الاختلاف كحاجة إلى حماية الذات من الذوبان
د. تهامي العبدولي
إثر المعاهدة التي أبرمت بين حكومة الولايات المتحدة والهنود الحمر كتب الزعيم الهندي سياتل Seattle الى الأميركيين "إننا على يقين من أن الرجل الأبيض لا يفهم منطقنا هذا.. وأرضنا بالنسبة اليه تشبه أي أرض أخرى.. وما كان ذلك ليكون سوى لأنه غريب عن أرض تسلل اليها ليلاً واستحوذ عليها، وصادر كل نفيس فيها. بالنسبة اليه ليست الأرض أماً، فحين اغتصبها، اغتصبها اغتصاب العدو، وواصل مسيره غير عابئ بهيكل والديه معرضاً عن حق بنيه في ذكرى الأرض. سيادة القائد الأبيض، إن منظر مدائنكم يكدر صفو بصر الهندي... ولا يوجد مكان آمن في مدنكم... لا يوجد مكان واحد نستمتع فيه بسماع حفيف أوراق أشجار الربيع وأجنحة الطير...". في سياق حنيني ذاتي ذاتي، يذكرني بما لنا وما علينا وباستعادة خطاب تقادم عهده يعبق من أوله الى آخره بريح الاختلاف، حق الاختلاف، طيب الاختلاف وغيث الاختلاف، أتناول موضوع الاختلاف في الثقافة وأقترح عليكم النظر في ثلاثة مستويات:
ـ مفهوم الاختلاف ووظيفته الثقافية التواصلية.
ـ الاختلاف صيغة "بين ـ ثقافية" والإيلاف صيغة داخل ثقافية.
ـ العولمة بوصفها ظاهرة تعطل الاختلاف الثقافي في السياق خارج ثقافي والحداثة بوصفها صيغة قامت بالاختلاف وهي تؤمنه.
وأنبه الى أن معالجتي للمسألة هي معالجة من وجهة نظر الأنتربولوجيا الثقافية لا تهم الحدث الثقافي في ذاته بل تتصل بالثقافة من حيث هي إنتاج إنساني يدل عليه ويتعالى عليه أحياناً، ونحتاج في فهم اشتغالها الى كثير من التجريد المعرفي القصي.
مفهوم الاختلاف ووظيفته
أ ـ في المفهوم
لتبين مفهوم الاختلاف ثقافياً يحسن أن نستبعد دلالة الاختلاف على الخلاف، ذلك أن الأول هو الحد المانع من حدوث الثاني. فمن حيث العلاقة المنطقية لا يمكن أن تكون سببية علية بينهما لأنهما حدثان لا يتولدان ضرورة من بعضهما البعض، ولكن من حيث السياق الاجتماعي والأيديولوجي يمكن أن يتم توظيف الاختلاف في توليد الخلاف، خصوصاً حين يحدث انحراف معين. فالعلاقة إذن غير ضرورية من جهة الأصل ممكنة في التوظيف وضرورية فقط حين يصبح الاختلاف مانعاً من الخلاف، إذ ليس يمكن تعايش دون استيعاب معرفي يرقى أحياناً الى حد الإيمان بأن الاختلاف ضروري كي نستمر.
حيز الاختلاف الثقافي هو ما يميز مجموعة ثقافية عن أخرى فإذا بحثت في الجامع النظامي المشترك وحصرته في ما بين مجموعتين تبينت أن ما يخرج عن أحد النظامين هو الذي يمثل مجال الاختلاف. مثل هذا يعني أن الاختلاف الثقافي ليس يهم ما يخص الأفراد بل دائرته في ما بين المجموعات. وبعبارة أخرى إن الاختلاف المقصود ثقافياً هو ما كان في مستوى أنظمة الثقافة، في نحو نظام العوائد/نظام التفكير/ نظام العقائد/ نظام الاجتماع/ نظام الاقتصاد. مثال ذلك أن نظام التفكير يمكن أن يكون محل اختلاف بين الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الغربية عموماً باعتبار الأول دينياً والثاني عقلانياً، ولكن ليس ذلك مطلقاً، ففي الثقافة الغربية نظام تفكير ديني أصغر لا يتجاوز العام العقلاني المنظم للعلاقات الاجتماعية، في وقت لا ينظمها الديني بشكل عام. وفي الثقافة العربية يصبح العقلاني نظاماً أصغر يقيده الدين أو يحاصره لأنه هو الأساس في تنظيم العلاقات، دون أن نغفل أن أنظمة علمانية حداثية أدعت انفصالها عن الدين وهي في الأصل قد أسست نظامها الكلي على نفس البنية الدينية.
أما الخلاف فهو حال تنابذ أو تدافع تؤدي إلى نوع من التنازع معنوياً أو مادياً، ويدل على نوع من الانقلابية بين الأشخاص أو بين الثقافات أو بين الحضارات في سياق مادي. وعادة ما ينجم عنه تحول نحو مسارات المغالبة. والخلاف حالة اجتماعية لا علاقة لها بالثقافة مجردة بل تنبع من الجماعات وتتخذ طابعاً ثقافياً.
وإذا كان الخلاف يهم أساساً سياق المغالبة، فالاختلاف ليس داخلاً في ذلك السياق لأنه مرتبط بحال مخالفة هي حال المطاوعة وعدم الإكراه. وفي الحقيقة، لقد شاع أن ما حدث ويحدث في التاريخ هو ثلاثة مسارات: مسار الاختلاف ومسار المغالبة ومسار المصالحة. يمثل الأول وضعاً أصلياً في الثقافة والثاني انحرافاً، ويمثل الثالث إصلاحاً للانحراف. والأول منفصل عنهما وليس متصلاً بهما.
لكن إذا كان الاختلاف أصلاً فهو ليس مساراً بل خاصية قيمة Value، وليس هو مقولة Category تولد المعنى بل معنى في الثقافة يضفي على الوجود شرعية امتلاء الفرد أو المجموعة، ليس طارئاً أو حادثاً بل سمة جوهرية لازمت الثقافة منذ دخول الإنسان في سيرورة الانفصال عن الطبيعة خارجه أو في ذاته. وحيث وجدت الثقافة وجد الاختلاف. صحيح أن الثقافة ملزمة الأفراد ولكن هذا الإلزام لم يمنع الاختلاف ولن يمنعه بما أنه هو الآخر خاصية في الثقافة. وإني لا أقصد الإلزام في سياق المغالبة ولحظة حدوث انحراف بل أقصد منه دلالة الانضباط، حين يكون الفرد ملزماً باحترام قيم مجموعته وتبنيها للاندماج ولتأمين استمراريتها حفظاً للهوية والكيان.
ب ـ في الوظيفة: التواصل والإيلاف.
لكل ثقافة مستويان، أحدهما داخلي والآخر خارجي، وفي المستويين تؤدي قيمة الاختلاف وظيفة معينة. في المستوى الداخلي تمثل الثقافة مجموع الأدوات أو الأجهزة Apparatuses المشتركة بين مجوعة بشرية التي يستمدون منها المعنى والهوية وتنظم اجتماعهم وتؤمن استمراريتهم وتطورهم وتحولاتهم (مثل أنظمة القيم والرموز والأخلاق والعوائد والتشريعات والعقائد والتصورات...). لنلاحظ في المستوى الداخلي أن المطلوب تحقق حد أدنى من التجانس والاتساق حتى يحدث الاندماج ومن ثم ستتحقق وظيفة ثقافية أسميها الإيلاف الثقافي Communalization. على هذا الأساس، فإن الخاصية الأولى الوظيفية في الثقافة هي الإيلافية، حيث يحمل الأفراد على نوع من الانصهار في المجموعة التي تقبل تنوعاً ولكن لا تحتمل اختلافاً في الأنظمة المشار اليها أعلاه.
والفرق بين الاختلاف والتنوع Diversity أن الأول يهم الأنظمة، ولكن الثاني يهم الوحدات داخل النظام الواحد، فنجد المتنوع داخل المؤتلف مثل نظام العقائد العربي في التوحيد نجد فيه أنظمة صغرى كالخارجي والشيعي والسني والمسيحي وفي الثقافة اليابانية نجد البوذي والشنتو والإسلامي والمسيحي، بمعنى هناك جمع بين نظامي التوحيد والتعدد ولكن ذلك لا يخل بالإيلاف، مثلما أن التعدد اللهجي في النظام اللغوي لا يخل بهذه الوظيفة.
إذا تأملنا جيداً أدركنا أن ذلك التنوع ليس منفصلاً تمام الانفصال عن الاختلاف، بل هو في الأصل مقبول بمقتضى خاصية الاختلافية في الثقافة لأنها تكسبها مرونة تجعلها قادرة على تقبل ما تأسس خارجها أو ما دل على مجموعة بعينها دون أخرى. ونحن تحديداً قد سمينا ما هو داخل الثقافة الواحدة "بالمتنوع في المؤتلف"، لأن الانسجام بين مجموعة ثقافية واحدة يقتضي تقليص حجم الاختلاف الى الحد الذي لا يخل بالبنية الواحدة، خصوصاً كي يحفظ ما هو جوهري فيها. مثال ذلك إذا توفرت اللغة الجامعة والتاريخ الجامع والأصل الواحد وتغيرت العادات ولم تعد جامعة وتغير النظام المعرفي ولم يعد جامعاً أو تغيرت أديان أفراد مجموعة ثقافية، فإن ذلك لا يخل بانسجامهم لأن ما تم فيه التنوع حادث بعد مكونات أصلية وهو يضمن مجالاً استبدالياً في مستوى الرؤى ويخص الجماعات دون الكل أو الأفراد في الثقافة الواحدة. ولكنه عموماً بالنسبة الى دارس الاختلاف يهم خاصية أخرى مرتبطة بالاختلاف هي الافتراضية في الثقافة فليس توجد ثقافة دون اقتراض من ثقافة مجاورة أو بعيدة كلما حدث التقاء. والأكيد أن خاصية الاختلاف الدالة على المرونة تسوغ وجود المختلف الذي سرعان ما يصبح تنوعاً غير مانع من الاندماج. وهكذا يصبح الاختلاف في قلب الثقافة مكوناً أساسياً من مكونات الثقافة بنية مجردة أو دالة على مجموعة بعينها.
إذا كانت وظيفة الإيلاف عبر الإدماج لا تقوم إلا بالحد الأدنى من الاختلاف في المستوى الداخلي فإن للاختلاف في المستوى الخارجي وظيفة أساسية هي تحقيق التواصل بين مجموعات ثقافية مختلفة. وفي هذا الحال ليس يمكن تواصل بين مجموعتين ثقافيتين إلا بعد اقتناع تام أن التعايش ممكن مع الآخر المختلف ثقافياً، ولذلك فهو المسوغ الوحيد للتعايش مع الآخر وآلية التواصل الوحيدة. يحدث التواصل بين الثقافات في حال واحدة ضمن سياق المطاوعة وفي الحال الثقافية المحض: تثاقف ـ تنوع/ استيعاب او اندماج طوعي نسميه في العادة وبالمعنى الإيجابي تداخلاً ثقافياً inter - culturality/Cultural interference، وتكون لهذه الصيغة مسببات منها الهجرة (والنفي واللجوء) أو لقاء لأسباب اقتصادية أو أسباب معرفية... ها هنا قد تغتني الثقافة الذاتية بقيم وعادات من ثقافة أخرى تقترض لرفد مكتسب الذات وتنويعه. وفي غير هذا السياق، سياق المطاوعة، ليس للاختلاف من وظيفة، فهو عملياً يلغى في سياق المغالبة.
ففي السياق الأيديولوجي، وهو في الغالب الأعم يدل على المغالبة، إذ في الأيديولوجيا بصفة عامة انحياز مصلحي نحو الجماعة: حمل على التثاقف ـ حمل على الاستيعاب ـ حمل على الاندماج/ اكراه ونسمي هذا اصطلاحاً Cultural hegemony. ومسببات ذلك كثيرة منها الشعور بالمركزية والتفوق والاستعمار بأنواعه والغزو الديني أو بفعل همجية الآخر، ويمكن عموماً أن نسمي هذه الحال حالاً مرضية في مجموعة ثقافية معينة وهي علامة بداية الانهيار.
وعلى الرغم من أن الاختلاف كما بينّا من جوهر الثقافة، فليس علينا أن نغفل أمراً آخر لو قلبنا المسألة من زاوية أخرى. إنه ـ قيمة ـ أداة لتأمين استمرارية الذات والهوية إزاء الآخر، ففي عصرنا أصبحت الحاجة الى الاختلاف التعبير الوحيد الممكن من حماية الذات من الذوبان ودفع الاستلاب. إنه ما تعبر به كل أقلية ثقافية، اثنية عن وجودها، الأقلية الهندية في أميركا، والشيشانية في روسيا والكردية والشركسية والأرمنية وغيرها، في كل بقعة من العالم تضطهد فيها أغلبية أقلية تختلف عنها وذلك ما نسميه سياق المدافعة Defense. في كل الأحوال يغدو الاختلاف مبدأ حوله وبه تعقد العلاقة مع الآخر أو هو شفرة التعامل معه Code أو هو "العقد الثقافي" Cultural contract الذي على أساسه تقبل ثقافة أخرى، لا تدمرها وتسعى الى التعامل معها بشكل ندي.
من جملة ما سبق يبدو أننا داخل الثقافة ايلافيون تعاقديون نسعى الى الاندماج والتجانس والانسجام والتوحد وعادة ما تعمل الأيديولوجيات الوطنية (مع الاحتراز الكبير في هذه الصفة) على خلق بنية فكرية واجتماعية موحدة. ونحن اختلافيون تعاقديون نظرياً خارج ثقافتنا في سياق المطاوعة العقدية، ونحن كذلك اختلافيون في سياق المدافعة ولكننا ملزمون اتساقيون في حال المغالبة. في السياق الأخير ليس يحدث الأمر بالتعاقد بل بالإكراه. ومعنى ذلك أننا في نهاية المطاف أمام شرطين:
ـ المغالبة نفي للاختلاف بما أنها حمل على الاتساق، فهي شرط تعطيله. وكلما انقلب الاتساق على التعاقد انتفى التواصل.
ـ التعاقد شرط التنوع والاختلاف وهو شرط التواصل داخل المجموعة أو خارجها، وكلما اتسعت دائرة التعاقد تأكد التواصل وتمتن.
الشرط الثاني يوسع دائرة الإيلاف من شكله المجموعي الى شكله الإنساني، الأول يضيق ويحصره في الطائفة والقومية الضيقة.
في المجمل نرجع تلك السياقات التي تحدثنا عنها الى حد الآن الى سياقين، سياق الهيمنة الثقافية حين يلغى الاختلاف وسياق التعاقد الثقافي بخاصية الاختلاف المفضي الى التداخل الثقافي، وليس علينا أن نغفل سياقاً ثالثاً مهماً جداً يسمى سياق Trans-culturality، أي عبر ثقافي أو ما وراء ثقافي يحدث دون تواصل فعلي في التاريخ، ويعود الى بنية رياضية واحدة مشتغلة في الذهن، يدل عليه التشابه في العادات والأساطير وتنظم صيغه في المتخيل. وبما أنني لن أتوقف عنده بالدراسة سأشير الى مثالين من الثقافة العربية والثقافة اليابانية يدلان على اختلاف ظاهر ولكنهما متصلان ببنية رياضية ذهنية واحدة. يعتقد العربي أن صب الماء بعد رحيل المرتحل إنجاز عقد طلباً لعودته سالماً لأن الماء علامة حياة، والماء في هذه الحال يمثل السقيا الدالة الاستمرارية. ويعتقد الياباني أن وضع تميمة السلامة المأخوذة من معبد الشنتو Jinja في حقيبة المسافر يؤكد الحماية ومباركة السفر، وفي الحالين حدث تعاقد مع قوة نطلب منها السلامة والبركة بصرف النظر عن الأداة ما دامت الوظيفة واحدة. وإذا كان العربي الذي يرغب في أن ينقطع ضيف السوء عن المجيء اليه يرمي بعده قطعاً من فحم بدلالة الانقطاع فإن الياباني يرمي الملح وبه نفس الرغبة. يتجاوز ذلك الثقافة الواحدة كي يدل على الاختلاف الظاهر والتصور الذهني الواحد.
المصدر: http://1bac.medharweb.net/modules.php?name=News&file=article&sid=245