مَن حرر إقليدس من وهمه؟
مقاربة لفهم العلاقة بين الوعي واللغة والرياضيات والبنية الفكرية
من بين شذرات الذاكرة المخربة تنبع وسط محيطات تيهها جزر من ذكريات مستوحشة نافرة ومتفردة لكنها سرعان ما تلتئم مع بعضها مثل قطرات ماء منسابة على زجاجة ندية، مكونة بعداً ثقافياً من قارات وعوالم وأكوان. ومن بين تلك الومضات المتباعدة يطفو على سطح الذاكرة المخاتل كلام ذو دلالات معرفية أحدثت ما يشبه الصعقة الكهربائية غير المتوقعة في مراهقة وعينا الأول يوم كنا طلاباً ننهل العلم في أروقة الجامعة. كان ذلك كلام لعجوز نحيل تتقاسم سماته الارستقراطية (الفيديّة) شحوب السحنة الهندية المريضة. وعلى الرغم من سنّه التي نيّفت على الثمانين كما اخبرنا يومها، فإنّه كان يتمتع بقوام ممشوق معتدل يتألق بملابس تقليدية بيضاء وغطاء الرأس المستطيل الذي درج على ارتدائه مسلمو الهند المتميزين بالثقافة. كان قد ترك لتوه انكلترا متوجها إلى (بهاراتا) بلاد الهند الفسيحة بعد أن تقاعد عن التدريس في جامعة كامبردج وحل على جامعة بغداد ضيفا بصفة أستاذ متمرس لإلقاء عدد محدد من المحاضرات الفلسفية في مادة الرياضيات. وكان أن قدّم لنا نفسه (البروفيسور عبد الصاحب مندان. أستاذ الهندسة اللااقليدية). كان ذلك على وجه التحديد في العام 1963.
ما الذي حدث في الصف الدراسي؟
كان قد امتدح اليونان في محاضراته الفلسفية الأولى بقوله إن فضلهم يتجلى في وضع (اللوغوس) في صياغة منهجية العلوم. ولم يكن الإغريق سوى سرّاق عظام لانجازات ما حولهم من الحضارات الرائدة التي بهرتهم بانجازاتها الثريّة متمثلين بمثلهم الأعلى الذي يتوسمون خطاه إلههم الأثير (هرمس) حامي اللصوص والتجار ورسول آلهة الأولمبس وابن زيوس المدلل. إلاّ أنهم سرعان ما طوروا عقلاً منهجياً ووعياً تحليلياً يحكمه المنطق جهدوا من خلالهما على تأسيس عالم الفلسفة الفريد فضلاً عن وضع أسس العلوم الطبيعية التي مازالت بعض أقسامها تدين لهم في استنباط منهاجها العلمية حتى يومنا هذا. إن ما دعوناه سرقة هو ما ندعوه اليوم باسم التثاقف الحضاري البنّاء الذي هو احد السبل المهمة للتطورات الحاصلة في الفكر الإنساني إن لم يكن أوحدها بالمطلق ولكن الذي يحزّ في النفس هو النكران المتعمد الذي درج عليه الغرب لأسس ومبادئ العلوم والفلسفة الهلّينية التي تحصّلها الإغريق عن طريق انجازات الحضارات المشرقية المبكرة العظمي في بلاد الرافدين ومصر والهند. كان درسه الأول عن بلاد الإغريق الثرية بحضارتها هي الأخرى بقوله (انك تستطيع أن تنشئ كونا متفردا من الأفكار إذا ما أتيح إليك بعض من بديهيات ومن حقائق معرّفة تعريفا دقيقا ضمن هيولا أوليّة تحتويهما) ولم يكن اقليدس سوى لاعب ماهر بهذه المبادئ التي وضعها بعد طول مران صعب مع المعرفة المتاحة من شذرات الرياضيات والهندسة البابلية والمصرية مسطراً من خلالها أوليات بسيطة تتجلي في بديهياته الجليّة وحقائق هي ألأخرى بسيطة ضمن مفهوم السطح المستوي فضلاً عن تعريفات صارمة متمثلة بالنقطة والخط المستقيم ممهدا لاستطرادية نظرية تراتبية ولكونٍ من أشكال هندسية ومساحات وزوايا تتأسس ضمن نظريات محكمة على غاية من الدقة والجمال ، فإذا ما دخلت عالمه الصادق بذاته بحكم منطقة الجلي فكأنك دخلت عالم أليس العجائبي.
- هل حقا إننا اكتشفنا حقيقة الفكر المُمَنهج مع إقليدس؟ أم إننا أسسنا أوهاماً مضافة بطريقة أو بأخرى!؟.
- في إحدى محاضراته المعدودة ، كان قد استعار كرة كبيرة من ملعب الطلبة وضعها أمامه على طاولة ألإلقاء بيدين مرتعشتين وبعد أن تأكد من استقرارها سألنا: كم منكم من يعرف الخاجة نصير الدين الطوسي؟! وساد صمت طويل.
كنت قبل ذلك بمدة ليست بالقصيرة وبالصدفة المحضة قد تصفحت كتابا ضخما من إصدارات مطبعة (لايدن) ألألمانية من انتاجات نهاية القرن التاسع عشر حققه احد المستشرقين المعروفين. تناولته من مكتبة والدي رحمه الله بعنوان (تحرير إقليدس) للخاجة نصير الدين الطوسي كان الكتاب يحتوي علي جداول رياضية تشبه الأوفاق السحرية فضلاً عن خطوط مستقيمة ومنحنيات غريبة وأشكال هندسية ودوائر متقاطعة وأخرى منفصلة جهد المؤلف في تجسيمها كي توحي بالكروية وكنت قد سألت والدي رحمه الله عن معنى اسم الكتاب العجيب وما المقصود بكلمة تحرير وقد أفادني رحمه الله في حينها بأن التحرير هو الإصلاح و تحرير الكتاب بمعنى إصلاحه و يأتي معنى تحرير مضمونه في القيام بنقده وبذلك يتفكك لغز العنوان المبهم ليتأسس على تركيبة معرفية جديدة بعنوان (نقد اقليدس).
احتار المعلم العجوز من عدم إجابتنا فقطع صمتنا بتعجب واستغراب متسائلاً: كيف لا تعرفون من هو راقد بجواركم؟ ثم أردف: بالأمس زرت قبره بجوار مقام حضرة الإمام الكاظم عليه السلام فهل يعقل أن تتخصصوا في الرياضيات وتدرسوا الهندسة اللاإقليديّة وانتم لا تعرفون من هو رائدها؟ وكان ثمة صمت آخر قطعته بإصبع نحيل خجول هو الآخر (هل هو صاحب كتاب تحرير اقليدس؟) قال المعلم الشيخ: ها إن أحدكم قد أصاب في معرفة الخاجة وكتابه المعرفي الرائد في العلم الذي سوف ندرسه سوية. تناول كرة السلة الكبيرة وأشر نقطتين على طرفين متقابلتين فيها بالطباشير الأحمر عرفهما بعد ذلك بأنهما يمثلان قطبا الكرة ثم وصل تينك القطبين بخط بالطباشير الأصفر وانهمك بإيصال قطبي الكرة بخطوط صفر أخرى حتى باتت الكرة (مشيّفة) بتلك الخطوط التي أحدثها ثم قام بقطع تلك المنحنيات المُحدَثة من منتصف المسافة بين القطبين الأحمرين بدائرة زرقاء تمثل خط استواء الكرة. أعاد الكرة مرة أخرى على طاولة الإلقاء وبدأ الحديث: كان البيروني سلف الطوسي قد وضع مسألة كروية الأرض مقابل استوائيتها كحقيقة لا تقبل الجدل بشكل مبكرة مؤسسا بذلك لإحدى الحقائق الكبرى في الفكر الحديث وممهدا السبيل أمام جميع التصورات التي نمت بعد ذلك وحتى يومنا هذا بفكرة (الكون الأحدب) فضلاً عن كروية الأجرام السماوية. لكن الإضافة التي نبغ الطوسي في استنباطها تتمثل في أن (المستوي) وهمٌ جاءنا من أفكار إقليدس وان المنحني هو الحقيقة المطلقة. وبهذا كانت مسألة توازي الخطوط المستقيمة وعدم تلاقيها إذا ما مُدّت من طرفيها هي النقطة التي فجرت الموقف ذلك لان جميع الخطوط التي نضعها على كراريسنا مهما كانت توحي بالاستقامة فإنها تنتمي في حقيقتها إلى جزء مُقتطع من المستوي المنحني الكوني وأشّر على الخطوط الصفر المنحنية على سطح الكرة ومن ذلك تداعت البديهية الخامسة وفكرة التوازي برمتها لان جميع خطوط المنحنيات الكروية (الصفر) تلتقي مرتين عند القطبين مؤشرا على النقطتين الحمراوين فضلاً عن أن جميع الخطوط الصفر هي خطوط عمودية على خط الاستواء الأزرق فإذا ما وصلت خطين أصفرين متتالين منها مع الخط الأزرق ظهر لنا مثلث جديد له أضلاع منحنية وزاويتا قاعدته قائمتان فضلاً عن زاوية الرأس التي إذا ما قدرت قيمتها بأية قيمة ضئيلة (اكبر من الصفر) فان ما ينتج هو مثلث مجموع زواياه اكبر من 180 درجة الأمر الذي يعد مخالفاً لمجموع زوايا مثلثات اقليدس (المهزومة) البالغة 180 درجة فقط.
لقد انقلبت الحقائق التي استنبطها العقل عندما تغيرت البديهيات والتعريفات ليُنشىء الوعي مرة أخرى عالماً فكرياً غرائبيّاً جديداً مليء هو الآخر بالحقائق والصدق ضمن منطقه الجديد. لكننا وعلى الرغم من جميع ما أحدثناه لم نغادر البنية الفكرية ألإقليديّة في تسلسلها المنطقي في فهم تشكل المنظومة المبدعة الجديدة وتراتبيّتها في نظرياتها المتلاحقة التي تأسست على وفق تأسيس حقل إقليدس الفكري المتمثل بمفهوم السطح المستوي وتبعاته من بديهيات وحقائق وتعريفات وفرضيات. لقد حررنا إقليدس من (أوهامه) ولكننا لم نخرج عن منطقه في تفسير وصياغة آلية تشكيل الفكر الهندسي.
لم تكن الرياضيات سوي لغة واعية متوافقة مع المفاهيم المنطقية التي أنتجها العقل. ولم يكن الوعي بذاته سوى اللغة ونظامها ألإشاري المعقّد العجيب. ولا يمكن إلا أن نتبصر جيداً بأن هذين الحقلين اللغويين لابد وان تتحكم فيهما القوانين ذاتها، إن لم تكن قوانين متقاربة في منطق تكوين بنيتيهما وفي منطق قوانين ألأفكار الصادرة عن العقل على وفق التراتبية المنطقية الإقليدية. ان الوعي منذ تعرفه على ذاته كوعي مغرم بتمثل هذه التراتبية في إنتاج أفكاره يتساوى فيها العقل المتوحش والعقل المؤنسن، يتساوى فيها النتاج الفكري الأسطوري (بكونه فكر الفطرة) والنتاج الفكري الديني (بكونه فكراً موحى به- أو فكرا تأملياً) والنتاج الفكري العلمي (بكونه فكر المشاهدة والتجربة) ففي حين يصدر الفكر الأسطوري عن وحدة من وحدات الوعي التي تتجلي في ثنائية (الطبيعة، الآلهة) فان الفكر الديني يصدر هو الآخر عن وحدة من وحدات الوعي تتجلي في ثنائية (الخالق، المخلوق) بينما يصدر الفكر العلمي عن وحدة وعي أخرى تتجلي في ثنائية (العقل، التجربة). إننا مازلنا إقليديون في الأفكار التي يطلقها وعينا ذلك لأننا حينما نقع على ظاهرة ما فإنها تحتوينا بهيولاها الأولية بما ينتمي إلى مجموعتها من عناصر وسرعان ما يشتغل العقل في إنتاج بديهيات بسيطة من حشود تلك العناصر الأولية مستندا على حقائق منها وتعريفات يضعها على وفق مفهومه للظاهرة مؤسساً بذلك عالماً استنباطياً مطرداً من (العلاقات) بشكل نظريات تراتبيّة في (مجال محدد) يتضمن صدقاً مطلقاً ضمن منطق مجاله سواء أكان مجالاً مفتوحاً أو مغلقاً على ذاته. وهو تأسيس ليس ببعيد عن خطر إشكالية إنتاج (الفكر المنغلق) ضمن مجاميع فكرية لا تتقاطع أو تتحد مع بعضها لتكوين مجالات معرفية مشتركة بل تتجه من خلال تداعيات مسيرتها إلى تكريس إنتاج كيانات صادقة في تفردها ولا تقبل تقويمها من الآخر ألأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى تعزيز صدقها بذاتها و الذي يحتّم عليها من خلال منطق تكوينها احتساب الكيانات المعرفية الأخرى بالضرورة خاطئة. ومن خلال ظاهرة التوالد هذه بات بالإمكان استخلاص مجموعات فكرية مجتزأة من المجموعة الفكرية الشاملة ولكن على وفق منطق الانتقاء لفرز كيانات فكرية مستقلة مولّدة هي الأخرى لكيانات تابعة. إن الانتقاء المنحاز لأسباب تلفيقية سيؤدي بالضرورة إلى تضييق مفهوم المنظومة الأم المتعدد والمتنوع الاتجاهات والذي نطلق عليه اسم (المفهوم المنفتح) إلى حالة من المفاهيم الأُحادية الجامدة المنتهية إلى الأيديولوجية المصاحبة لسلوك فكري وعملي متصلب وتسلطي وصارم قد يتسبب وفي أحيان كثيرة بالابتعاد عن المنظومة الفكرية الشاملة وفلسفتها المتسامحة. كما هو الحال في (الفكر الجهادي) هذه الأيام والمتمثل بمنظومته الانتقائية المغلقة قياسا بالفكر الإسلامي المتسامح ومن ذلك بات على (الفكر الاجتهادي) وضع شرط على نفسه خلال استنباطه للأحكام (التي هي بناً فكرية مجتزأة) لإنتاج أحكام ومفاهيم متوائمة مع تطور المجتمعات ألا وهو مبدأ (الفائدة الإنسانية الشاملة) توافقاً مع مبادئ الشريعة السمحاء.
المصدر: http://mail.almothaqaf.com/index.php/%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7-%D9%...