لغات وثقافات وأطفال

محمد الدنيا

اللغة أكبر قوة وجدت للاندماج في المجتمع. لدى الأطفال كلهم حاجات أساسية مشتركة تتضح معالمها في بعض الأشكال المشتركة للمفردات الأولى. ولكن يتوجب عليهم جميعاً، كي يتواصلوا مع المحيط، أن يكونوا موضع اعتراف كأشخاص متكلمين، وبالتالي أن يتكلموا لغة بيئتهم وأن يمتثلوا لبعض التقاليد الشكلية والاجتماعية التي تفرضها اللغة والثقافة في الآن نفسه.
تتشكل مفرداتهم بالتماسّ مع لغة البالغين، التي تلقن الصغار منذ البداية ليس فقط أشياءَ العالم التي ينبغي رؤيتها وفهمها، بل أيضاً طريقة قولها، وكيفيات التعبير التي تتيح للطفل أن يكون موضعَ اعتراف ومفهوماً في الوقت ذاته.
لا يتعلم المرء اللغة من ذاته بذاته. مع ذلك، تنتظر الأمهات بصبرٍ كلمات الأطفال الأولى، ولدى غالبيتهن الرغبة في المساعدة أو بالأحرى في تسريع بدايات الكلام عند أطفالهن.
ووفقاً للثقافات، ما نسميه «تعلُّم الكلام» لا يحمل المعنى نفسه. توقُّع الوالِدين مختلف، كذلك «أشياء» الكلام. وهكذا، فإن جماعة «الكَلولي» Kaluli (بابوس غينيا الجديدة) تقدر أن الطفل يعرف الكلام عندما يعرف قول «نو» no (أُمّ) و«بو» bo (ثدي)(1)؛ الكلمات التي يمكن أن تقال قبل ذلك ليست مسموعة كثيراً، وقليلاً ما تتكلم أمهات «الكلولي» إلى أطفالهن الرضع لاعتقادهن بأن هؤلاء الرضع «لا يتمتعون بالفهم ». هذا الموقف غريب، ولكن حتى في ثقافات أقرب، وفقاً للبلدان وحسب الأوساط الاجتماعية، ما تزال كيفيات التآثر ومضمون وأشكال الكلام عند الأمهات شديدة التبعية لصورة الطفل في الثقافة ولتوقعات الوالِدين.
تحث الأمهات الأمريكيات أطفالهن على الكلام، وبالأخص على التسمية. يحببن أن يكون الطفل «مبكّراً» في كل شيء، بينما تفكر الأمهات الفرنسيات بأن «أمامه الكثير من الوقت كي يتعلم ». لا يبحثن عن أداءات لغوية، بل يقدّرن بالأحرى أن على الطفل أن يكون سعيداً، لطيفاً، وأنه يجب أن يلعب كثيراً. كذلك الأمهات الألمانيات، اللواتي يتوقعن أن يتكلم الطفل أكثر تأخراً مما تتوقعه الأمهات في «كوستاريكا». يمكننا أن نذكر كثيراً من أمثلة فوارق توقعات الأمهات في الثقافات المختلفة، وبالتالي الفوارق في «إنصات» الوالدين لكلمات الطفل الأولى. لكن هذه الكلمات الأولى تتعلق أيضاً ببنية كل لغة.
يتجلى التنظيم اللغوي والمفهومي للعالم في اللغات عبر أشكال وصور تصبح خاصة بها وحدها. الثقافات الغربية، البراغماتية و«الفعالة»، موجهة كثيراً أو قليلاً نحو إنتاج أسماء: «ينبغي تسمية كل شيء باسمه». اللغة الإنكليزية في هذا الميدان فريدة تماماً وتتميز بغنى مفرداتها الاستثنائي. على العكس، في بعض اللغات الشرقية، مثل الكورية أو اليابانية، ينجزون المرجعية بوساطة الفعل اللغوي أو الصفة. ليس ضرورياً، بالنسبة للمتكلم الياباني، أن يذكر شيئاً عندما يكون هذا الشيء موجوداً أو حين يقبل المحادثُ الآخر موضوعَ الحديث. وهكذا، يمكنه القول «مصدوع على الحافّة» من دون أن يحدد المتحادثان الشيء الذي يتكلمان عنه، إذا ما كان الموضوع العام للحديث يدور حول آنية «هيان» التي يوجد أحدها في الغرفة. كذلك الأمر بالنسبة لشخص تلقى قبل قليل باقة زهور، حيث يمكنه أن يقول «تفوح برائحة طيبة» من دون أن يكون ضرورياً ذكر أزهار الباقة. تأخذ اللغتان اليابانية والكورية بعين الاعتبار، بشكل خاص، العلاقات المتبادلة بين الأشخاص في كيفية التعبير. يمكن إذاً أن نتوقع أن تكون ترسيمات المفردات عند الأطفال اليابانيين أو الكوريين مختلفة عن مثيلاتها عند الأطفال الذين تتطلب لغتهم مرجعية اسمية ضمنية.
يمكن، من بين اللغات الغربية أيضاً، أن نتوقع ترسيمات مفردات مختلفة؛ وهكذا فإن شكل الكلمات (طولها وبنية مقاطعها اللفظية)، أحادية المقطع اللفظي في اللغة الإنكليزية، يتعارض مع مثيله في اللغة الفرنسية، أو الإيطالية، اللغتين اللتين تتميز كلماتُها بأنها ثنائيةُ أو ثلاثيةُ المقطع اللفظي في معظمها. تلاحظ حالات تعارض أيضاً بين اللغات التي يقوم فهم معنى كلماتها على ترتيب هذه الكلمات (اللغة الإنكليزية بشكل خاص) واللغات التي يكون فيها الترتيب أكثر حرية وحيث تتحدد العلاقات بلواحق نحوية صَرْفية كاللغتين الروسية والتركية. إن النسبة المئوية وشكل الأسماء في اللغة، والنسبة المئوية للكلمات النحوية، ووجود أو عدم وجود لواحق نحوية، ووظيفة أدوات المساعدة هي أيضاً مواطن اختلافات ضمن لائحة لا تنتهي.

 

الحوار الخارجي: 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك