مهزلة العقل التنويري
بندر بن عبدالله الشويقي
أعاجيب الزمان لا تنقضي.
وغرائب الآراء لا تنحصر.
بعض الأفكار غير الموفقة ربما تحتاج إلى مناقشةٍ وتفنيدٍ لبيان مواضع الخلل فيها. بينما هناك من الآراء ما لا يحتاج إلى أكثر من شرحه وتفصيل معناه وبيان مقتضاه كي ينكشف كم هو طريفٌ ومضحكٌ.
تخيل معي عاقلاً يقول:
إن على المسلمين أن يلتزموا في سلوكهم الشخصي بأحكام الشريعة الإسلامية. وعليهم أن يسعوا ليكون نظامُ دولتهم نظام شريعة الإسلامِ. ولو أنهم طلبوا أن يحكموا بغير شريعة الإسلام لكانوا آثمين، بل ربما كانوا كفاراً غير مسلمين.
ثم بعد هذا كله يضيف:
يجوز (( بل يجب )) على الدولة أن تنبذ شريعة الإسلام متى رغب أكثرُ شعبها ذلك. لأن الشريعة يتعين أن تأتي عبر إرادة الأمة وسيادتها.
هذا حكمُ الله كما يصوره بعضُ من كتبَ مؤخراً حول قضية الإلزام بحكم الشريعة.
وفي ظني أن قائل هذا الكلام ومن وافقه من الرفاق لا يعونَ حقيقة هذا القول، ولا يدركون ما الذي ينتج عنه من التزامات شرعيةٍ وقانونية.
حسناً...دعونا نتأمل معنى هذا القول ومآلاته:
هذا التقرير يقتضي أن الحاكمَ يكونُ مصيباً ممتثلاً أمرَ الله متى نزل عند رأي أكثريةٍ ترى أن ارتكاب الفواحش سلوكٌ شخصي لا حقَّ للدولة في منعه إن وقع بالتراضي. ففي مثل هذه الصورة على الحاكم أن يأذن للفجار في ممارسة فجورهم، وأن يدافع عن حقهم المكفول بموجب النظام.
ومتى فعل الحاكم هذا، فإنه يكون مأجوراً مثاباً عند الله، لأنه التزم الشورى الإسلامية، وامتثل دين الله وشرعه الذي يأمره باحترام سيادة الأمة!
وكلما تخلى الحاكمُ عن آرائه الخاصة، فعمل على كفالة حرية العواهر، ودافع عن حقهنَّ القانوني في التكسُّب بفروجهن، فإن ذلك يكون أعظم في أجره وثوابه عند الله، لأنه -في موقفه هذا- إنما يمتثل أمر ربه الذي نهاه عن الاستبداد، وأمره باحترام رأي الأكثر. فدفاعه عن حرية الزناة والزواني هو حقيقة التقوى، لأنه مقتضى القيام بالأمانة التي أسنده الشعبُ إليه، والتي سوف يحاسبه الله عليها!
وحتى لا ينقص من أجره وثوابه شيءٌ، فإن عليه أن ينصب قضاةً من ذوي الأمانة والكفاية والتقوى، ممن يبغضون الاستبداد، ويحترمون رأي الأكثر، كي يكون ضمن مهامهم محاكمة ذاك الأب الذي ينتهك قانون الدولة المسلمة، فيمنع ابنته أن تبذل جسدها لعشيقها. فالقانون المستمد من سيادة الأمة قد كفل للبنت حرية بذل نفسها لمن شاءت! أفلا يستحق أبوها التجريم والعقوبة متى منع ابنته حقها؟
ومتى حاول الحاكم الالتفاف على القانون، فعاقب زانياً، أو حتى ضيَّق عليه، فإنه يكون آثماً عند الله، لأنه صار مستبداً يخرق سيادة الأمة، وينتهك حقاً كفله قانون الدولة لرعاياها. وعلى الشعب (( كله )) هنا أن يقف في وجه الاستبداد، وألا يسمح لحاكمه بانتقاص حقوق الزناة المكفولة لهم قانوناً ونظاماً!
والشعبُ حين يفعل ذلك، فإنه إنما يقوم بجزءٍ من شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويتصدى لوظيفة الاحتساب السياسي المقدسة.
ومن قام في وجه حاكمه وأمره بالتزام القانون، ونهاه عن المساس بالحقوق القانونية للزناة، فهو من أعظم المجاهدين. ولو قتله الحاكم، فهو مرشحٌ ليكون من أفضل الشهداء عند الله بعد حمزة بن عبد المطلب (إن صحَّ الحديث)!
لكن ماذا عن دور علماء الدولة المسلمة.
عليهم هنا أن يسعوا فقط عبر البرلمان لتغيير القانون، وما لم يتحقق لهم ذلك، فإن واجبهم أن يكونوا أعواناً للحاكم المسلم على نفسه. فهم -حتى وإن كانوا كارهين للزنا ويلتزمون تحريمه في خاصة أنفسهم- إلا أن واجبهم يقتضي أن يكونوا متجرِّدين للحقِّ ولو على أنفسهم.
عليهم تذكيرُ الحاكم بأن الشورى ملزمةٌ له، وعليهم أن يحثوهُ على الخضوع لرأي الأكثر، ويحذِّروه من مخالفة القانون المستمد من سيادة الأمة، ويمنعوه من انتهاك حقوق العواهر التي كفلت لهم بموجب النظام الشُّوري الإسلامي!
على العلماء أن يأمروا الحاكم المسلم أن لا يقف عند أيِّ آيةٍ من كتاب الله تأمره بمعاقبة الزواني. فإرادة الأمة هنا مقدمةٌ على نصِّ القرآن، وسيادة الأمة قبل الشريعةِ. لأن الشريعة ليست كائناً حياً يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، ويجلس على العرش!
على العالم الرباني الذي لا يخشى في الله لومة لائم أن يصدع بالحق في وجه الحاكم، وأن يذكره بسيرة عمر بن الخطاب، فيشرح له أن نتيجة التصويت تعني أن حماية حرية العهر صارت حقاً واجباً عليه. فلو عثرت عاهرٌ في سريرٍ بأرض العراق، فإن الله سوف يسائلُ أمير المؤمنين لماذا لم يوطئ لها ذاك السرير!
أحبتي:
هذا الكلام ليس مزاحاً ولا هزلاً. بل هو نتيجةُ تقرير من لو أحسنا بهم الظنَّ، فسنقول: أنهم يتحدثون بكلامٍ لا يفقهون معناه، ولا يدركون مغزاه ومآلاته.
هل فيما ذكرته مبالغةٌ، وإلزام للقائل بما لا يلزمُ.
لا...بل ما ذكر أعلاه هو مؤدَّى تقريراتهم وثمرتها. وأنا أعرض على أيٍّ واحدٍ منهم أن يشرح لنا ما إذا كان شيءٌ مما ذكرته لا يتفق مع ما قرَّروه. إلا أن يعودوا لمقولتهم المعتادة: (لا يمكن لشعبٍ مسلم أن يختار حرية ارتكاب الفواحش). وهي المقولة التي سأعرض لمناقشتها لاحقاً بإذن الله.
وإنما أحببتُ هنا البدء بهذه المقدمة التمهيدية قبل الدخول إلى المقصود، في مجموعة مقالاتٍ تنشر تباعاً في موقع (رؤى فكرية) بإذن الله حول هذه القضية وما يتعلقُ بها. وإن اتسع الوقتُ ويسر الرحمن أتبعتُ ذلك بمقالاتٍ عن خصائص النظام السياسي في دين الإسلام، والفروق الجوهرية بينه وبين النظم الوضعية المعاصرة.
المصدر : رؤى فكرية