الخطاب الإسلامي والمستقبل.. ضرورة لا ترف!
حين نتأمل مسيرة العقل المسلم، وتجربته الحضارية الفريدة؛ نجد أنه قد توالت عليه عبر عقود عدة أزماتٌ جسيمة، وتآمرت عليه قوى مختلفة من الشرق والغرب، وحورب بوسائل متنوعة؛ ما بين سياسية، وثقافية، واجتماعية، واقتصادية.. حتى فَقَد بعضًا من مناعته الذاتية، وتأثر- إلى حد كبير- بمحاولات التشكيك في ثوابته وجذوره، وانغلق على ذاته بعد أن كان يمدّ جسور الحوار مع سائر الحضارات، ويتفاعل معها دون ذوبان أو جمود..
السنوسي محمد
كاتب صحفي مصري
لقد انشغل العقل المسلم بحاضره وتاه فيه؛ حتى استغرقته همومه ومشاكله، وصار عاجزًا عن استشراف آفاق المستقبل، والتطلع إلى الغد المجهول، بل في بعض الأحيان لم يكن قادرًا على الإحاطة بحاضره، واستيعاب خرائطه وملامحه، ومعرفة جزئياته وتفاصيله.. فبدا حال المسلم المعاصر- للأسف- كمن يعيش في برج عاجي بعيدًا عن واقع الناس واهتماماتهم!
ولا يظنن أحد أن الحديث عن ضرورة استشراف المستقبل، وإعداد العدة له، هو مما يمكن التسامح فيه، والتغافل عنه.. فإن تجارب التاريخ تؤكد لنا أن من لا يحسن التخطيط لما هو آتٍ، ولا يحتاط لكافة الاحتمالات وتقلّب الأمور.. يكون معرّضًا دائمًا لردّة الفعل العشوائية، وبالتالي يكون مُعرضًا للتأثر بمخططات الآخرين ومؤامراتهم، ولن يستطيع الأخذ بزمام الأمور، وامتلاك المبادأة التي تمكنه من تجنب تكرار أخطائه، ومن الإفلات مما يُراد به ويُحاك ضده.
وللمرء أن يندهش حين يعلم أن الدراسات التي تُعنى باستشراف المستقبل، واستكناه حقائقه، قد تطورت في الدول الغربية، وصارت عِلمًا مكتمل الأركان والشروط والأدوات، يسمى «علم المستقبليات»، تقوم عليه مراكز أبحاث وجامعات تضم في تشكيلاتها تخصصات علمية مختلفة، بما يحقق تكامل المعارف وتساندها، ويوفر رؤية كلية واعية.. في حين أن الاهتمام بهذا العلم لم يعرف طريقه بعد إلى جامعاتنا العربية.. وتلك مفارقة لها رمزيتها، ودلالتها، وأيضا تبعاتها!
لا تكن أسير الزمن والجغرافيا!
إن المتتبع للخطاب الإسلامي- قرآنًا وسنةً- يتأكد له أن هذا الخطاب منذ بدايته لم يُعْنَ فقط باللحظة الراهنة، وكيفية التعامل معها، بل عُني- إضافة إلى هذا- بتوجيه الأنظار نحو المستقبل، وحثِّ الهمم لاستشراف الغد المجهول.. فمع تنزّل القرآن الكريم كان الحديث المتكرر، والتنبيه الدائم إلى الدار الآخرة، وما بعد الموت من جنة أو نار، وتأثير ذلك على حاضر الإنسان في الحياة الدنيا.
ليس هذا فحسب، بل تحدث القرآن عن الصراع بين الفرس والروم وطبيعة المواجهة بينهما، وأخبر عن انتصار الروم في بضع سنين، قال تعالى: {الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (الروم: 1-5). وفي هذا توجيه للمسلمين لمدِّ أبصارهم خارج حدودهم الجغرافية- وكذلك الزمنية- ومتابعة ما يجري فيها من تطورات وانعكاسات على علاقة المسلمين مع الآخرين، وعلى سير الدعوة الإسلامية في الداخل والخارج.
وجاءت قصة يوسف عليه السلام، حين تولى خزانة مصر ووضع الخطط لمواجهة المجاعة والقحط.. تدريبًا عمليًا على مواجهة الأخطار التي تلوح في الأفق، وكيفية التصدي للأزمات الاقتصادية والمجاعات، وتنفيذ الخطط الخمسية والعشرية.. وضرورة الاعتماد في ذلك على الحقائق والأرقام، والعمل الجاد المتواصل، دون تقاعس أو تواكل، وأيضًا دون تهويل أو تهوين..
وهذا يؤكد- من ناحية أخرى- أن الخطاب الإسلامي لا ينعزل عن هموم الناس ومشاكلهم، ولا يُعنى فقط بالجانب التعبدي، ولا يرضى أن يعتكف المسلم في زاوية من المسجد تاركًا حياته ومعاشه؛ بل الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعًا، يتفاعل مع الحياة ولا يخاصمها، ويتقاطع معها ولا ينعزل عنها، يأمر المسلم بعمارة الأرض ويجعل من ذلك دينًا يتعبد به المسلم لربه.
وقد تأكد هذا المعنى- شمولية الإسلام- في مواضع كثيرة من القرآن؛ يكفي أن نذكر في هذا المقام أن الله سبحانه قَرَنَ في آية واحدة بين عبادته والاستغفار والتوبة وبين عمارة الأرض، فقال: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} (هود: 61).
كما جاءت أحاديث النبي " صلى الله عليه وسلم" ، التي تُبشِّر بانتصار الإسلام، وأنه سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، وما من بيت مدر ولا وبر - أي: بيوت المدن، وبيوت البادية- إلا وسيدخله الإسلام، وأن المسلمين سينتصرون على اليهود في آخر الزمان، بعد قتال شديد يختبئ فيه اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي ورائي تعال فاقتله.. وكذلك أحاديث أمارات اقتراب يوم القيامة، والنذر الدّالة عليه؛ مثل: تبدل الأحوال، وانقلاب الموازين، وولادة الأمَة ربتها، وشيوع الفواحش، وانتشار الظلم، وضياع الأمانة.. جاءت هذه الأحاديث لتجعل أمام العقل المسلم صورة حاضرة لاحتمالات المستقبل، ومآلات الأحوال، ولتحثه على اجتناب ما يمكن أن يتسبب له في أزمات وعثرات، وتدفعه أيضًا لما يتعين عليه فعله لمواجهتها ودفع ضررها.
العقلية «الاتكالية»
حبيسةُ الماضي
لقد مرّت أمتنا الإسلامية بالكثير من الأزمات المتلاحقة والمتشابهة؛ بدءًا من الفتنة بين الصحابة رضي الله عنهم جميعًا، والصراع الحاد بين الأمويين والعباسيين، وما تأسس عليه من الاختلاف المذهبي البغيض، مرورًا بسقوط الخلافة الإسلامية في بغداد، ثم زوال دولة الأندلس بعد صراع الطوائف، ودسائس الملك العضوض، حتى سقطت الخلافة العثمانية، وتحولت الدولة الإسلامية إلى دويلات مفككة، تتناحر فيما بينها ولا تقوى أمام الأخطار الخارجية المتربصة، التي تستهدفهم جميعًا دون استثناء.. وغير خافٍ على أحد أن السقوط الثاني للخلافة الإسلامية كان مقدمة لما نعانيه اليوم؛ من تفرّق الكلمة، وتشتت الصّف، وضياع الهوية، والاستجابة لمحاولات التغريب والعَلمَنة، وذوبان الشخصية المسلمة في موجات الحداثة والعولمة.
ومع كل هذه الأزمات، التي أخذ بعضها بأيدي بعض، ونقلتنا من سيئ إلى أسوأ، لم نجد مَنْ يحسن دراستها، والوقوف على أسبابها، واستخلاص العبرة منها، بل غفلنا عن إدراك سنن الله الثابتة في نهوض الأمم وسقوطها، وسادت «العقلية الاتكالية»، العاجزة عن رؤية الأزمة في جذورها وأصولها، وانتشرت نظرية «المؤامرة»، التي ترمي بالمسؤولية الكاملة على الآخرين دون توجيه النقد إلى الذات، مع أن الضعف الذاتي- أو القابلية للاستعمار كما يسميه مالك بن نبي- يشكل العامل الأساسي لقبول التأثير من الآخرين، والتجاوب مع مؤامراتهم ومخططاتهم.. ولهذا كان القرآن حريصًا على لفت الأنظار إلى أهمية «العامل الذاتي»، سواء في تحقيق النصر أو حدوث الهزيمة، فقال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران: 165)، وقال: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد: 11).
ولم يكن بمقدور هذه «العقلية الاتكالية» أن تتعاطى بفهم وعمق مع ما يعتورها من نكبات، وما يصيبها من أزمات، حتى تطمئن إلى عدم الوقوع مرة ثانية في نفس الحفرة، ولا تُلدغ من جحر واحد مرتين (1)، بل عميت عن عبرة الأحداث، وتغافلت عن قراءة التاريخ، الذي من الممكن أن يتكرر إذا ما توافرت الدواعي والأسباب التي كانت من وراء حدوثه أول مرة.. وبذلك فقدَ العقلُ المسلم أولَ شرط لازم لاستشراف المستقبل ألا وهو «حسن قراءة التاريخ»، واستيعاب أحداثه، بما فيها من انتصارات وانكسارات، واستصحاب العبرة منهما للحاضر والمستقبل.
يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: «إننا لم نحسن دراسة ما أصابنا من هزائم فادحة، وما أقمنا حواجز ضد تكرارها، ولا يزال ناس منا مشغولين بأنواع من المعرفة لا تضر عدوًا ولا تنفع صديقًا، وتيار الأحداث الزاخر يلطم الوجوه، ويطوي جماهير بعد أخرى، ونحن لا نربط النتائج بأسبابها، وما فكرنا في دراسات ذكية جريئة لمعاصينا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا أدري: لماذا الخشية أو لماذا الجمود؟ هل مستقبل أمة من مليار إنسان شيء هيِّن؟ هل النكسات التي عرت رسالتها غير جديرة بالتأمل؟!» (2).
ولذا كان من أعظم آفات المسلم الخطاب الإسلامي المعاصر، لأنه يستنفذ طاقاته في التغني بأمجاد المسلمين، وحضارتهم، التي سادت الدنيا لعدة قرون، ونشرت العلم والمعرفة، وأرست قواعد المنهج التجريبي، الذي مهَّد لقيام الحضارة الغربية الحديثة بعد عصورها المتتابعة من الظلام والتخلف.. ولا يحاول أن يتخذ من أمجاد الماضي نقطة انطلاق، وعلامة يهتدي بها وسط أزماته الحالكة؛ فهو عاجز عن مواجهة الحاضر بمشكلاته، فضلا عن التطلع للمستقبل بآماله، كما أنه غير قادر على مدِّ البصر خارج حدود الزمان والمكان.. فالزمان والمكان يستوعبانه بدلاً من أن يستوعبهما هو، ويسخرهما للغاية التي من أجلها خلقه الله، واستخلفه في الأرض.
يقول الأستاذ عمر عبيد حسنة: «من إصابات العقل المسلم: عدم استشراف آفاق المستقبل على ضوء الماضي والحاضر، وفهم الحركة التاريخية، ومراقبة مجراها، ومن ثم معرفة مصبها مستقبلاً. وأعتقد أنه لا يجوز الهروب من النظر إلى المستقبل تحت عنوان «المستقبل بيد الله».. فتعطيل النظر إلى المستقبل، بعد أن أصبحت له دراساته، وعلومه، تحت شتى الاعتذارات، ليس من الدين، بل هو إصابة للعقل، ومجافاة للدين» (3).
ثمة سبب آخر يكبّل العقل المسلم، ويقف دون قراءة «استطلاعية» لحركة التاريخ، هو أنه توجد عشرات القضايا «المعلقة»، التي لم يتم حسمها، أو تقريب وجهات النظر حولها، ولا تزيدها الأيام إلا تعقيدًا وتشابكًا؛ الأمر الذي يهدد العقل المسلم بأن يظل دائرًا في دائرة مفرغة، وألا يواكب تجدد الحياة وتطورها.. ولا مفرّ في هذا الصدد من الاعتراف بأن الطرح الإسلامي حول هذه القضايا لم يكن على مستوى التحدي الحضاري، بل إن بعض وجهات النظر الإسلامية حول قضية ما قد يصل إلى حدّ التناقض!
خذ مثلا، الموقف من المرأة ودورها السياسي والاجتماعي، أو قضية الديموقراطية ونظم الحكم المعاصرة، أو التعددية في الفكر والممارسة، أو حقوق الإنسان وضوابط الحرية والإبداع، أو الأقليات والتعدد الطائفي والعرقي، ودور ذلك في النسيج الاجتماعي للمجتمع المسلم، أو حوار الحضارات وكيفية التعامل مع العولمة وتجنب مخاطرها.. ستجد أن هذه القضايا وغيرها، برغم ما قُدِّم فيها من دراسات واجتهادات متميزة، فإن إيجاد ما يقارب الإجماع حولها، وتقديم مبادئ حاكمة في التعامل معها، لم يتبلور بعد بصورة مناسبة، تمكّن من الانطلاق إلى مرحلة أخرى من قضايا الفكر الإسلامي وهموم الواقع المتجدد.
عقارب الساعة لا تتوقف!
إننا إذا كنا مَعنيين في «تجديد الخطاب الإسلامي» بتنقية التراث، وتهذيب ما به من آراء واجتهادات «بشرية» لا تتفق والخصائص العامة للإسلام، فإننا معنيون- كذلك- بمواجهة التحديات، واستشراف المستقبل؛ حتى لا نقع في أسر اللحظة الراهنة، ونغرق في دوامة الحياة التي لا تتوقف.
أدري أن محاولة الحديث عن المستقبل، واستكشاف خرائطه، تعدّ نوعًا من «الترف الفكري» في ظل الواقع الذي يعجّ بمشاكل لا حصر لها، ولا حل لها يبدو قريبًا في الأفق.. وفي ظل العقليات التي ذهلت عن حاضرها، وفقدت الوعي بذاتها وإمكاناتها.. وفي أجواء الفتاوى التي تكبّل العقل المسلم، وتحاصره في دائرة ضيقة بعيدًا عن الفكر الإسلامي الرحب، وتعزله عن تيار الحياة المتدفق.. غير أنه لا مندوحة عن توجيه الأنظار نحو الغد، وانتزاع العقل المسلم مما يعكر عليه صفاءه ونقاءه، ولا بديل عن فتح آفاق جديدة أمامه من الفهم والفكر، وحثه دائمًا على التجديد والإبداع مع المحافظة على الأصول والثوابت، ودفعه للتواصل مع سائر الثقافات والحضارات مع التمسك بالخصائص الذاتية والهوية الإسلامية.. وما ذلك على المؤمنين ببعيد.
إن أعظم ما في الحديث عن المستقبل، ولفت النظر إليه، أنه انتزاع للإنسان من وهدة اليأس والإحباط، مهما كان الواقع مشبعًا بالمثبطات.. كما أنه إيقاظ للهمم، وتفجير للطاقات الكامنة، وتحريك للنفوس الخاملة..
فهو ينادي هذه النفوس ويلحّ عليها: أن أسرعي الخطو.. وغذّي السير.. فعهد النوم قد مضى.. والشمس تتحرك لا تنتظر القاعدين.. والكون لا يكفّ عن الدوران.. وعقارب الساعة أبدًا في حركة وانتظام.. وزمن البدائية والعشوائية لا محلَّ له من النجاح و«الإعراب»!
الهوامش
1-روى أبوهريرة رضي الله عنه عن النبي " صلى الله عليه وسلم" أنه قال: «لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين» (متفق عليه).
2- مجلة «الأمة» القطرية، ص12، عدد 69، رمضان 1406هـ.
3- مراجعات في الفكر والدعوة والحركة، ص107، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط2، 1414هـ.