ابن حجر، مشيراً إلى ذلك بأنه يأتي في أولها، وأشملها كتاب أسد الغابة في معرفة الصحابة الذي هذبه ورتبه الحافظ المؤرخ عز الدين بن علي بن الأثير الجَزْرِي المتوفى سنة 640 هـ، وقد جمع فيه ذكر (7554) صحابياً، وقام من بعده الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، وزاد عليه، حتى بلغ عددهم مع التهذيب (8866) صحابياً، ثم جاء من بعده الحافظ الكبير شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني، المتوفى سنة 852 هـ حيث جمع مفنداً في كتابه المسمى الإصابة في تمييز الصحابة حوالي(9477) ترجمة للأسماء، و(1268) للكنى، و(1552) للصحابيات، ويذكر بعض الحفاظ المتأخرين أنه فاته بعض الصحابيات، وبضبط تاريخ وفاة من ألف وجمع أسماء الصحابة، فإن أقدمها جمعاً كان قد بدأ منذ مطلع العقد الثالث الهجري، وأذكر ماعرف منها خلاله ومطلع القرن الرابع الهجري، كما أوردها الدكتور فاروق حمادة في تحقيقه لكتاب فضائل الصحابة: للنَّسائي، وهي كما يلي:

.1 كتاب من نزلوا من الصحابة سائر البلدان: للإمام علي بن المديني المتوفى سنة 234 هـ .

 .2 كتاب الصحابة: للإمام البخاري، صاحب الجامع الصحيح، المتوفى سنة 256هـ.

 .3 كتاب أولاد الصحابة، وكتاب تجريد أسماء الصحابة: للإمام مسلم بن الحجاج.

.4 كتاب أسماء الصحابة: وعدد ما رووا : للإمام بقي بن مخلد الأندلسي المتوفى سنة 276 هـ.

.5 كتاب أسماء الصحابة: للترمذي صاحب الجامع الصحيح المتوفى سنة 279 هـ.

.6 الوحدان: للحافظ ابن أبي عاصم المتوفى سنة  287هـ.

.7 كتاب الصحابة: للعلامة محمد بن عبد اللَّه الحضرمي المتوفى سنة 297 هـ.

.8 كتاب الصحابة: للعسكري المتوفى سنة  300هـ.

.9 كتاب معجم الصحابة: لأبي يعلى المتوفى سنة 307 هـ.

ويتلوها العديد من الكتب والمؤلفات التي كانت قد جمعت عن الصحابة خلال القرون التالية، وفيها تم تصنيف الصحابة بحسب شهرتهم في الحفظ والرواية والإفتاء إلى درجات. كما أن هناك كتب قد ألفت في فضائلهم، ولي وقفة إنصاف حول بعض  كتب الفضائل، وبخاصة منها ما ورد في  فضائل معاوية بن أبي سفيان، وأكتفي في هذه المداخلة بكلمة للأمام أحمد فيما يتعلق بسيدنا علي، كرم اللَّه وجهه، ومعاوية فقد سأله، ابنه عبد اللَّه، ماتقول في علي ومعاوية؟ فأطرق ثم قال: اعلم أن علياً كان كثير الأعداء، ففتش له أعداؤه عيباً فلم يجدوا، فعمدوا إلى رجل قد حاربه فأطروه كياداً منهم لعلي. قال ابن حجر فأشاروا بهذا إلى ما اختلقوه لمعاوية من الفضائل مما لا أصل له، قال محقق كتاب فضائل الصحابة للإمام النَّسائي، كما قال غيره، وقد وردت في فضائل معاوية أحاديث كثيرة ليس فيها ما يصح من طريق الإسناد، وبذلك جزم إسحاق بن راهَوَيْه والنَّسائي وغيرهما، واللَّه أعلم.

وعلى مجمل القول ومحمل الحقيقة، فإنهم إجمالاً فقهاء في دينهم، سابرين أغواره وملازمين أطواره، لأنهم لاشك نهلوا من منبع الإسلام دون وسيط، واغترفوا من معين مُبّلغ الوحي سيدنا محمد النبي عليه الصلاة والسلام ، بدون وسيلة، كما أنهم صاحبوه بصدق نية وحسن طوية، {محمُدٌ رسولُ اللَّهِ والذين معه أشدَّاءُ على الكفار رحماءُ بينهم تراهم رُكَّعاً سُجَّداً يبتغون   فضلاً من الله ورضواناًً}، (سورة الفتح، من الآية: 29)، ما كان طريقهم إلى فقه الدين الإسلامي إلا خطاب اللَّه تعالى، وسنة رسوله الكريم. وخطاب اللَّه تعالى هو القرآن الكريم، وقد أنزل بلغتهم، وعلى أسباب عرفوها، وقصص كانوا فيها وعاشوا أحداثها، فعرفوا سطوره، وعلموا مفهومه ومنطوقة ومنصوصه ومعقوله، ومحكمه ومتشابهه. يقول أبو عبيدة في كتاب المجاز: >لم ينقل أن أحداً من الصحابة رجع في معرفة شيء من القرآن إلى رسول اللَّه عليه الصلاة والسلام ، وبذلك لم يعد لديهم شك في كنهه لوضوح الدلالة، وبيان اليقين. وسنة رسوله الكريم، هي قوله وفعله وأمره ونهيه، وكلهم مع القرب والمعرفة والتتبع والامتثال المتكرر، لأقواله وأفعاله وأمره ونهيه أعلم وأفقه. ومع ذلك فهم أصناف وطبقات، فمنهم من اشتُهر بالفتاوى وكثرة ملازمة الرسول عليه الصلاة والسلام ، حتى تكلم عن الحلال والحرام، وحدث بما علم، وهم جماعة محظوظة، ومنهم من تصدر العلم والشجاعة والفهم والقدرة على الفتوى، وله سبق في الإسلام، كالإمام علي، كرم اللَّه وجهه، والخليفة أبي بكر، رضي الله عنه، وغيرهما، ومنهم من بُشّرَ بالجنة، وهم عشرة، ومنهم من حاز السبق، وتحمََّل الضيم صبراًً على الإسلام، كعمار بن ياسر ووالديه، ومنهم من جاهد في اللَّه حق جهاده، وفاز بسبق الشهادة، ومنهم من عاد بعد إسلامه ولزم داره، ومنهم بحسب الظهور والشهرة، وكلهم في شرف الصحبة سواء، حظوا برفقة أطهر صاحب، فنالوا أعلى المراتب، واكتسبوا أرفع المناقب، في الدنيا والآخرة، بيد أن هناك تفاضل بين الصحابة، وتفاوت في المرتبة، وقد جاء النص القرآني بذلك: {لايستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجةً من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد اللَّه الحسنى، واللَّه بما تعملون خبير} (سورة الحديد، الآية: 10). ولهذا قسم النيسابوري ومن قبله ابن حبان الصحابة إلى اثنتي عشرة طبقة، ومنهم بحسب الظهور والشهرة والفقه والرواية، من عدد من كبار الصحابة، وهم على سبيل الإشارة والمثل:

الخليفة أبوبكر الصديق، رضي الله عنه، وقد تولى الخلافة مدة سنتين وعدة أشهر، وله فضائل في الإسلام وخصوصية في الصحبة، مات، رحمه اللَّه، سنة 13 للهجرة، وهو ابن ثلاثة وستين عاماً.

الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، اشتُهر بصراحة الرأي، وسرعة البديهة في نباهة وفراسة، وعمق فصل للمواقف في الحق، كما اتصف بالعدل، تولى الخلافة مدة عشر سنوات وأشهراً، استُشْهِد، رحمه اللَّه، سنة 23 للهجرة، وهو ابن خمسة وخمسين عاماً.

الخليفة الثالث عثمان بن عفان، اشتُهر بالفضل والزكاة والورع، كما كان تقيا ًومن الصالحين، تولى الخلافة لمدة اثني عشر عاماً إلا أياماً، واستُشهد رحمه اللَّه، عن سن الثانية والثمانين، وقيل: التاسعة والثمانين.

الخليفة أمير المؤمنين، الإمام علي بن أبي طالب كرم اللَّه وجهه، وردت في فضائله أحاديث كثيرة بلغت في مجملها حد التواتر، لقي اللَّه شهيداً ليلة الجمعة، في السابع عشر من شهر رمضان سنة 40 للهجرة، وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وقيل ابن ثلاث وستين، وذلك بعد أربع سنين وتسعة أشهر وأياماً من توليه أمر المسلمين.

ومنهم الحافظ الفقيه عبد اللَّه بن مسعود، ومنهم المنذر أبي بن كعب، وأبو عبد الرحمن بن ماق بن جبل، وأبو سعيد زيد بن ثابت، وأبو الدرداء عويمر بن مالك، وأم المؤمنين: عائشة بنت أبي بكر الصديق، وعبد اللَّه بن عباس، وعبد اللَّه بن عمر، وزيد ابن ثابت، وأبو موسى بن عبد اللَّه بن قيس بن سليم،  وغيرهم ولكل ترجمته، ويرى آخرون أنه يأتي في طبقتهم: العباس بن عبد المطلب، وأبو عبد الرحمن: عبد اللَّّه بن عمربن الخطاب، وأبو محمد: عبد اللَّه بن عمرو بن العاص وغيرهم ممن ثبت عنهم الرواية عن رسول اللَّه عليه الصلاة والسلام ، بلا خلاف، سواء قال سمعت رسول اللَّّه عليه الصلاة والسلام ، أو أخبرني أو حدثني أو شافهني، أو رأيته يفعل، أو جاء بلفظ يحتمل الواسطة بينه وبين رسول اللَّه  عليه الصلاة والسلام ، كأن يقول قال رسول اللَّه عليه الصلاة والسلام ، كذا، أو أمر بكذا، أو نهى عن كذا، أو قضى بكذا، فإن روايته صحيحة، وثابتة لأن الصحابة كلهم شهود حق، وشهود صدق، إلا من ثبت نفاقه أو ردته أو مجاهرته بعناد الحق، ولا يختلف الفقهاء ورجال السنة والحديث أن مراسيل الصحابة مقبولة كما هي عند جمهور العلماء ووسط المحدثين، وهو الحق، وخالف في هذا أبو داود الظاهري، فإنه قال: >لايحتج به حتى ينقل لفظ الرسول< ولاحجة بهذه المقولة، فإن الصحابي عدل عارف للسان العرب .

وأما ما ثبت حول عدالة كل الصحابة فإن كثيراً من المحققين لم يأخذوا بالعدالة المطلقة ولجميعهم، لذا قال العلامة المقبلي: > وإنما الأغلبية، لا عامة، لأنه يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم،  كثير من الغلط والنسيان والهوى، وماهم إلا بشر يقع من غيرهم<، مستدلاً بما وصف النبي عليه الصلاة والسلام ، نفسه، وبما يصف به غيره في حديثه المروي عنه (إنما أنا بشر أصيب وأخطىء) وهذا الحديث لايعني أن لجمعهم منقصه، لذلك أكد الإمام أبو زرعة ما يعتقد عموم الفقهاء والعلماء والأئمة والجمهور حيث قال: > إذا رأيت رجلاً ينتقص أحداً من أصحاب رسول اللَّه  عليه الصلاة والسلام ، فاعلم أنه زنديق ـ وبالتأكيد يقصد غير المنافقين، ومن ثبت انحرافه عن الجادة النبوية ـ ، وذلك أن القرآن حق والرسول حق وما عاد به حق، وما أداه إلينا ذلك كله إلا الصحابة، رضي الله عنهم، وهؤلاء لا يريدون إلا أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، لذلك فالجرح بهم أولى، وهم زنادقة < وكثير من العلماء يصفون مشاهير أصحاب رسول اللَّه  عليه الصلاة والسلام ، الذين لازموه، بأنهم كانوا فقهاء في دينهم، لايروون إلا ما علموه من رسول اللَّه  عليه الصلاة والسلام .

وحول طبقات الصحابة، فإن علماء الرواية ورجال علم الإسناد قد تم لهم تصنيف الصحابة من حيث ممارستهم للإفتاء إلى ثلاثة أصناف، وعلى  النحو التالي:

الصنف الأول: صحابة كانت لهم فتاوى كثيرة، وهم سبعة:

1 ـ الإمام علي، 2 ـ أم المؤمنين عائشة، 3 ـ عمر بن الخطاب، 4ـ ابنه عبد اللَّه، 5 ـ عبد اللَّه بن مسعود، 6 ـ عبد اللَّه بن عباس، قال ابن حزم الظاهري: "لو جمعت فتاوى كل واحد منهم لكونت أكثر من سِفْرٍ". وقد سبق الإمام المحدث أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب في جمع فتاوى ابن عباس فجاءت في عشرين كتاباً.

الصنف الثاني: صحابة متوسطي الفتوى: وعددهم ثلاثة عشر صحابياً، وقيل تسعة عشر صحابياً، وهم:

 1 ـ أم سلمى، 2 ـ أنس بن مالك، 3  ـ أبو سعيد الخُدْري، 4ـ أبو هريرة، 5 ـ عثمان بن عفان، 6 ـ عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، 7 ـ عبد اللَّه بن الزبير، 8 ـ أبو موسى الأشعري، 9 ـ سعد بن أبي وقاص، 10 ـ وسلمان الفارسي، 11 ـ وجابر بن عبد اللَّه، 12 ـ ومعاذ بن جبل، 13 ـ أبوبكر الصديق.

ولربما يمكن جمع فتوى كل واحد منهم في سفر صغير، ويضاف إليهم:

1 ـ طلحة بن الزبير، 2  ـ عبد الرحمن بن عوف، 3 ـ عمران بن الحصين، 4  ـ أبوبكرة 5 ـ  عبادة بن الصامت، 6 ـ معاوية بن أبي سفيان.

الصنف الثالث: صحابة أفتوا في مسألة أو مسألتين.

وقد ذكرهم الشيخ ابن حزم الظاهري . ويأتي المحققون ورجال الحديث وعلماء الإسناد بما يشبه الحصر: في تحديد أشهر فقهاء الصحابة التالية أسماؤهم.

 الخلفاء الراشدون، وأبو عبد الرحمن بن مسعود، وأبو موسى: عبد اللَّه بن قيس الأشعري، وأبو المنذر: أبي بن كعب، وأبو عبد الرحمن" معاذ بن جبل، وأبو سعيد: زيد بن ثابت، وأبو الدرداء: عويمر بن مالك، وأم المؤمنين: عائشة بنت أبي بكر الصديق، وأبو العباس: عبد اللَّه بن العباس بن عبد المطلب، وأبو عبد الرحمن: عبد اللَّه ابن عمر بن الخطاب، وأبو خبيب: عبد اللَّه بن الزبير، وفي الصحابة خلق كثير غير هؤلاء نقل عنهم الفقه، ويأتي ذكرهم في كتب التراجم، كما جاء ذكر بعضهم في كتاب طبقات الفقهاء لمؤلفه الفقيه: أبي إسحاق الشيرازي الشافعي المتوفى سنة 476 هـ.

 أنواع الاختلاف

الاختلاف بمعناه الشامل نوعان: أحدهما خطير: وهو الاختلاف المحظور الممقوت، ومنه ما هو غير محمود، ويندرج تحته الاختلاف في الأصول القطعية للتشريع الإسلامي، والعقيدة الإيمانية، كاختلاف الإسلام مع العقائد الكفرية، وكتصور المشبهة، وكاعتقاد المجبرة.

والثاني غير خطير: وهو الاختلاف الرحيم، وليس به بأس ولاضير، إذ أنه لايتجسد إلا في فهم النصوص الأحادية، وفي صحة سندها لفظاً ورواية، ويدور هذا الاختلاف حول المسائل والقضايا التالية:

 .1  المسائل الفقهية: وعلى غالب الأمر فإنه لا يبرز إلا في القضايا الاجتماعية، والمسائل الظنية، ولاسيما منها مسائل فروع العبادات وسننها وأشكالها، وبعض قضايا المعاملات، باعتبار أن  الاختلاف لدى العلماء وارد فيها، لعلاقته بفهم ونص الدليل. وقد وقع اختلاف بين مشاهير الصحابة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام ، ومن بعده في كثير من المسائل، كما تكرر في عهد التابعين وتابعي التابعين من بعدهم، ومع الأئمة المجتهدين والمحققين، ومازال لدى من وصل إلى مرحلة الاجتهاد حتى عصرنا.

ويرجح بعض علماء الأمة الإسلامية أن أهم وأبرز سبب هذا الاختلاف يعود إلى عدم تدوين السنة المطهرة، حيث قيل:"ولو كانت السنة المطهرة قد دونت وحفظت كما قالها رسول اللَّه عليه الصلاة والسلام ، أو فعلها أو أقرها لما اختلف المسلمون فيما اختلفوا فيه"، ولما تفرقوا مذاهب وأتباعاً.

  .2 الاختلاف السياسي: وكان قد ظهر هذا النوع من الاختلافات عقب وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام ، وذلك حينما اختلف المهاجرون والأنصار في اختيار خليفة رسول اللَّه، ليقوم بأمر الأمة وشؤون المسلمين، حتى استقرت البيعة لأبي بكر الصديق، رضي اللَّه عنه، بمبادرة من عمر بن الخطاب، رضي اللَّه عنه، حسماً للخلاف الذي كان قد وصل بين الحضور من الصحابة إلى حد رفع الأصوات، ثم تلاه الخلاف بين الصحابة مع عمر فيمن يخلف عمر، في خلافته على المسلمين، حيث كان قد أوصى بها محدداً ستة أشخاص يختار كبار الصحابة أحدهم لخلافته. وتأتي الفتنة الكبرى حين استُشهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، رضي اللَّه عنه، من أوائل الاختلافات السياسية في تاريخ المسلمين، ومن أشدها أثراً على وحدة الأمة، كما يعتبر خروج معاوية بن أبي سفيان على إمامة الإمام علي بن أبي طالب، كرم اللّه وجه، من أكره وأبغض أوجه الاختلاف السياسي الذي حدث في صدر الإسلام، حيث جر إلى انقسام الصحابة آنذاك إلى قسمين، أغلبهم من تابع علياً، وأقلهم من لحق بمعاوية، كما أدى إلى خروج المسلمين عن الجادة، وفرق صفوفهم وجعلهم فرقاً متباينة، ونحلاً متشاكسة، ومذاهب مختلفة، وسار سوس الاختلاف ينخر في عظم الأمة الإسلامية، إذ انتقل من الخلاف المحمود إلى الاختلاف المذموم. واعتبر لدى بعض الشيعة اختلافاً في أصل من أصول التشريع، وهي الإمامة لنصوص رويت في خلافة الإمام على، ومن الصحابة من اعتبره خلافاً سياسياً، وبأي مقياس، فإن ذلك الاختلاف قد  أحدث ثلماً في وحدة الأمة الإسلامية، حيث جر إلى أنواع من تصدع وانقسام في صفوف المسلمين، ينهى عنه الإسلام بل يحرمه تحريماً قطعياً. وهناك أنواع من الاختلافات السياسية، ومردها الاجتهاد في نوعية الحكم في الإسلام، ولكنها مقبولة تحت أي مسمى، مادامت ملتزمة بحدود النصوص التشريعية، وفي إطار وظيفة الدولة الإسلامية.

 .3 الاختلاف الفكري: وهذا النوع من أنواع الاختلافات ليس له مرجعية تشريعية في حدود مقاصده الخاصة وآفاقه الواسعة،  والتعرض له ـ بإيجاز أو تفصيل ـ في مداخلتي هذه: أجدني في غنية عنه، لتعدد مشاربه وتنوع مصادره وتشابك أبعاده، وفيما سيتناوله الإخوة الفضلاء والمفكرون المشاركون معنا الكفاية فيما يرشد.

أما المراحل الزمنية التي مر بها الاختلاف الإسلامي فيمكن تقسيمها، حسب صلته بمصادره ومرجعيته، إلى حقب أربع وكالتالي:

الحقبة الأولى: الاختلاف في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام ، وقد حدث بين الصحابة، رضي اللَّه عليهم، ولكنه سرعان ما كان يحسم الأمر فيه، بموافقته  عليه الصلاة والسلام ، عليه أو نهيه عنه، وعلى سبيل المثال: الحديث المروي عن عبد اللَّه بن مسعود، قال: سمعت رجلاًً قرأ آية سمعت من رسول اللَّه خلافها،  فأخذت بيده، فأتيت به رسول اللَّه  عليه الصلاة والسلام ، فقال: "كلاكما محسن"، قال شعبة: "أظنه، قال: "لا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا"، ومن مفهوم هذا الحديث نستخرج: أن الاختلاف بين الصحابة حدث، وإنه لمجرد الخلاف أمر غير محمود، بل ومنهي عنه، كونه يؤدي إلى التفرق وشق عصا الإسلام، ويؤثر على وحدة صفوف المسلمين.

الحقبة الثانية: الاختلاف في عهد الخلفاء الراشدين والصحابة من بعدهم، وكانت هذه الحقبة قد ظهرت لحظة لحاقه عليه الصلاة والسلام ، بالرفيق الأعلى وعقب وفاته، كما امتدت حتى نهاية القرن الأول للهجرة النبوية، حيث ظهرت فيها بين الصحابة اختلافات متعددة، ومتنوعة: ومنها ما كان ذا علاقة بذات النص النبوي الأحادي، ومنها ما تعلق بفهم الصحابي لمضمون النص، ومنها ما سار عليه الصحابة في أداء العبادة والسنن، ومنها ما كان ذا صلة بالاختلاف السياسي والمصالح الشخصية، وأغلبها كانت تحل بالعودة إلى الدليل مع التحري في صحته، أو التسليم بموقف الجماعة، ومثلنا على ذلك: موقف عبد اللَّه بن مسعود، رضي اللَّه عنه  من الصلاة في منى، حيث كان رسول اللَّه عليه الصلاة والسلام ،  وأبوبكر وعمر وصدر من خلافة عثمان يصلونها ركعتين قصراً، ثم صلاها عثمان أربعاً، فلما بلغ ابن مسعود ذلك استرجع ثم قام فصلى أربعاً، فقيل له استرجعت يابن مسعود ثم صليت أربعاً؟، فقال: الخلاف شر، وهناك أمثلة كثيرة ترد في مكانها.

الحقبة الثالثة: وكانت هذه الحقبة قد ظهرت في مطلع تحول الخلافة الإسلامية إلى ملك عضوض، واستمرت حتى فترة الجمود الاجتهادي، أي عصر مابعد عهد الصحابة وأوائل التابعين، وتلك الحقبة الثالثة كانت قد عرفت بزمن الاجتهادات الفقهية وتعددها، وتكاثر الآراء الفلسفية والفكرية فيها، لكنها كانت على إجمالها، وفي بعض أشكالها اختلافات محمودة، أثبتت سَعةَ الدين الإسلامي، وصلاحيته لكل عصر، حيث ارتبطت حركة الاجتهاد بالعقل، والأخذ بالدليل مع التكيف بعوامل انتشار الإسلام، وظهور علوم جديدة جدة ذلك العصر، اعتبرت في نظر الكثيرين من علماء الإسلام وأئمته علوماًً هامة يجب العلم بها، وتعلمها، كما أصبحت معرفتها ضرورة لتوسيع مدارك المتعلمين وتوسعة معارفهم، لفهم مكامنها والاستفادة منها في تقوية شوكة الإسلام، وللدفاع بها عن جذوته، وصلاحيته لكل عصر، بخاصة وقد كانت هناك مبررات وأسباب أخرى أتاحت فرص وجودها على الساحة الإسلامية كلها، كما كانت هي ومعارفها في حد ذاتها سبباً في اختلافات المسلمين  وتعدد مذاهبهم الفكرية والفقهية، وحتى حياة المسلمين اليوم.

الحقبة الرابعة: وهي الحقبة العصرية: وكانت قد بدأت عقب انحسار الاجتهاد الفقهي، في معظم الساحة الإسلامية، وقصره على بعض الأئمة المشاهير، وتمتد تجاوزاً حتى زماننا الذي نحياه، وهي الحقبة التي مال فيها الأغلب من علماء المسلمين ومفكريهم إلى التقليد الأعمى، والتقوقع على المنقول، إلا من توفق وبرز إلى قمة المعرفة. ولعل من أبرز وأهم أسباب تنوع وزيادة المسائل الخلافية فيها، لدى المجتهد ين المتأخرين، وهم قلة، يعود مردها إلى تنوع العلوم وتعدد مناهجها، وتعدد المدارس الفكرية فيها، وأخيراً إلى انتشار المذاهب الديالكتيكية الجدلية، ومصاحبتها لتهور كبير من قوى الاستكبار، بغرض خلخلة قواعد وأصول التشريع الإسلامي، في محاولة للنيل من الإسلام، والتشكيك في صلاحية كيانه، وقدرته على حلول المشكلات، وتحديات العصر التي تواجه المسلم، ديناً وكياناً، مما كان له أثر بالغ لدى جانب من الجهلة الذين ينتسبون إلى الإسلام، حتى ألصق به ما لا يحتمله، وتم وصفه بما ليس فيه، مما مكن الفئة الجاهلة من تقبل الأفكار الهدامة، وجعلها في مراكز القادرين على تشويه القيم والمقدسات الإسلامية الجليلة، وتلك محاولة من أعداء الإسلام، الذين استهدفوا ومنذ زمن بعيد، بجهد الخاسر طمس الهُوِيَّة الإسلامية، مستعملين شتى الأساليب ومختلف الوسائل، لحجب شمس الإسلام ونشر الجهل في صفوف المسلمين، وتشويه دوره في بناء الحياة كلها لصالح البشرية أجمع، {ويأبى اللَّه إلا أن يُتمَّ نورهُ ولوكره الكافرون} (سورة التوبة، من الآية: 32).

اختلاف المسلمين رحمة من اللَّه

روي في الحِلْية، والمدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي، عن القاسم بن محمد أنه قال: كان اختلاف أصحاب محمد رحمة لهؤلاء الناس (وجاء التعبير بالرحمة في قول الإمام مالك للرشيد) وأن اختلاف العلماء رحمة من اللَّه على هذه الأمة، وقد ورد القول على ألسنة علماء ومحدثين قولهم: "إن اختلاف هذه الأمة رحمة من اللَّه لها، كما أن اختلاف الأمم السابقة كان لها عذاباً وهلاكاً، ولأئمة الشريعة الإسلامية وفقهائها أقوال كثيرة حول الاختلاف. ويرى العلامة القسطلاني المتوفى سنة 923 هـ  في "المواهب اللدنية" أن الاختلاف من خصائص هذه الأمة المحمدية: حيث يقول: >إجماعهم حجة، واختلافهم رحمة<، وحكى الشيخ ابن تيمية، رحمه اللَّه، في مجموع الفتاوي عن أحد العلماء ولم يُسَمّه أنه كان يقول: "إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة". وقد وجدت هذه المقولة الطيبة الصادقة في كلام ابن قدامة في مقدمة كتابه: >المغني<، وكان عظماء رجالات السلف ينظرون إلى اختلاف الأئمة أنه توسعة من اللَّه تعالى ورحمة منه بعباده المكلفين غير القادرين بأنفسهم على استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها الأساس . ويقول القاسم بن محمد بن أبي بكر، أيضاً: لقد نفع اللَّه باختلاف  المسلمين أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ، في أعمالهم، لايعمل العالم بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سَعَةٍ، ورأى أن أخاً خيراًً منه قد عمله، وروى ابن عبد البر: ماذكر مسنداً أن عمر بن عبد العزيز، قال: >ما أحب أن أصحاب رسول اللَّه عليه الصلاة والسلام ، لم يختلفوا، لأنه لو كانوا قولاً واحداً كان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان سَعَةً< . وقال الإمام السيوطي، رحمه اللَّه، في أوائل رسالته: >جزيل المواهب في اختلاف المذاهب<: فصل (اعلم أن اختلاف المذاهب في هذه الملة نعمة كبيرة وفضيلة عظيمة، وله سر لطيف أدركه العالمون، وعَمِِيَ عنه الجاهلون، حتى سمعت بعض الجهال يقول: النبي عليه الصلاة والسلام ، جاء بشرع واحد، فمن أين مذاهب أربعة ؟! ، إلى أن قال: فعرف بذلك أن اختلاف المذاهب في هذه المِلة خصيصة فاضلة لهذه الأمة، وتوسيع في هذه الشريعة السمحة السهلة، ومن سَعَتِها أنه وقع فيها التخيير بين أمرين، شرع كل منهما في ملة كالقصاص والدية، فكأنما جمعت الشرعين معاً، وزادت حسناً بشرع ثالث: وهو التخيير الذي لم يكن في إحدى الشريعتين. ومن ذلك مشروعية الاختلاف بينهم في الفروع، فكانت المذاهب على اختلافها كشرائع متعددة كل مأمور به في هذه الشريعة، فصارت هذه الشريعة كأنها عدة شرائع بعث بها النبي  عليه الصلاة والسلام ، بجميعها، وفي ذلك توسعة زائدة لها، وفخامة عظيمة لقدر النبي عليه الصلاة والسلام ، وخصوصية له على سائر الأنبياء، حيث بعث كل منهم بحكم واحد، وهو بعث  عليه الصلاة والسلام ، في الأمر الواحد بأحكام متنوعة يحكم بكل منها، وينفذ، ويصوب قائله، ويؤجر عليه، ويُقتدى به، ويؤكد علماء سابقون أن الاختلاف يفتح الآفاق ويُعمل العقل، ويُثري الفكر ويزيد في محصلات العالم والمتعلم على السواء.

 وهناك من العلماء ممن يرى أن الاختلاف غير مشروع، مستدلين بآيات وأحاديث صحيحة تبين أن طريق التشريع واحد، وأن الاختلاف منهي عنه، ولنا أن نسلم بذلك عند وضوح النص وثبوت الدليل، فإذا كان غير كذلك، فإن الاختلاف وارد حتماً ولاضير فيه، وإذا ثبت وجود دليلين صحيحين حول قضية واحدة فإنه يجب الترجيح، والأخذ بالأحوط، سنداًً ورواية ودراية، حتى لا تضيق السبل، أو نضلَّ الهدى، وإذا علمنا أن الدين الإسلامي دين يسر واتفاق، لادين عسر وافتراق، فإن الرحمة في الأثر تعني استخدام العقل وإعمال النصوص التشريعية إعمالاً ينسجم مع رحابة الدين الإسلامي، ولهذا التزم العلماء المبرزون منهج الاجتهاد، والدعوة إليه، في الوقت الذي أوجبه آخرون، وفق قاعد اصطلاحية وأسس مسلم بها ومتفق عليها، كما أغلق الجميع باب التكفير والتفسيق إلا بدليل قاطع، ولذلك أتت ثمار الاختلاف طيبة هنيئة، لتؤصل روح التسامح، وتعمق رحابة الدين الإسلامي الواحد، ولتؤكد رفض الشريعة للتعصب والجمود أو التشدد، مع الالتزام بترك التضاد والتباين والتدابر بين الفرق الإسلامية، عملاً بدليل الكتاب والسنة في رفض التفرق في جوهر الإسلام وعلاقات الأخوة الإسلامية، وما يصلح أمر الأمة المحمدية.

ويؤكد علماء الشريعة الإسلامية أن الاختلاف إذا ما وجد، فإن له ضوابط وقواعد يجب الأخذ بها ومراعاتها عند افتراضه،ومنها:

.1 أن يكون لكل من المختلفين دليل مقبولٌ يصح الاحتجاج به.

.2 ألا يؤدي الأخذ بالرأي المخالف إلى محذور أو باطل.

.3 ألا يستند الاختلاف إلى نص ظني معارض للنص القطعي.

آداب الاختلاف لدى الصحابة

يتبين الباحث المدقق من خلال النصوص التشريعية، ظنية كانت أو قطعية، متواترة أو أحادية، ويتوصل من واقع المرويات عن الصحابة، رضي اللَّه عليهم، أن اختلاف الصحابة كان في مجمله اختلاف تشاور فيما بينهم، وتناصح لما يصلح أحوالهم، وليس اختلاف تباين أو تقاطع، ولم يثبت نقلاً صحيحاً أن فيه اختلافات المتأخرين، وأنه لم يكن في أي حالة من الحالات مطية أو مطلب  أحد، ولا مقصد أي فرد منهم، كما هو حتى في ذات الحين لم يكن مطلب أحد من التابعين ومن تبعهم من أئمة العلم وفقهائه، وما الاختلافات الفقهية، والتعددية المذهبية، الثابتة حتى يومنا إلا نتاج آراء، وحصيلة اجتهادات، كانت قد تكونت وتكومت بعد عصر الصحابة، رضي اللَّّه عنهم، وبسبب إخضاع النصوص الظنية للفهم وإعمال الرأي بغرض استنباط الدليل منها. أما ظهور الاختلافات في عهد الصحابة، فليس إلا قبل علمهم بالدليل أو التوصل به، وبعده لا وجود للاختلاف الفقهي بينهم، لذلك تجد الاجتهادات التي ثبتت عنهم في الإطار الفقهي، كانت قد سارت وفق قواعد معتبرة مليئة بالآداب الفاضلة، كما بعدت عن التعصب للرأي المناوىء للقواعد الإسلامية، ومن أهم تلك الآداب مايلي:

أولاًً: الالتزام بآداب الإسلام في التقاط أطيب الكلام وأحسنه، والتحلي به.

ثانياً: ألا يكون الاختلاف مقصوداً لذاته، مع جعله في أضيق الحدود، وبعيداً عن المرِاء والجدال... .

ثالثاً: التخلي عن العمل بالرأي والاجتهاد عند العلم بالدليل وثبوت صحته، "وقبول الحق ممن جاء به مع الرضاء والتسليم".

رابعاً: عدم الجمود والتشدد في التمسك بالرأي، وما وصل إليه الفهم، وتغليب نفسية التصافح والتسامح والتغافر، ومن ثم البعد عن التشفي وأساليب التعيير والتوبيخ والانتقام.

خامساً: الاعتراف بالخطإ دون شعور بالغضاضة، مع " البعد عن وسائل التشقيق والشغب".

 لذلك وصفوا بأنهم كانوا وقََّافين عند النصوص التشريعية، وإعلام الآخرين بها، مستجيبين للحق، ومستحضرين نية الوفاء عهد اللَّّه في تبيين الحق وعدم كتمانه، وإحياء العمل به، كما ينبغي له، وكانوا شديدي الاحترام لأهل العلم والفضل والفقه، كما كانوا مثالاً لإكرام كبرائهم وفقهائهم، لا يجاوز أحد فيهم قدر نفسه ولايغمط حق أخيه، وكل منهم يرى أن الرأي مشترك، وأن الحق فيما ذهب إليه هو المرجوح، ولا مانع أن يكون ما ظنه راجحاً هو المرجوح، ولاشيء يمنع من أن يكون ما ظنه مرجوحاًً هو الأرجح. كما كان من آدابهم التسليم للحق وبالحق، مع التمسك بالأخوة الإسلامية، والدعوة لها قبل الاختلاف، وما نظرتهم إلى استدراك بعضهم على بعض إلا من باب المعونة والمشورة، يقدمها المستدرك منهم لأخيه، وليس نقداً يصوبه عليه، لأنه لا سياسة لهم دنيوية إلا  نشر الدعوة، وإلا نصرة الرسالة النبوية، بأسلوب عقلاني حضاري مجرد عن هوى النفوس، في صحة عقيدة وإخلاص نية، وصدق أداء وحسن عمل، نصحهم لعالمهم وأجرهم لأخيهم وزميلهم، وقّافون عند الشبهات، حذرين من الدسائس، آدابهم وسماتهم عند الاختلاف آداب الإسلام، لا تفارقهم حين الدعوة إلى الحق، ولا يتجردون عنها حين الأخذ والرد، لذلك كانت المسائل والقضايا الخلافية بينهم محدودة ومعدودة، لم تتجاوز مسائل الرأي والاجتهادات الفرعية، أذكر نزراً منها للدلالة فقط.

بعض المسائل الفرعية والقضايا الاجتهادية التي اختلف فيها الصحابة.

 بالرغم من تحاشي الصحابة، رضوان اللَّه عليهم، الاختلاف فيما بينهم، ونفورهم عنه وميلهم إلى التمسك بالدليل واقتدائهم وتأسيهم بسيد المرسلين محمد عليه الصلاة والسلام ، وبالرغم من سعيهم الجاد لمعالجة وتدارك قضايا الاختلاف في الرأي، فإنهم كانوا يستسلمون للدليل الصحيح، وإذا كان الاختلاف قد  وقع في عهد الرسول الأعظم  عليه الصلاة والسلام ، فكيف لايختلفون بعده، سيما والاختلاف في المسائل الظنية، والقضايا الاجتهادية تكاد تكون سنة فطرية وطبيعة فردية، ولذلك وجدت له سلوكيات وآداب، تمسك بها الصحابة، فجعلت منه محكاً لتلاقح الأفكار وتوسعها وتكاملها، بما يرأب الصدع ويجمع الشتات، ويحفظ للدين جذوته وشوكته، وتثبت كتب التراجم والسير أن الصحابة الراشدين، رضوان اللَّّه عليهم، سايروا ذلك الاختلاف بروح عالية وقدرات إسلامية فائقة، وأخلاق فاضلة ونبيلة، أثبتت أن اختلافهم في كثير من المسائل كان ذات صلة بميادين ترجيح الرأى، وقضايا إعمال العقل، وفي  جوانب حياتية متعددة وقضايا عرفية متنوعة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: ما حدث عقب انتقال الرسول  عليه الصلاة والسلام ، إلى الرفيق الأعلى، مباشرة كالمسائل التالية :

.1  حقيقة وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام ، حيث أصر عمر بن الخطاب أنه  عليه الصلاة والسلام ، لم يمت، واعتبر الخبر إرجافاً من المنافقين، وامتطى سيفه منفعلاً متوعداً، حتى جاء أبوبكر، رضوان اللَّه عليهم، وقرأ على الناس الحضور قول اللَّه تبارك وتعالى: {وما مُحَمَّدٌ إلا رسول ٌقد خلتْ من قبلهِ الرسلُ  أفإن  ماتََ أو قُتِلَ انقلبتُم على أعقابكم ومَنْ ينقلبْ على عَقبيهِ فلن يَضُرَّ الله شيئاً وسيجزي اللهُ الشاكرين} (سورة آل عمران، الآية: 144)، وقول اللَّّه تعالى: {إنك ميتٌ وإنهم لميتون} (سورة الزمر، الآية: 30)، فسقط السيف من يد عمر، رضي اللَّه عنه، واستيقن أن الرسول عليه الصلاة والسلام ، قد مات، كما استيقن انقطاع الوحي.

.2 اختلافهم في دفنه عليه الصلاة والسلام ، فمن قائل ندفنه في مسجده، ومن قائل ندفنه مع أصحابه، وصار الأمر في أخذ ورد، وحين ظهر أبوبكر عليهم، روى حديثاً كان قد سمعه، حيث  قال: إني سمعت رسول اللَّّه يقول: >ماقبض نبي إلا دفن حيث قبض<. فسلم القوم، ورفع فراش رسول اللَّه  عليه الصلاة والسلام ، الذي توفي عليه، وحُفرََ له تحته، وهذان أمران كانا قد أزيل الاختلاف فيهما بعد الرجوع إلى كتاب اللَّه في القضية الأولى، وإلى الحديث النبوي الشريف الذي رواه أبوبكر، رضي الله عنه، في القضية الثانية.

.3 اختلافهم في خلافة رسول اللَّه  عليه الصلاة والسلام ، وفي من تكون؟، أفي المهاجرين أم الأنصار؟ وصار في الأمر ما صار، كما حكته كتب التاريخ، وذكره الرواة والمحدثون، فقال عمر بن الخطاب: "فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى تخوفت الاختلاف، فقلت ابسط يدك يا أبا بكر، فبايعته، ثم بايعه المهاجرون والأنصار، وتدافع الناس لمبايعته" هكذا استطاع الصحابة، رضوان اللَّّه عليهم، حسم الخلاف بينهم، حفاظاً على جذوة الإسلام، ومضى المسلمون قدماًً برسالة الحق إلى حيث شاء اللَّه لها أن تنتشر وتعلو، ومن الاختلافات ما حدث في عهد الخلفاء الراشدين وبينهم، ومن ذلك مايلي:

أ)  اختلافهم حول قتال مانعي الزكاة، وبالحوار الإسلامي، وبفضل إيمانهم القوي وتسليمهم بوحدة الدعوة، وتحليهم بصدق النية وسلامة الطوية مع قوة في العزيمة تمكنوا من وأد الاختلاف بالوصول إلى اتفاق كل الصحابة على قتال مانعي الزكاة. أخرج ابن عساكر عن أبي رجاء العطاردي، قال: أتيت المدينة، فإذا الناس مجتمعون، وإذا في وسطهم رجل يقبل رأس رجل، ويقول: أنا فداك ! لولا أنت هلكنا، فقلت: من المقبل؟ قال ذاك عمر بن الخطاب، رضي اللَّّه عنه، يقبل رأس أبي بكر، رضي اللَّه عنه،  في قتال أهل الردة الذين منعوا الزكاة .

ب) وبروح من الإيمان القوي ولتوحيد الرأي خدمة للإسلام، تمكن الصحابة من الاتفاق بعد اختلاف حول قتال المرتدين ردة كاملة. تلك من الأمثال على الدالة على ثبوت الاختلاف على المستوى الجماعي، وهناك قضايا ومسائل غيرها.

  أما وجود الاختلاف على المستوى الثنائي بين بعض فقهاء الصحابة، رضوان اللَّه عليهم، فمن ذلك ما يأتي.

أولاً: اختلاف عمر وأبي بكر في نحو من ثلاثين مسألة وقضية، ومنها: ما سأشير إليه على سبيل المثال فقط ( حتى لايطول العرض) التالي:

.1 سبي أهل الردة، فأبو بكر سبا أهل الردة، وعمر نقض الحكم.

.2 مسألة قسمة الأراضي المفتوحة.

.3 مسألة المفاضلة في العطاء.

.4 مسألة الاستخلاف، فإن عُمَر كان يرى الاستخلاف، بينما كان أبو بكر لايرى ذلك. ولقد كان لكل واحد منهما رأيه واجتهاده الذي وصل إليه، وتمسك به، ولذلك نفذ كل منهما رأيه في عهده في المسائل التي ذكرتها.

وهناك مسائل خلافية أخرى ورد ذكرها في الموطأ، فمن أراد الإلمام بها فليرجع إليه وإلى كتب الحديث والسير الأخرى.

ثانياً : اختلافات عمر مع عبد اللَّه بن مسعود حول مسائل فقهية عديدة، يذكر ابن القيّم: (إن المسائل الخلافية الفقهية التي بلغت بين ابن مسعود وعمر نحو مائة مسألة)، وذكر، منها أربع، وهي:

.1 مسألة أم الولد وموضوع عتقها من نصيب ولدها.

.2 موضوع التطبيق في الصلاة، حيث كان ابن مسعود يطبق، وعمر يضع اليدين على الركبتين.

.3 موضوع اليمين: هل هي طلقة، أم يمين، فعمر يقول: إنها طلقة، وعبد اللَّه بن مسعود يرى: خلاف ذلك.

.4 مسألة زواج الرجل بزانيته، فعمر يأمر الزاني أن يتزوج التي زنى بها، وابن مسعود يرى أنهما مايزالان زانيين.

ثالثاً: اختلاف عمر مع بعض أفراد الصحابة، حول دية الطفل التي جاء أمه الطلق عندما دعاها عمر، عقب مقولات حكيت عنها في غياب زوجها، حيث قال عمر: إنه لادية عليه وقال آخرون يحملُ الدّيه عمر، حتى سئل علي،  كرم اللَّّه وجهه، فأجاب قائلاً: >إن على عمر حملُ الدّيةَ<، وبقول الإمام علي، عليه السلام،  أخذ عمر بن الخطاب، رضي اللَّّه عنه، دون غضاضة أو تردد، (والقصة مشهورة).

رابعاً: اختلاف الإمام علي،  كرم اللَّّه وجهه، مع الخليفة عثمان بن عفان، رضي اللَّّه عنه، وذلك في مسألة القرآن في الحج، حيث بنى بها علياًً قاصداً معلناً، بينما عثمان يرى خلافه.

خامساً: اختلاف أبي موسى مع الإمام علي، عليه السلام، حول مسائل، ومنها امتناعه من تبعيته ومن حضور مشاهده.

سادساً: اختلاف أم المؤمنين عائشة وابن عباس في رؤية النبي عليه الصلاة والسلام ، للَّه عز وجل ليلة المعراج، وأن جمهور الأمة على قول بن عباس، مع أنهم لايبدعون المانعين الذين وافقوا أم المؤمنين، واختلافها في سماع الأموات دعاء الأحياء، ولا ريب أن الموتى يسمعون خفق النعال، كما ثبت عن رسول اللَّّه عليه الصلاة والسلام ، وهناك مسائل عديدة يصعب سردها أو تبيان أنواعها كاملة في هذا المداخلة، وتجدها مفصلة في مراجع هذا البحث، وغيرها من كتب السير والتراجم وكتب الفقه، وبالرغم من كثرة المسائل المختلف فيها، فإن ذلك الاختلاف لم ينقص من حب أحدهم لصاحبه، ولا أضعف من تقدير ومودة لأي منهم، وفيما يلي بعض مما وصف الصحابة به بعضهم البعض.

 وصف الصحابة لبعضهم البعض

من المعلوم من سير الصحابة، رضوان اللَّه عليهم، ومما روي عنهم، في كتب التراجم والسير: عدم التأثيم والتخطئة للمخالف فيما اختلفوا فيه من المبرآت وغيرها، كما أن أحدهم لم ينقض حكم الآخر في  حياته، بالرغم من اختلافهم في المسائل الظنية الاجتهادية، وما نقل عن علي وزيد في تخطئة ابن عباس في ترك العول، وانه خطأهم فيه، حينما قال: من باهلني باهلته، إن اللَّّه لا يجعل في مال واحد نصفاً ونصفاً وثلثاً، فإنما هو على كون كل واحد لم يهتد إلى الأمارة التي عند مخالفه، وأنها لديه أقوى دلالة على الحكم. وهذه المسألة هي الوحيدة التي احتملت على التخطية، وبما يحتمله القول والكلام، فإني لم أجد للتخطئة فيها ريحاً، ولا للتأثيم تلميحاً، ولربما حُمِِلََ على التشدد في الرأي، والتمسك بالاجتهاد، لذلك لايعتبر قول ابن عباس حجة، في أن الصحابة كانوا يخطئون المخالف ويحكمون بتأثيمه، لما روي عنهم من سلوك إسلامي مثالي، في الحوار والأخذ بالدليل، ولثبوت أن كل مجتهد مصيب، ولو كان الأمر كما احتمله الآخرون، لما ثبت تعظيم بعضهم البعض قولاً وعملاً، ولما ملئت كتب التراجم والحديث بما مدح به بعضهم بعضاً. وفي مجال وصف بعضهم البعض بأحسن ما يقال،  حكى الإمام الهادي ابن إبراهيم الوزير، في كتابه المعروف بتلقيح الألباب في شرح أبيات اللباب، وما نظمه، أيضاً، في قصيدته المشهورة بالبسامة أن علياًً، عليه السلام، كان يترضى على الخلفاء، رضوان اللَّه عليهم، كما ذكر الإمام أحمد بن يحيى المرتضى، في كتابه يواقيت السير شرح كتاب الجواهر والدرر، "أنه حين مات أبو بكر، رضي اللَّه عنه، قال علي، عليه السلام،: >رضي اللَّّه عن أبي بكر، واللَّه لقد كان بالناس رؤوفاً رحيماً<،  وروى أئمة الحديث والسير عن أمير المؤمنين علي،  كرم اللَّه وجهه، أنه كان يترضى على الصحابة ويترحم عليهم، ويمدحهم ويبالغ في الثناء عليهم، ومما يدل على التسامح والوقوف مع الحق ما أخرجه البيهقي في سننه، عن أبي حبيبة مولى طلحة، رضي اللَّه عنه،  قال: دخلت على علي، رضي اللَّه عنه،  مع عمران بن طلحة بعدما فرغ من أصحاب الجمل، قال: فرحب به وأدناه، وقال: إني لأرجو أن يجعلني اللَّه وأباك من الذين قال اللَّه عز وجل: {وَنزَعْنا ما في صدورهم من غِلٍ إخواناً على سُررِ متقابلين} (سورة الحجر، الآية:47)، وعن جعفر بن محمد عن أبيه، قال: قال علي، رضي اللَّه عنه: إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من الذين قال اللَّه في حقهم وذكر الآية ، ومنها ما أخرجه البيهقي، أيضاً، عن أبي البحتري قال: سئل علي، رضي اللَّه عنه، عن أهل الجمل أمشركون هم؟ قال: من الشرك فروا، قيل: أمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون اللَّه إلا قليلاً، قيل: فما هم؟ قال: إخواننا بغوا علينا. وبنفس الروح الإسلامية الطيبة، يأتي قول عبد اللَّه بن مسعود، لقد علم أصحاب رسول اللَّه  عليه الصلاة والسلام ، أني أعلمهم بكتاب اللَّه عز وجل، ولو أعلم أحداً أعلم به مني لرحلت إليه.

ومنها ما روي عن ابن عباس، رضي اللَّه عنهما، أنه لزم بركاب زيد، وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا، فقبل زيدٌ يده، وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا، إلى غير ذلك من المواقف المصحوبة بعبارات الثناء والمدح من الصحابة لبعضهم البعض، كثناء عمر بن الخطاب على الإمام علي، كرم الله وجهه، في أكثر من موقف وأكثر من مناسبة،  ويزنها قولا أبي بكر وعمر كل بمفرده : لولا علي لهلك أبوبكر، ولولا أبو الحسن لهلك عمر، أو كما روي، وكذلك ثناء الإمام علي على الخليفة عمر بن الخطاب، ووصف عبد اللَّه بن مسعود لعمر في أحد أوصافه له، إذ قال: إنه كان للإسلام حصناً حصيناًً، يدخل الناس فيه ولايخرجون منه، فلما أصيب عمر انثلم الحصن، وكان عمر يصف عبد اللَّه بن مسعود بأنه >كنيفٌ مليء فقهاً وعلماً، هكذا كانت نظرة عمر لابن مسعود بالرغم من ثبوت اختلافهما في مسائل اجتهادية كثيرة جداً، وروي أن ضراراً وصف الإمام علي أمام معاوية بن أبي سفيان وصفاً جليلاً يستحقه حتى بكى معاوية، والقصة معروفة والوصف مشهور نقُلا في أكثر من مصدر.

ويجسد الإمام علي، كرم اللَّّه وجهه، أدب الاختلاف الإسلامي في قوله عن خصمائه بعد وقعة الجمل حين وصفهم بقوله المشهور: >إنهم إخوة بغوا علينا< فلم ينفِ أخوتهم الإسلامية، ولم يكفرهم بالرغم من خروجهم عليه، وإشهارهم السلاح ضده. وموقف آخر حين أتى أحد أفراد القوم: فنالَ من أم المؤمنين عائشة، رضي اللَّه عنها، بمحضر عمار بن ياسر الذي كان على غير موقفها يوم الجمل، فيقول، رضي اللَّه عنه،: اسكت مقبوحاً، أتؤذي محبوبة رسول اللَّه، فأشهد أنها زوجة رسول اللَّه في الجنة، لقد سارت فينا أمنا عائشة مسيرها، وإننا لنعلم أنها زوجة النبي عليه الصلاة والسلام ، في الدنيا والآخرة، ولكن اللَّه ابتلانا بها ليعلم آية نطيع أم إياها. وكذلك كان اختلافهم، كله آداب، وكله حكمة، وأي أدب بعد هذا الأدب وأي وصف أليق بهذا الوصف، وأمثاله كثيرة محشورة في المسانيد وغيرها. قال القاضي يحيى بن سعيد الأنصاري أحد التابعين:(ما برح أولو الفتوى يفتون، فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يرى المحرم أن المحل هلك لتحليله، ولايرى المحل أن المحرم هلك لتحريمه)، وليعلم الناشئة وغيرهم أن الاختلاف لدى  الصحابة، رضوان اللَّه عليهم، لم يفسد للود بينهم قضية، ولا حتى كان يتجاوز زمن الموقف، ولاحين الحوار، وتلك هي أخلاق المسلم الصحيح في الحوار، كما هي سمة المؤمن القوي عند الجدل وتبادل الرأي. ومن تلك البراهين عن اختلافات أصحاب رسول اللَّه عليه الصلاة والسلام ، نقتبس النهج السليم،  وبالهدي النبوي نخطو الطريق القويم، فلنا في رسول اللَّه وآل بيته المطهرين وأصحابه الراشدين نقتفي حتى نصل إلى الحق، بإيمان قوي وطرائق مقبولة عند رب العزة جلت قدرته، وأختتم هذه المداخلة المتواضعة بمايلي:

 الخاتمة :

 في ضوء ما تقدم حول الاختلاف لدى الصحابة، رضوان اللَّه عليهم، وفي إطار آداب الحوار الإسلامي المبني على الدليل الصحيح، والحكمة والحقائق التاريخية، يتبين أن الاختلاف بين أئمة وفقهاء علماء الإسلام لم يثبت إلا في المسائل الظنية، وفيما التبس فيه نص ومفهوم الأحاديث الأحادية، وبخاصة منها ما احتمل الرأي الفردي والاجتهاد الفكري، كون الاختلاف فيما ثبت قطعياً وهو القرآن الكريم، والأحاديث المتواترة، وما ثبت صحة سنده من أحاديث الآحاد، يُعَدُّ خروجاً عن الجادة الإسلامية، التي هي طريق الحق والإيمان، تلك الطريقة هي التي التزمها وسار عليها الصحابة الراشدين، رضوان اللَّه عليهم، وتمسك بها جمعهم، وبما أن الصحابة كانوا أشد الناس حرصاً على تطبيق الشريعة الإسلامية، كما وردت وأنزلت، ومعنيين بالتبليغ بها، كونهم من أوائل الشهداء على الناس بعد الرسول عليه الصلاة والسلام ، فقد ثبت أن اختلافهم في الرأي كان مبنياً على أسس الأخلاق الإسلامية وسلوكيات الدعوة المحمدية، تمسكاً وحفاظاً على نقاء الشريعة المطهرة، واتباعاً لنهجها السليم والدعوة إلى اللَّه، بالكلمة الطيبة، والقول الحسن، وبما يجمع كلمة المسلمين، ويلم شملهم، على الحق  ومعه أينما كانوا وحيثما حلُّوا. وتثبت مراجع التاريخ الإسلامي، وتراجم رجاله، وكتب الرواية والدراية أن مجمل الصحابة، رضوان اللَّه عليهم، كانوا أكثر التزاماً بالأخذ بالدليل والتمسك به. وتحضرني قصة تعتبر عبرة ومثالاً جيدا ًلأثر الحوار الطيب مع المخالف، وتلك قصة رواها عبد اللَّه بن مسعود عن عودة بعض الخوارج إلى حضيرتهم الإسلامية، بعد مناظرة ابن عباس لهم وفي جمعهم، والقصة معروفة، ومروية عن عبد اللَّه بن المبارك، أيضاً، قال حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا سماك الحنفي، قال:  سمعت ابن عباس، يقول: قال. علي، كرم اللَّه وجهه، >لا تقاتلوهم ـ أي الخوارج ـ حتى يخرجوا، فإنهم سيخرجون< ـ وسرد قصة دخوله على الخوارج ومناظرته معهم، وبقوة حجته، وبما كان يستشهد به من آيات اللَّه البينات حين يرد على كل سوأل يُسأل به ـ إلى أن قال: >فرجع منهم ألفان وبقي ستة آلاف<، وتلك دلالة قوية وبرهان نير على أن الحوار المبني على صحة الدليل، وقوة الحجة، وسلامة النية، وحسن الطوية، له أثره الكبير والفاعل في إقناع المخالف مهما غلظ قلبه، وتحجرت بصيرته، يقول اللَّه تعالى: {ولو كنتَ فظّاً غليظَ القلبِ لانفضّوا من حولِك} ( سورة آل عمران، من الآية: 159).

وبالكلمة الطيبة والخلق الحسن، ولين القول، وحجية الدليل، تقوى أواصر الأخوة الإسلامية وتتحد الآراء، ولكن أين نقع نحن المسلمين الآن من مثل ما كان عليه آل رسول اللَّه عليه الصلاة والسلام ، وأصحابه الطيبين الطاهرين، لذلك فإسلامنا اليوم بأمس الحاجة إلى العمل بكل جد للتعريف بأن الإسلام دين تسامح، دين محبة، دين توحد، لاعوجَ فيه ولا أمتاً، وأن الشريعة الإسلامية ما كانت قد أنزلت على رسول المحبة والهدى عليه الصلاة والسلام ،  إلا ليسعد بها الناس في الحياة الدنيا والآخرة، {وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين} (سورة الأنبياء، من الآية: 107)، وأن الدين الإسلامي ما هو إلا دين يسر لا دين عسر {يريدُ اللَّهُ بكمُ اليسرَولايريدُ بكمُ العسرَ} (سورة البقرة، من الآية: 185)، وقوله عز وجل في آية أخرى: {وما جعلَ عليكم في الدينِ من حرجٍٍ} (سورة الحج، من الآية: 78).

ـ الدعوة لاستمرارية الحوار الإسلامي بين علماء ومفكري الأمة الإسلامية وفق آداب وأخلاق الدين الإسلامي، حتى يدرك الجميع أن أخوة ووحدة المسلمين، قرينة التوحيد، وحتى يعرف  الجميع أن أسباب الخلاف والاختلاف إنما هي لغرض أداء الفرائض والسنن بوجهها الصحيح، لا سبب له سواها، وأن الاتفاق ما أمكن أولى وأفضل، يقول اللَّه تعالى: {واعتصموا بحبل اللَّّه جميعاً ولاتفرَّقوا} (سورة آل عمران، الآية: 103)،  ويقول عز من قائل: {ولاتكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات} (سورة آل عمران، من الآية: 105) .

ـ بذل الجهد تخطيطاً وتنفيذاً، والمال دعماً وعطاءً، لتكوين الشباب المسلم معرفياً وعلمياً، وتعريفهم بأهمية وضرورة التزود بآداب الدين الإسلامي والعمق فيه، حتى يحفظوا لدينهم جذوته، ولدينهم ومعتقدهم قوته وسلامته، ويتمكنوا من إدراك وتحاشي المخاطر الهائلة المحدقة، والتحديات الكثيفة الخطرة التي يعدها لهم ولدينهم أعداء الإسلام، وليتمكنوا من الوقوف أمام التيارات المضادة للدين الإسلامي، وقد تسلحوا بسلاح الإيمان، سلاح العلم والمعرفة السليمة، وحتى يتحرروا من التعصب الذميم.

ـ دعوة الجامعات الإسلامية والمعاهد والهيئات والمتخصصين بإجراء المزيد من البحوث والدراسات حول الاختلافات بين المسلمين، وتبيين آفاقها، وإظهار الاختلاف في حقيقته الصافية، حتي يعم العلم بما يجمع كلمة المسلمين، ويوحد صفوفهم على كلمة سواء.

ـ دعوة الجامعات الإسلامية إلى فتح باب دراسة الفقه الإسلامي وقواعده دراسة حرة خالية من التعصب المذهبي، والجمود الفكري، اقتداء بما كان عليه توجه وسلوك الأئمة المجتهدين الأعلام.

 المصادر والمراجع

القرآن الكريم

 .1 هداية العقول إلى غاية السؤول في علم الأصول: الإمام المجتهد الحسين بن القاسم، ط. 2 ،1401  هـ .

.2 ميزان الاعتدال في نقد الرجال: محمد أحمد شمس الدين الذهبي، ط. 1، دار إحياء الكتب العربية، مصر، 1382هـ.

.3 درُّ السحابة في مناقب الصحابة: محمد الشوكاني، تحقيق د. حسين عبد اللَّه العمري، ص1 ،1404  هـ، دار الفكر، دمشق.

.4 أسد الغابة في معرفة الصحابة: الآمدي، تحقيق وتعليق محمد إبراهيم البناء، ومحمود عاشوراء، ومحمود عبد الوهاب فايد، كتاب الشعب، 1390هـ.

.5 الإصابة في تمييز الصحابة: ابن حجر أحمد بن علي العسقلاني.

المصدر: http://1bac.medharweb.net/modules.php?name=News&file=article&sid=243

الأكثر مشاركة في الفيس بوك