التطابق في المفاهيم والقيم بين الدين والليبرالية الديمقراطية
مفهوم المُطابقة مفهوم نسبي وهو بالتبادر يعني المساوات لا على نحو الحقيقة والدقة، وحين نتبنى مفهوم التطابق في المفاهيم
بين الدين والليبرالية الديمقراطية، فإننا نشير هنا إلى وحدة الهدف والمصدر، فكلاهما إنطلقا في تعميم مقولاتهما وخطابهما من أجل الإنسان، وحتى لو قيل : إن الدين مصدره الله، فنحن نعلم إن خطاب الله ليس لعالمه الخاص بل هو للإنسان، فالعدل والحرية والسلام هذه المفاهيم والقيم هي إلهية وإنسانية في آن معاً لأنها جاءت من أجل الإنسان، أي إنها كانت لحاجة الإنسان إذ بدونها لايمكنه أن يعيش، فهي بالنسبة له تعني الحياة وهي موضوعياً تشكل له الطبيعة الضرورية الملازمة لوجوده، فهي الماهية والشكل كما يقول أرسطوف
هذا الإستهلال الفلسفي جئنا به هنا لتبيان مفهوم التطابق في الجانب المعرفي للمفاهيم والقيم بين الدين والليبرالية الديمقراطية، وطبيعي إننا نقصد بالتطابق مفهومه ومعناه من حيث الواقع لا من حيث الإفتراض، يقول الملا صدرا الشيرازي في أسفاره العقلية : إن الإنسان هو الكائن المخلوق الوحيد الذي يتجاوز بفعل عقله وإدراكه طبيعة المكان والزمان ...، ونقول : إن هذا التجاوز هو الحركة التي يستخدمها من أجل تحقيق مصالحه، فمثلاً الإنسان الحر يستطيع التحرك بمساحة وحجم أكبر من الذي لايملك الحرية، أي إن الانسان يرتبط موضوعياً في حركته في الحياة بنوع الحرية وطبيعتها، وكلما كانت حريته كبيرة كلما كانت قدرته أكبر، ومن ذلك نفهم معنى التدرج الذي قال به : - أوجست كونت - في تعريفه لشكل العلاقة بين الإنسان والأشياء في المنطق الوضعي، والتدرج هذا ورد في الكتاب المجيد في بيان العلاقة بين الله والإنسان أو لنقل بين الغيب والإنسان .
والمنطق الجدلي هذا يمكننا أن ننظر إليه في دائرة العلاقة بين الدين والليبرالية الديمقراطية ومدى إرتباطهما بالواقع الموضوعي للإنسان،
ففي الجانب القانوني ترى الليبرالية الديمقراطية كما يرى الدين : إن العلاقة الزوجية يجب أن تعطى تفسيراً منطقياً منسجماً مع الواقع الموضوعي ومايترتب عليه من آثار، ولم تترك هذه العلاقة حرة من غير ضوابط موضوعية وقانونية، فالليبرالية الديمقراطية كما هو الدين ساوى بين الرجل والمرأة في هذا المجال، أي إنهما ساووا بين الجانب الإنساني والجانب البشري في هذه العلاقة بالذات ومايترتب عليها من تبعات وآثار، أي إنهما قد حددا العلاقة وفق الصيغ القانونية لكل بلد آخذين بعين الإعتبار الطبيعة الأخلاقية والقيمية لكل مجتمع، ففي المجال القانوني نجد التطابق بينهما وهذا يدعونا إلى عدم الخلط في مجال الحريات بين ماهو محرم بالطبيعة والفطرة وماهو مباح كذلك، والدين المحمدي كما هي الليبرالية الديمقراطية تعتبر إن كل ما حرمه الكتاب المجيد فهو محرم سواء في العلاقات الزوجية أو في باب الأطعمة والأشربة، وتعتبر التحريم في ذلك هو القانون وهو التشريع الذي يجب ان يحترم ويطبق، وهذه النظرية القانونية تجري في كل حكم وفي كل موضوع دخل أو يدخل في باب الحلال والحرام.
ومن هنا فالليبراليون الديمقراطيون يعتبرون الوجود الانساني ليس وجوداً مادياً وحسب إنما هو عبارة تكوين موضوعي من شقين داخلي وخارجي - مادي وروحي -، معتبرين إن كل شيء في الكون هو نتاج طبيعي وضروري لما هو مادي وروحي معا، لهذا قالت وتبنت الليبرالية الديمقراطية : مبدأ الخلق الذي طرحه النص 49 من سورة الذاريات في قوله تعالى - ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون
إن تطابق المفاهيم والقيم بين الليبرالية الديمقراطية والدين يجعل من العلاقة بينهما علاقة إيجابية على طول الخط في إطار ومعنى الإرادة التي يمتلكها الإنسان و التي تحدد له خياراته، والليبرالية الديمقراطية كما هو الدين يرفضان معنى العبودية في الصيغة التي عرضها الكتاب المجيد في سورة النحل بقوله: - ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون، وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كلٌ على مولاه اينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم – النحل).
فالليبرالية الديمقراطية والدين في مجال الحرية يحفزان الإنسان لكي يخرج من دائرة العبودية المغلقة الفاقدة للإرادة والإختيار، ويحرضانه على رفض العبودية التي تلغي فيه المعنى الذاتي والفطري للحرية والإختيار التي منحهما الخالق والخلق الطبيعي للإنسان، كما منحها الخلق للطير وهو يسبح في جو السماء بحثاً عن المستقر وأدوات الحياة الممكنة، وكأن الدين والليبرالية الديمقراطية يعتبران منظومة القيم ومن بينها الحرية بالنسبة للإنسان هي الأشياء المطلقة التي لايجوز تقييدها إلاّ من خلال وضمن القانون العام، وأداة الإستثاء - إلاّ - هذه ترتبط بقيم الإنسان وبفطرته وعالمه الأخلاقي، وهذه الدينامية أو الإرتباط وجدناه في الليبرالية الاقتصادية كما أطلقها آدم سميث، وفي الليبرالية السياسية كما سماها فولتير أو مونتسيكيو، أو كما ظهرت في الثورة الانجليزية والأميركية والفرنسية، ونفس الشيء نقوله في الليبرالية الديمقراطية ككونها ليبرالية أخلاقية تتبنى التشريعات والقوانين كموكون طبيعي للإنسان.
ولهذا فمن يدعي من المتأسلمين من إمكانية تحييد الديمقراطية كآليات في الاختيار الشعبي الحر عن الفلسفة الليبرالية في النظام السياسي هو واهم جداً، ذلك لأن الأمر في الإنتخاب الشعبي هو إختيار من هو أكفء وأقدر وأعلم وهذه الصيغة المفهومية تتطابق مع قول الله سبحانه وتعالى حين يأمرنا بأن نأتي بأولي الأمر منا وليس علينا، في إشارة إلى إختيار الصالح من غير النظر للمزايا القبلية والقومية، أي إنه يدعونا لكي نلغي التمايز الطبقي والإجتماعي ويدعونا للتركيز على الكفاءة والقدرة والحنكة، وهذه القيم طرحتها الليبرالية الديمقراطية كفلسفة وكخطاب عمل، كما طرحها الكتاب المجيد في مفهوم الطاعة لله والرسول وأولي الأمر منكم - ).
ولمن يتدبر يجد إن آليات الليبرالية الديمقراطية في العمل الانتخابي دائما يكون فيها تفعيل - على نحو ما - لهذا النص القرآني المتقدم، ولازم ذلك التفعيل وأداته هو أن يتحرك المجتمع وفق قيم ومبادئ العدل والسلام لا التنازع والخصام هذه هي القاعدة وهي قاعدة تطابقية مضطردة، وعلى هذا تكون الليبرالية الديمقراطية في فلسفتها ومحتواها الفكري هي القادرة بالفعل على خلق وصناعة المجتمع المتسالم الذي يوفق بين النظرية والتطبيق أو بين القول والفعل في السياسي والإجتماعي والثقافي بل وفي كل شيء، ولهذا تكون هي النظرية المنطقية المطلوبه في المنطقة العربية والإسلامية لأنها في فلسفتها وفي آلياتها تتناسب وواقعنا وطبيعة مجتمعاتنا، و الترابط المنطقي والفلسفي بين الليبرالية الديمقراطية وبين قيم المجتمع الشرقي كبيرة في كل المجالات والشؤون ترابط إيجابي كما هو الترابط بينها وبين الدين بإعتباره منظومة قيم وأخلاق، وهذا مايجعلنا نؤكد ونصر على أن الليبرالية الديمقراطية هي المضمون المعرفي والفكري الوحيد من بين كل النظريات والأفكار التي توافق تطلعات ورؤى شعوبنا العربية والمسلمة، تلك الشعوب التي تتطلع لصنع حاضر ومستقبل زاهر لها من غير سلطات قمعية دينية وسياسية، ومع تقديري لما يمكن ان يثيره هذا المفهوم في نفوس البعض لكنني واثق بأن أرثنا الأخلاقي يُحتم علينا الإصرار في ذلك وتبيانه من أجل جعل الحياة ممكنة في ظل العدل والحرية والسلام
المصدر: http://mail.almothaqaf.com/index.php/qadaya/70721.html