الحوار بين الإسلام والنصرانية

الدكتور يوسف القرضاوي

الحمد لله وكفى، وسلام على رسله الذين اصطفى.

وبعد

في حياة الإنسانية لحظات فارقة تكون بمثابة منعطفات هامة يمكن استثمارها لإحداث تغييرات جذرية، ويمكن أن تمر دون إدراك لخصوصيتها، فتصبح مثل بريق ومضة عابرة أضاءت ظلمة السماء ثم تبددت.

وفي يقيني – والله أعلم – أننا نشهد لحظة كهذه في أعقاب الأحداث الرهيبة التي بدأت يوم الثلاثاء الدامي في نيويورك وواشنطن وما تلاها من توابع.

ولا أبالغ إذا قلت لكم: إن مصداقيتنا الشخصية كمؤمنين، وكزعامات روحية ودينية هي أيضًا في مفترق طرق. وإن فاعلية وأهمية وجودنا وجهودنا الآن على المحك أكثر من أي وقت مضى. وإن العالم ينتظر منا ما يتناسب مع حجم تأثيرنا المعنوي. وأصدقكم أننا في لحظة تشبه – إلى حد ما – قول القائل: "أكون أو لا أكون". فإما أن نفعل شيئًا له معنى وجدوى يساهم في توجيه الأحداث إلى الوجهة السليمة بما يتفق مع روح العقائد التي ننتسب إليها، إما هذا، أو تطوينا صفحة الإهمال والنسيان.. ربما إلى الأبد.

إن العالم ينتظر منا الكثير، ونحن إما أن نكون على مستوى الحدث، فنتجاوب مع أماني المليارات من المؤمنين بعلاقة الدين بالحياة، وفاعلية دوره فيها، أو نكتفي بالوجود زخرفًا يزين الاحتفالات، وأخبارًا باردة في عناوين الصحف!!

ونحن ـ المسلمين ـ ليس لدينا إشكال في أن يلتقي علماء الإسلام، وأحبار المسيحية في إطار مشترك يبحث عن حلول لمشكلات طارئة أو مزمنة تخص العلاقة بين العالمين الإسلامي والمسيحي.

ذلك لأننا ـ نحن المسلمين ـ نعترف بالإنجيل كتاباً من كتب الله التي يجب الإيمان بها، ونؤمن بالمسيح رسولاً من أولي العزم من الرسل، وهم صفوة الأنبياء، ونكن تقديرًا خاصًا لأم المسيح – السيدة مريم العذراء - التي اصطفاها الله وطهرها واصطفاها على نساء العالمين.  

ولم يوجد في القرآن سورة لخديجة زوج محمد، ولا لفاطمة بنت محمد، ولا لآمنة أم محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن وجدت سورة لمريم، وسورة لأسرة المسيح: أمه، وجدته.. تسمى سورة "آل عمران"، وعمران هذا هو والد مريم. قال تعالى: "إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين" (آل عمران:33). وفي قرآننا من آيات عن المسيح ما لم يذكر في كثير من الأناجيل.

ثم إننا ـ نحن المسلمين ـ مأمورون بحوار من يخالفنا بالحسنى، وخصوصا أهل الكتاب، وهو الذي يسميه القرآن الجدال بالتي هي أحسن. كما قال تعالى: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن" (العنكبوت: 46).

على معنى أنه لو كانت هناك طريقتان للجدال: إحداهما حسنة جيدة، والأخرى أحسن منها وأجود، فالمسلم مأمور أن يستخدم الطريقة الأحسن والأمثل.

ونحن ندرك أهمية واتساع خريطة الإيمان المسيحي المنتشرة في أقطار العالم جميعًا، ونحن حريصون على أن تكون العلاقة بين المسلمين والمسيحيين قائمة على الفهم السليم، والاحترام المتبادل.

ونعتقد أن الذي يسيء إلى العلاقة بين أصحاب الديانتين الكبيرتين يتمثل في سوء الفهم من أحدهما لموقف الآخر، أو الجهل بأصول اعتقاده، ومقتضيات إيمانه، أو تدخل عناصر خارجية تريد أن تتخذ من الدين مطية لخدمة أهداف غير دينية، أو القيام بتشويه الجميع استنادًا لأخطاء البعض، وأحيانًا بمحض إذاعة وترويج الأكاذيب.

وفي هذا الظرف الرهيب الذي يعيشه العالم اليوم منذ 11سبتمبر 2001، الذي وقعت فيه التفجيرات المؤسفة في نيويورك وواشنطن، والذي آذن بنشوب حرب لا يعلم عواقبها إلا الله، والتي قد يفسرها البعض ـ لسبب أو لآخر ـ بأنها مواجهة بين الإسلام والمسيحية، وأنها إحياء للحروب الصليبية القديمة، التي خلفت آثارا وعقدا في نفوس الفريقين، لا نزال نعاني منها إلى اليوم.

والواجب على العقلاء ـ وخصوصا علماء الديانتين ـ أن يحولوا دون هذه المواجهة، وأن يتدخلوا بالحكمة لإطفاء النار، التي قد تأكل اليابس والأخضر.

وأحب أن أؤكد هنا أني منذ صبيحة أحداث 11سبتمبر، أصدرت بيانا بإنكارها وإدانة فاعليها، أيا كان دينهم أو جنسهم أو وطنهم. وشاركني في هذا كل من أعرفه من علماء المسلمين، فالإسلام ـ حتى في حروبه الرسمية التي تتولاها الجيوش ـ لا يجيز قتل من لم يقاتل بحال، وقد رأى نبي الإسلام محمد امرأة مقتولة في إحدى المعارك، فغضب وأنكر ذلك على أصحابه، وقال: ما كانت هذه لتقاتل. ونهى عن قتل النساء والصبيان والشيوخ.

وجاء خلفاؤه من بعده فأوصوا قوادهم ألا يتعرضوا للرهبان في الصوامع، ولا للحراثين في الحقول، ولا للتجار.

وكان من وصاياهم المأثورة: "لا تغدروا، ولا تمثلوا (بجثث الأعداء) ولا تقطعوا شجرا، ولا تهدموا بناء، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة، إلا لمأكلة".

وقد أكد الإسلام حرمة النفس الإنسانية، وشرع في قتلها القصاص، وأكد القرآن مع كتب السماء "أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا" (المائدة: 32). هذا في قتل نفس واحدة، فكيف بقتل عدة آلاف من المدنيين لا ذنب لهم؟

ونحن المسلمين عامة ـ والعرب خاصة ـ أشد الناس إحساساً بمآسي القتل العدواني، وآثاره على النفس والحياة، ونحن نعاني منه يوميا في أرضنا المقدسة فلسطين ـ أرض المسجد الأقصى وكنيسة القيامة ـ من قِبَل الكيان الصهيوني المتجبر، حيث نصبح ونمسي على أرواح تُزهق، ومزارع تُحرق، ومنازل تُهدم، وأطفال تُيتَّم، حتى أصبحت الحياة في فلسطين مأتما دائما لأهلنا هناك من المسيحيين والمسلمين.

وإني لأستبعد تماما أن يقوم بهذا العمل مسلم ملتزم بدينه فاهم له، وهو يعلم أن قتل النفس بغير حق من أكبر الكبائر في الإسلام، وأن الأصل في الدماء العصمة، إلا المحاربين الذين يشهرون السلاح على المسلمين، والقرآن يقول: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" (البقرة: 190).

ولقد دعوت المسلمين في أمريكا أن يقوموا بواجبهم في إسعاف الجرحى، والتبرع بالدم، فهو من أعظم الصدقات عند الله، وهو جزء من واجب المواطنة لمن تشهد بلاده أحداثاً كهذه.

وإننا ـ بقدر ما ننكر عمليات التفجير في نيويورك وواشنطن ـ ننكر كذلك حملات التحريض والكراهية ضد المسلمين والعرب، الذين أصبحوا يعيشون في الغرب، وكأنهم مطاردون نتيجة التهييج الإعلامي المغرض، رغم أنهم جزء لا يتجزأ من مجتمعهم، مثلهم مثل بقية المواطنين الأمريكيين على مختلف أصولهم العرقية.

وقد أمسى بعضهم يخاف أن يخرج من منزله، وخصوصاً النساء، ونتطلع أن يرتفع صوت الكنيسة مع الأصوات التي تقاوم التحريض والكراهية والتميز بين الناس لمجرد اختلافهم في الاعتقاد أو لون البشرة.

نرفض الإرهاب:

إنني باسمي وباسم كل علماء المسلمين نرفض الإرهاب، الذي يعني ترويع الآمنين أو قتل الأبرياء بغير حق. ولكنا لا ينبغي أن يدفع البعض باتجاه الخلط بين الإرهاب وبين من يدافع عن وطنه وحرماته ومقدساته ضد المحتل الغاصب، فمن الظلم أن يسمى هذا إرهابا، بل هو دفاع مشروع أمرت به الأديان، وأقرته المواثيق الدولية.

كما أننا ننكر أن نحارب الإرهاب بإرهاب مثله، يستخدم نفس منطقه الغاشم، ويأخذ البريء بذنب المسيء، والمظلوم بجريرة الظالم؛ ولهذا نحذر هنا أن يُؤخذ شعب كامل بجريمة أفراد منه، حتى لو ثبتت الجريمة عليهم، أو يُتهم دين تتبعه أمة كبرى بأنه دين العنف والإرهاب بسبب أفعال أفراد منه، وقد سبق لأفراد مسيحيين في أمريكا نفسها ـ كما في حادث أوكلاهوما سيتي الشهير ـ أن قام به مسيحي أمريكي بدوافع خاصة، فلم تتهم ـ بسببه ـ أمريكا كلها، ولا العالم المسيحي، ولا الديانة المسيحية، رغم انتماء الفاعل لمجموعة لا تخفي تأويلها الدموي لبعض الاعتقادات الدينية المسيحية.

كما أن محاربة الإرهاب حقا إنما تتم بمحاربة أسبابه، ومنها: إزالة المظالم، وحل القضايا المعلقة، ومنها قضية فلسطين التي شرد أهلها، وأخرجوا من ديارهم بغير حق، وغياب العدالة والحرية والديمقراطية عن كثير من البلدان الإسلامية. ومن ذلك أيضاً أن يترك للمسلمين حريتهم وحقهم في أن يحكموا أنفسهم وفق عقائدهم التي آمنوا بها، ولا يُفرض عليهم نظام لا يرضونه.

ومن هنا أنادي كل علماء الدين الإسلامي، وكل رجال الدين المسيحي وأقول لهم: إن الإسلام يعتبر البشرية كلها أسرة واحدة، تشترك في العبودية لله، والبنوة لآدم، وهذا ما أعلنه رسول الإسلام أمام الجموع الحاشدة في حجة الوداع: "أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى" (رواه أحمد في مسنده).

ثم إن الإسلام قد حدد العلاقة مع غير المسلمين في آيتين محكمتين من كتاب الله، تعتبران بمثابة الدستور في ذلك، يقول تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون" (الممتحنة: 8 – 9).

وهاتان الآيتان نزلتا في شأن المشركين. ولكن الإسلام أفرد (أهل الكتاب) بمعاملة خاصة، حتى أجاز مصاهرتهم والتزوج من نسائهم، ومعنى هذا أنه أجاز للمسلم أن تكون زوجته وشريكة حياته، وأم أولاده كتابية (مسيحية أو يهودية). ومقتضى هذا أن يكون أهلها أصهاره، وهم كذلك أجداد أولاده وجداتهم، وأخوالهم وخالاتهم، وأولاد أخوالهم وخالاتهم، وهؤلاء لهم حقوق أولي الأرحام وذوي القربى، وبذلك فقد ميَّز الإسلام بوضوح بين الكفار والمشركين وبين أهل الكتاب.

كما أن الإسلام اعتبر النصارى أقرب مودة للمسلمين من غيرهم، يقول تعالى: "لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا: إنا نصارى، ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون" (المائدة: 82)، كما قال نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: "أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة

المصدر: http://1bac.medharweb.net/modules.php?name=News&file=article&sid=221

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك