الحوار مع أصحاب الأديان: مشروعيته وشروطه وآدابه

الحوار مع أصحاب الأديان: مشروعيته وشروطه وآدابه
بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، أما بعد:

فيمكن للمرء أن يسمي هذا العصر بعصر تقارب الثقافات وتعايشها وتحاورها. وما سبق أن توقعه البروفيسور (مارشال ماكلوهان) قبل نحو أربعين عاماً تحقق إلى حد كبير، إذ إن الدفع التقني مضى قدماً إلى الأمام بأسرع مما كان يدور في خلد ذلك المنظر الإعلامي الرائد.

من كان يتصور قبل عقود قليلة أن شبكة المعلومات العالمية (الإنترنت) يمكن أن تربط العالم بهذا الشكل سواء بنقل المعلومات فورياً، أو بالسماح بالحوار عبر المعمورة بحرية كاملة وتكاليف قليلة هي رمزية في معظم الأحيان؟! هذا فضلاً عما حدث من تقدم في وسائل الاتصال الأخرى، وتيسر السفر والانتقال والتبادل التجاري وغير ذلك من الوسائل التي توفر فرصاً لا تحصى للقاء بين الشعوب والتعرف على مختلف الثقافات والحضارات.

وقد جاء انحسار الحرب الباردة وانتهاء الاستقطاب السياسي الدولي القديم ليتيح فرصاً ثقافية وفكرية يمكن أن تقلل من آفات التعصب والتربص بالآخر والإصرار على غزوه فكرياً. لقد أصبح ممكناً أكثر من ذي قبل نشر الأفكار على نحو طبيعي دون أن تقف من ورائه -في الغالب- الأحزاب والدول، وإنما جماعات غير منظمة ولا ممولة بشكل جيد تعمل جهدها لنشر أفكارها بهدوء دون العوائق المعروفة تاريخياً، وهذا وضع أقرب إلى تحقيق التعايش الثقافي السلمي والتبادل الحضاري الذي يفتح الفرص أمام جميع الأطراف.

هذا الأمر يدعونا إلى كيفية الاستفادة من هذه الفرص المتاحة في الحوار وطرح الآراء بعيداً عن الإكراه والقسر. كما أنه يقودنا إلى مكانة الحوار مع الآخر في ديننا الإسلامي وتراثنا الطويل .

إن حوار المسلمين مع أصحاب الأديان الأخرى لم ينقطع قط، لأنه مسجل في القرآن الكريم ويتلوه المسلمون صباح مساء في آيات كثيرة مثل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} (آل عمران 64) وقوله تعالى : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (آل عمران 71) وقوله تعالى : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} (المائدة 68) وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ} (الأنعام 91) وقوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} (البقرة 144) وقوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} (البقرة 145)، وغير ذلك من آي الذكر الحكيم التي تذكر مشاهد الحوار بين المسلمين وأهل الكتاب وهي آيات تعد بالعشرات وتتخلل كثيراً من سور القرآن الكريم.

وفي سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- مواقف عديدة للحديث مع أهل الكتاب والحوار معهم بدءاً من قصة بحيرا الراهب الذي رأى خاتم النبوة على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وأوصى بالنبي صلى الله عليه وسلم خيراً، وورقة بن نوفل النصراني الذي قال حينما عرف بحديث الوحي: "لقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى". ويروي ابن هشام مؤرخ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في حواره -صلى الله عليه وسل- مع اليهود حول الروح: "قال ابن إسحاق: وحدثت عن ابن عباس أنه قال: «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، قال أحبار يهود: يا محمد، أرأيت قولك: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} إيانا تريد، أم قومك؟ قال: كلاً، قالوا: فإنك تتلو فيما جاءك: أنا قد أوتينا التوراة فيها بيان كل شئ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها في علم الله قليل، وعندكم في ذلك ما يكفيكم لو أقمتموه. قال: فأنزل الله تعالى عليه فيما سألوه عنه من ذلك: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}: أي أن التوراة في هذا من علم الله قليل» (ابن هشام، ج 2 / 308).

كما يروي ابن هشام كذلك قصة وفد من نصارى الحبشة جاؤوا وحاوروا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وآمنوا، ثم يروي قصة حوارهم بعد أن آمنوا مع من تصدى لردهم عن الإسلام. فيقول: "قال ابن إسحاق : ثم «قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بمكة، عشرون رجلاً أو قريب من ذلك من النصارى، حين بلغهم خبره من الحبشة، فوجدوه في المسجد، فجلسوا إليه وكلموه وسألوه، ورجال من قريش في أنديتها حول الكعبة، فلما فرغوا من مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل وتلا عليهم القرآن. فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا لله، وآمنوا به وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره. فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل ابن هشام في نفر من قريش، فقالوا لهم: خيبكم الله من ركب! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلما تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال! ما نعلم ركباً أحمق منكم. أو كما قالوا. فقالوا له : سلام عليكم، لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيراً» (ابن هشام، ج 2، ص 291-292).

وهذه مجرد أمثلة من حشد من أخبار الحوار التي رواها ابن هشام لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل الكتاب وغيرهم، ثم لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كسلمان الفارسي رضي الله عنه مع أهل الكتاب كما تذكر كتب الفرق والملل والنحل أمثلة عديدة لحواريات الشهرستاني وابن حزم وابن الوليد الباجي وابن تيمية وغيرهم مع الأحبار والرهبان وممثلي الفرق الدينية الأخرى .

تعريف الحوار

الحوار في اللغة:
تراجع الكلام، وفي لسان العرب: (وهم يتحاورون أي: يتراجعون الكلام. والمحاورة: مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة). أما الجدل: فقال ابن فارس: (الجيم والدال واللام أصل واحد وهو من باب استحكام الشيء في استرسال يكون فيه وامتداد الخصومة ومراجعة الكلام).

الحوار في الاصطلاح:
هو المعنى اللغوي السابق نفسه، فهو إذاً: مراجعة للكلام بين طرفين أو أكثر دون وجود خصومة بينهم بالضرورة. أما الجدل: فهو: (إظهار المتنازعين مقتضى نظرتهما على التدافع والتنافي بالعبارة أو ما يقوم مقامهما من الإشارة والدلالة). ويفرق العلماء بين الحوار والجدل حيث إن الجدل مظنة التعصب والإصرار على نصرة الرأي بالحق وبالباطل والتعسف في إيراد الشبه والظنون حول الحق إذا برز من الاتجاه الآخر. وتوجد ألفاظ قريبة من الحوار والجدال منها: المحاجة والمناظرة والمناقشة والمباحثة.

مما سبق يتبين أن الحوار هو تبادل المعلومات والأفكار والآراء سواء أكانت تبادلاً رسمياً أم غير رسمي، مكتوباً أم شفوياً. وينعقد الحوار بمجرد التعرف على وجهات نظر الآخرين وتأملها وتقويمها والتعليق عليها. ومن هذا الفهم يمكن أن يطلق الحوار على تلاقح الثقافات بين بعضها الآخر وما يحصل من جراء ذلك من تلاقي المتحاورين وتصويب بعضهم لبعض وتأثير بعضهم في بعض.

تعريف الدين

يعرف الدين على أنه الطاعة والانقياد وتأسيس منهج الحياة على مثل عليا يلتزم بها الإنسان. يقول محمد فريد وجدي في تعريف الدين إنه: "اسم لجميع ما يعبد به الله، والملة، ومثله الديانة. جمع الدين أديان وجمع الديانة ديانات." وفي الموسوعة العربية العالمية "الدين لغةً: الملك والحكم والتدبير من دانه ديناً أي ملكه وحكمه وساسه ودبره وقهره وحاسبه وجازاه وكافأه من ذلك "مالك يوم الدين" أي يوم الحساب والجزاء. وفي الحديث «الكيس من دان نفسه» أي حكمها وضبطها." وفي الموسوعة العربية: "لفظة "دين" العربية تضم معاني مختلفة، ولكنها وثيقة الارتباط فيما بينها. فاللفظة مشتقة من فعل "دان" وأصله "دين" ومعناه أذل، استعبد، وحاسب. ومنه يوم "الدين" وهو يوم "الجزاء" أو "المكافأة."

وفي اللغات الأوربية تستخدم كلمة (Religion) للتعبير عن الدين وهي كلمة ذات أصل لاتيني هو (Religio) بمعنى إعادة الجمع والقطف إشارة إلى التفكر والتعبد والتأمل والعمل تبعاً لما يستخرج من تلك التأملات.

وأما في الدين الإسلامي فيعني الدين الاستسلام لأمر الله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك واتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ هذا الاستسلام والاتباع عقيدة وشريعة ومنهاج حياة شاملاً حيث قال الله تعالى: {وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} (النحل / 52)، وقال تعالى {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (آل عمران / 83) وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (الزمر / 11) أي ممحضاً الاتباع لله تعالى في جميع أوامره الشاملة لجميع جوانب الحياة. فمن المنظور الإسلامي يعد الدين هو القيمة العليا، وعلى الأعراف والثقافات أن تتكيف معه، أو أن تحظى بإقراره لما هي عليه من المواضعات.

تعريف الثقافة

الثقافة هي مجموع العقائد والقيم والقواعد التي يقبلها ويمتثل لها أفراد المجتمع. ذلك أن الثقافة هي قوة وسلطة موجهة لسلوك المجتمع، تحدد لأفراده تصوراتهم عن أنفسهم والعالم من حولهم وتحدد لهم ما يحبون ويكرهون ويرغبون فيه ويرغبون عنه كنوع الطعام الذي يأكلون، ونوع الملابس التي يرتدون، والطريقة التي يتكلمون بها، والألعاب الرياضية التي يمارسونها والأبطال التاريخيين الذين خلدوا في ضمائرهم، والرموز التي يتخذونها للإفصاح عن مكنونات أنفسهم ونحو ذلك.

من هذا التعريف يتبين أن الثقافة:

1- ذات نمو تراكمي على المدى الطويل: بمعنى أن الثقافة ليست علوماً أو معارف جاهزة يمكن للمجتمع أن يحصل عليها ويستوعبها ويتمثلها في زمن قصير، وإنما تتراكم عبر مراحل طويلة من الزمن.
2- تنتقل من جيل إلى جيل عبر التنشئة الاجتماعية: فثقافة المجتمع تنتقل إلى أفراده الجدد عبر التنشئة الاجتماعية، حيث يكتسب الأطفال خلال مراحل نموهم الذوق العام للمجتمع.
3- ذات طبيعة جماعية: أي أنها ليست صفة خاصة للفرد وإنما للجماعة، حيث يشترك فيها الفرد مع بقية أفراد مجتمعه وتمثل الرابطة التي تربط جميع أفراده.

وهكذا تميز ثقافة شعب ما نمط حياته عن أنماط الشعوب الأخرى ولكنها لا تعزله ولا تقوده بالضرورة إلى حالة خصام مع الثقافات الأخرى. وقد يوجد في داخل كل ثقافة من يدعو إلى العزلة والانقطاع عن الآخرين أو أسوأ من ذلك إلى التعالي وتفخيم الذات واحتقار الآخرين. وقد يصل هذا إلى مرحلة العداء للآخرين وتشكيل خطر على وجودهم. ولذلك كان لا بد للحوار حتى يخفف من حدة هذا العداء ويجعل أصحاب الثقافات يتعايشون ويفهم كل منهم الآخر .

هدف الحوار

إن المقصود من الحوار ليس المجابهة والإفحام إذ إن ذلك هو من باب المناظرة ومحاولة الظهور على الخصم وتعجيزه عن الرد. وإنما المقصود أن يحصل كل ما يأتي أو بعضه:

1- معرفة أطروحات الطرف الآخر ووجهات نظره وحججه في القضايا التي هي موضوع الحوار.
2- تعريف الطرف الآخر بما يغيب عنه أو يلتبس عليه من المعلومات ووجهات النظر والبراهين في القضايا التي هي موضوع الحوار.
3- العمل على إقناع الطرف الآخر ليتخلص من وجهات نظره ومواقفه كلياً أو جزئياً في القضايا التي هي موضوع الحوار ليتقبلها ويعمل على تبنيها بعد اقتناعه بها سواء بعد الحوار مباشرة أو تدريجياً على المدى الطويل.
4- العمل على استكشاف ما لدى الطرف الآخر من حقائق وإيجابيات والاعتراف بها وقبولها والاستفادة منها طالما (أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى بها).
5- العمل على استكشاف ما عند المحاور من معلومات غير صحيحة أو دقيقة ومما في وجهات نظره أو مواقفه من ثغرات وأخطاء والعمل على تداركها وإصلاحها.
6- تشييد جسر للتواصل السلمي البناء وسد الطريق أمام المواجهات والمصادمات مما يبدد الجهود.
7- أن الحوار يساعد على التوقد الذهني وهي صفة ملازمة لأجواء التحدي الفكري والحوار المتبادل.
8- قد يؤدي الحوار إلى إيضاح الحقيقة بالإضافة إليها، فيعطي كل فرد ما يعرف من أجزاء الحقيقة حتى يمكن تركيبها كاملة وحتى صاحب الحق فإن أجزاء من الحق تبرز له بصورة أوضح أثناء توقده الذهني في لحظات الحوار.
9- إحباط حجج المتطرفين والمتعدين فكثير من حوارات كبار علماء الإسلام مع الفرق الضالة كشفت زيف أفكارهم وذلك ما سجلته كتب تراثية خالدة كالملل والنحل للشهرستاني والفصل بين الملل والأهواء والنحل لابن رشد والرد على الجهمية لابن تيمية والصواعق المرسلة لابن القيم والمسألة القاديانية للمودودي وغيرها.

القرآن الكريم وحوار الثقافات

بين القرآن الكريم في آيات عديدة أن تعدد الثقافات الإنسانية واختلاف الناس في الدين أمر من مقاصد الخلق. قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} { إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}. فالاختلاف أمر قدري مثلما هو أمر مقصود لتقوم الحجة على المخالف لكن ليس للاقتتال والنزاع إذ ليس الكفر في ذاته مبيحاً لقتل الكافر ولإزهاق روحه. أما التنوع في الأعراق والأجناس والألوان واللغات فإنما يقصد به التعارف والتقارب، لا التنافر والتفرق. قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} فالقصد من التعدد والتنوع الثقافي في أدنى مراحله هو التلاقي والتعارف وتبادل الأفكار والخبرات التي تطورها أنماط الحياة المختلفة. وذلك مما يزيد من عمق مكونات كل ثقافة بما تولده من الثقافات الأخرى. وبتواصل الاحتكاك السلمي بين الثقافات يتعلم أفراد البشر أن يقللوا من تحيزاتهم، وأن يلطفوا من مشاعرهم السلبية تجاه أصحاب الثقافات الأخرى، فيزيد التسامح بين البشر، وتصحح تلك الأفكار الخاطئة تجاه الآخرين، وهذا أمر يعرفه الإنسان حتى من تجاربه الخاصة مع الأفراد، فما أكثر ما يحمل الواحد منا فكرة سلبية عن فرد آخر يكون الدافع الوحيد لها هو عدم الحوار مع هذا الآخر وعدم معرفته معرفة قريبة وثيقة أكيدة ، ولكن سرعان ما تنجلي غشاوة ذلك التحيز بمجرد أن يتم الحوار والتعارف الوثيق معه.

وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تؤكد تنوع تجارب البشر وعدم احتقار الآخرين لمجرد الاختلاف عنهم، وقد صارت الثقافة الإسلامية غنية بفعل الاحتكاك بالشعوب الأخرى وتبادل الأفكار معها وأخذ ما عندها من الحق حتى ولو جاء ذلك الحق من عند من يعادون الإسلام. ولقد قبلت الشعوب المسلمة عقيدة الإسلام واحتفظت بعاداتها وتقاليدها الخاصة التي لا تخالف الإسلام وإن كانت لا تتفق مع عادات شعوب إسلامية أخرى ولا تقاليدها. وتلك هي رحابة الإسلام وسماحته التي ضمت الجميع. ولعل خير ما يمكن أن يستخلص من ذلك هو أن التنوع في الحوار هو أداة خصوبة وإغناء، مثلما عبر عن ذلك المفكر الاجتماعي سكوت بيك حيث قال: "إن الرسالة الإجمالية للتواصل والحوار الإنساني تتلخص (أو ينبغي أن تتلخص) في البلوغ إلى التصالح... إن التواصل والحوار الكفء يستطيع أن يصل في النهاية إلى تحقيق إزالة الجدران والحواجز التي تؤدي إلى سوء التفاهم الذي يبعد البشر عن بعضهم الآخر".

لقد دعا القرآن الكريم إلى الحوار مع الآخرين حواراً رفيعاً مهذباً كما قال الله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وكما قال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}، وقال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}، فمجرد الغلظة في الحوار واستخدام المفردات الجافة الفظة غير مرغوب ناهيك عن سباب الناس وإيذائهم وتحقيرهم وازدرائهم وغير ذلك من الممارسات الناجمة أساساً عن عدم الاعتراف بالآخرين وعدم الإيمان بجدوى الحوار نفسه، وهؤلاء لا ينبغي لهم أن يتصدوا للحوار أو لا يمكن أن يحققوا منه أي نتائج إيجابية.

شبهات حول جدوى الحوار

هناك بعض الشبهات حول جدوى الحوار وفائدته خاصة في حوار الأديان، وتدور هذه الشبهات حول بعض الحجج التي تحتاج منا إلى بيانها وكيفية الرد عليها بما يثبت أهمية مبدأ الحوار دون تطبيقه في كل حين ومع كل أحد، ومن هذه الحجج:

1- أن الحوار قد يؤدي إلى التشويش والاضطراب وذلك بما ينتج عنه من التأثير الفكري غير المحمود، ففي حالة الحوار بين المسلمين والنصارى مثلاً: يخشى بعض المسلمين من أن يؤدي الخطاب النصراني إلى إدخال بعض الشبهات والخلط الفكري في أذهان المسلمين فتضطرب بعض مفاهيمهم من جراء ذلك الخلط. وهذا الكلام صحيح إذا كان المحاور قليل البضاعة في موضوع الحوار، أو كان ضعيف الحجة غير قادر على البيان والتوضيح. أما إذا كان مؤهلاً للحوار محصناً بالعلم والحجة وحسن الالتزام بدينه فإن الحوار يزيده صلابة وقوة وكشفاً لزيف الطرف الآخر ورد شبهاته وتفنيدها.

2- أن الحوار قد يؤدي إلى مزيد من التعصب والتصلب عند طرفي الحوار. ففي حالة حوار الأديان يكون الحوار عادة بين منطلقات ومفاهيم كلية للوجود والألوهية والشرائع، وهذه مفاهيم من القوة والتجذر بحيث لا يؤثر فيها حوار، وتكون النتيجة الحتمية هي بقاء ما كان على ما كان أو على أشد مما كان عليه. وللرد على هذا، يكفي ذكر الحقيقة الواضحة كما كان الحال في أكثر حوارات القرآن الكريم، حيث حاور رسل الله عليهم الصلاة والسلام أقوامهم حول إثبات ربوبية الله عز وجل وألوهيته وإثبات البعث والجزاء، ولا ضير في حوار يتأسس على هذه القواعد الكبرى لتنطلق منها إلى ما هو دونها. وأما القول بأن كل أصحاب موقف سيتصلبون عليه، فيمكن القول بأنه نجم عن بعض حوارات الأديان تحولات كبرى في العقيدة كسب منها الإسلام قديماً وحديثاً كثيراً، إذ هو أكثر الأديان كسباً من هذا الباب إلى جانب ما يحققه من بيان موقفه من التوضيح لعقائده فيدفع عنها اللبس ويصد عنها العداوة أو يخففها.

3- أن الحوار يقود إلى الفتنة والصدام: وتقوم هذه الحجة على قاعدة سد الذرائع وإقامة الحواجز، ولكنه قد يبالغ فيها حتى تقيم الحواجز مع الآخرين وتبقى الحقيقة الإسلامية مغيبة. إن الحوار غير المنضبط بشروط الحوار وآدابه قد يتحول إلى فتنة وصدام، ولكن ليس كل حوار مرشحاً لذلك المآل بالتأكيد، ما دام هناك أخذ بشروط الحوار الصحيح الخالي من الجدل العقيم أو غير الملتزم بآداب الحوار كما سيأتي بيانه لاحقاً.

4- أن الحوار يعطي الفرصة لتلميع الآراء الباطلة: في هذا القول تعميم لا يصح في كل حال، فإن الغالب أن الآراء الباطلة إنما تكتسب بريقها إذا انفردت بالأجواء والأضواء، بعيداً عن الاعتراض عليها والتصدي لها بالحوار. إن الحوار يعطي الفرصة لتوهين الآراء الباطلة وخفض درجة توهجها وبريقها، وذلك بما يكشفه من الحق المناقض لها ومن الباطل المنطوي فيها.

5- أن الحوار قد يؤدي إلى المساومة على المبادئ والتلاعب بها ومزجها ببعضها الآخر للوصول إلى مواقف وسطى للتراضي أو القول بنسبية الحقيقة وأن الحقائق والآراء مهما اختلفت وتضاربت فهي كلها على صواب. والحق أن هذا المحذور وارد متى غاب عن المحاور من الطرف الإسلامي وضوح مبدئه وعدالة قضيته وإلا كان محامياً فاشلاً. إن الحرص على الحوار من أصحابه الأكفاء هو صمام الأمان ضد الوقوع في هذه الهوة السحيقة ، وعلى المحاور معرفة أن المساومة على المبادئ وأن مزج الإسلام مع غيره في مبادئه وعقائده ليس هدفاً من أهداف الحوار وذلك حتى لا يجعله المحاور هدفاً وهمياً للإنجاز.

6- أن الحوار قد يوقع أصحاب الحق في المزالق والإحراجات: وذلك إذا ما لم يؤدوا دورهم جيداً، وبذلك ينتصر أصحاب الرأي الباطل بسبب حسن إعدادهم لأنفسهم واستخدامهم الأفضل للمنطق. وفي ذلك ما فيه من تشكيك لأصحاب الحق في حقهم. وهذه النتيجة واردة الحدوث. ولكن السبب في ورودها هو الضعف العلمي للمحاورين أو تهاونهم في الإعداد وليس السبب في الحوار نفسه.

إن بعض من يرددون تلك الحجج ينطلقون من الحرص على الإسلام وثقافته وصفاء منهجه، وهذا أمر محمود، وربما ساعد في تقوية هذه الحجج ما رافق بعض جولات الحوار من الفشل في تحقيق نتائج ملموسة نظراً لعدم جدية المحاور من الطرف الآخر. وقد يكون السبب هو أن من تصدوا للحوار قد خاضوه على غير علم أو استعداد أو على غير انضباط بشروط الحوار وآدابه وبدلاً من أن يعيدوا النظر في أنفسهم لجؤوا إلى تخطئة مبدأ الحوار بدلاً من ذلك.

إعداد: د. أحمد بن سيف الدين تركستاني

المصدر: http://www.atida.org/forums/showthread.php?t=4836

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك