تربية العزة في الإسلام
العزة في اللغة مأخوذةٌ من العز، وهو: ضدّ الذل، تقول: عزَّ يَعِزُّ عزًا فهو عزيز، أي: قوي، والعزيز من صفات الله -عز وجل-، قال الزجاج: الممتنعُ فلا يغلِبهُ شيء، وقال غيرُه: هو القوي الغالب على كل شيء. والعزة: حالة مانعة للإنسان من أن يُغلب. مِن قولهم: أرضٌ عزاز. أي: صَلبة. قال تعالى: {أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}، (النساء: 139) وتعززَ اللحم: اشتدَّ وعز، كأنه حصل في عزازٍ يصعبُ الوصولُ إليه، والعزيزُ: الذي يَقهرُ ولا يُقهر. قال تعالى: {إنَّهُ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}، وقال سبحانه: {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}. والعزة في اللغة تدور حول معاني: الغلبة والقهر والشدة والقوة والرفعة والامتناع ونفاسة الشيء وعلوِّ قدره. والتعزيز هو التقوية، والعزيز اسم من أسماء الله الحسنى، أي: الغالبُ القويُّ الذي لا يَغلبه شيءٌ، وهو أيضًا المُعزُّ الذي يَهَبُ العزة لمن يشاء من عباده. والإيمانُ بهذا الاسم يعطي المسلم َشجاعةً وثقةً كبيرةً به, لأنَّ معناه: أنَّ ربَه لا يُمانَع ولا يُردُّ أمره، وأنه ما شاء كان، وإنْ لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن وإنْ شاء الناس.
رشيد الحسن
إمام وخطيب في وزارة الأوقاف الكويتية
العزة في الاصطلاح: حالة مانعة للإنسان من أن يغلب، وهي إحساس يملأ القلب والنفس بالإباء والشموخ والاستعلاء والارتفاع.
وهي ارتباطٌ بالله وارتفاعٌ بالنفس عن مواضع المهانة والتحرر من رِقِّ الأهواء، ومن ذُلِّ الطمع، وعدم السير إلا وفق ما شرع الله ورسوله " صلى الله عليه وسلم" .
العزة هي الرفعة والبعد عن مواطن الذل والمهانة. فالله يأمرنا أن نكون أعزاء، لا نذل ولا نخضع لأحد من البشر، والخضوع إنما يكون لله وحده، فالمسلم يعتز بدينه وربه، ويطلب العزة في رضا الله – سبحانه - يقول عمر بن الخطاب "رضي الله عنه" : كنا أذلاء، فأعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله. والعزة التي أتحدث عنها: هي حالة نفسية تصاحبها قوة معنوية، وتنبثق منهما أقوال وأفعال تدل على الشعور بالفخر والاستعلاء والاستقلال عن الكافرين، وصدق الانتماء لهذا الدين مع تواضعٍ ورحمة بالمؤمنين. والغاية منها: الرفعةُ بلا تكبر، وهي نابعةٌ من الخيرية التي يَنتجُ عنها الخيرُ للبشر من مناصرة للفضيلة ومقارعة للرذيلة واحترام للمثل العليا. والعزة ليستْ تكبرًا أو تفاخرًا، وليست بغيًا أو عدوانًا، وليست هضمًا لحقٍ أو ظلمًا لإنسانٍ، وإنما هي الحفاظُ على الكرامة والصيانة لما يجبُ أنْ يُصانَ، ولذلك لا تتعارضُ العزة مع الرحمة، بل لعلَّ خيرَ الأعزاء هو من يكون خيرَ الرحماء، وهذا يذكرنا بأنَّ القرآنَ الكريم قد كرَّرَ قوله عن رب العزة: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} تسعَ مرات في سورة الشعراء، ثمَّ ذكرَ في كلٍّ من سورة يس والسجدة والدخان وصفَيْ: {الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} مرة واحدة.
والعزة نوعان: -عزة ممدوحة. -عزة مذمومة.
فالعزة الممدوحة هي التي لله ولرسوله وللمؤمنين، فهي عزة حقيقية دائمة؛ لأنها من الله وبالله الذي لا يُغالَبُ ولا يُقاوَم سبحانه {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}.
-أما العزةُ المذمومة فهي التي يتخذها الكافرون، قال تعالى: {بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ}. (ص: 2) وهذا وإنْ كان ظاهرُه العزة؛ ولكنْ في باطنه الذلةُ والعذابُ، ويرجعُ الأمر في حقيقته إلى الذلة المذمومة، قال سبحانه حكايةً عن حال الكافرين {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} (مريم: 81-82). وقال تعالى {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الكَرِيمُ} (الدخان: 49) ومعناه: ذق بما كنت تَعُدُّ نفسك في أهل العز والكرم، كما قال تعالى في نقيضه: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (المرسلات: 43)، وقد نزلت الآية الأولى.. في أبي جهل كما قال الزجاج وكان يقول: أنا أعزُّ أهل الوادي وأمنعُهم، فكان ردُّ الله سبحانه وتعالى، ذقْ هذا العذابَ إنك أنت القائل أنا العزيز الكريم.. ومفهومُ العزة يختلفُ باختلاف العقيدةِ التي يحملُها الشخص، فيوجدُ هناك المفهومُ الخاطئُ للعزة، والمفهومُ الصحيحُ لها.
فالمفهومُ الخاطئ: هو الذي تحدثتْ عنه الآية ُالمباركةُ حكايةً عن المنافقين في صدر الإسلام والذي يحمله كثيرٌ من الناس، حتى في زماننا الحالي، وهو أنَّ العزة تتمثلُ في كثرة الأموال والأولاد والعشيرة، والجاه والسيطرة على الآخرين والقوة والبطش بهم والاستيلاء عليهم وقهرِهم، حتى وإن كان ظلمًا وعدوانًا.
أما المفهوم الصحيح للعزة فهو المفهوم الذي تحدث عنه القرآنُ والسنةُ النبوية. قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ}. وهذه الآية نزلتْ في مقابلة قول المنافقين: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}، يريدون أنهم الأعزُّ، وأنَّ رسولَ الله والمؤمنين الأذلون، فبيَّن اللهُ تعالى أنه لا عزةَ لهم، فضلا عن أنْ يكونوا هم الأعزين، وأنَّ العزة لله ولرسوله وللمؤمنين. ومقتضى قول المنافقين أنَّ الرسولَ " صلى الله عليه وسلم" والمؤمنين هم الذين يخرجون المنافقين، لأنهم أهلُ العزة، والمنافقين أهلُ الذلة، ولهذا كانوا يحسَبون كلَّ صيحةٍ عليهم، وذلك لذلهم وهلعهم، وكانوا إذا لقوا الذين آمنوا، قالوا: آمنا، خوفًا وجبنًا، وإذا خلوْا إلى شياطينهم، قالوا: إنا معكم، إنما نحن مستهزئون! وهذا غايةُ الذل. أما المؤمنون، فكانوا أعزاءَ بدينهم، قال الله عنهم في مجادلة أهل الكتاب: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}، فيعلنونها صريحة، لا يخافون في الله لومةَ لائم. وبمقتضى العزة الممدوحة يجب على المسلم أن يعتزّ بدينه ويرتفع بنفسه عن مواضع المهانة، فلا يُريق ماءَ وجهه ولا يَبذُلُ عِرضَه فيما يُدنسه، فيبقى موفورَ الكرامة مرتاحَ الضمير مرفوعَ الرأس شامخَ العرين سالمًا من ألم الهوان متحررًا من رقِّ الأهواء ومن ذلِّ الطمع، لا يسيرُ إلا وفقَ ما يُمليه عليه إيمانُه والحقُّ الذي يحمله ويدعو إليه, يقول أحدُ الصالحين: ثلاثة من أعمال المراقبة: إيثارُ ما أنزل اللهُ، وتعظيمُ ما عظّم اللهُ، وتصغيرُ ما صغّر الله. قال: وثلاثةٌ من أعلام الاعتزاز بالله: التكاثرُ بالحكمة وليس بالعشيرة، والاستعانةُ بالله وليس بالمخلوقين، والتذللُ لأهلِ الدين في الله وليس لأبناء الدنيا.
إنَّ التربية َعلى العزة أمرٌ بالغُ الأهمية؛ لأنَّها تربيةٌ على معالي الأخلاق ومحاسنِها، لاسيما أنَّ هذه الأهميةَ تزداد في هذه الأزمنةِ التي تَعجُّ بالفِتن والمِحن، حتى أصبحَ الذلُّ والخورُ والهوانُ يَدبُّ في الفرد قبلَ الأمة، وما ذلك إلا لأنَّ الأمةَ ابتعدت عن كتابِ ربها، وسنةِ نبيها " صلى الله عليه وسلم" ، والنهلِ من معينهما.
ومن عجب أنَّ الله َيريدُ لهذه الأمةِ العزة َوالرفعةَ، ثم هي تريدُ الذلَّ والهوانَ والصَغار، لقد أراد اللهُ لأمة محمد " صلى الله عليه وسلم" أنْ تكونَ عزيزةً لأنه تعالى أراد لها أنْ تبنيَ الأرضَ وتعمرَها بالخير، ومن المعلوم أنه لا يبني الأرضَ ذليلٌ وإنما يبنيها القويُّ العزيز.
والإسلام لا يأمرُ المؤمنين بالعبادات والأخلاق أمرا قانونيا جافا، أو يعللها لهم تعليلا عقليا باردا، وإنما يربيهم عليها تربيةً أخلاقية خاصة؛ فنرى القرآنَ يبينُ جلالَ العبادةِ أو الفعل الأخلاقي من صلاة وصوم، أو صدق أو بر، عقلا ويكررُ الحديث عنه في مواضعَ متعددة، بإظهار محاسنه أو أمرٍ به، أو ثناءٍ على أصحابه، فينغرسُ حبُّه في القلب، وتتوجهُ له النفسُ لتؤديَه، وكذلك يبينُ ربُّنا تبارك وتعالى سيئاتِ الشر ويكررُ الحديث عنه بينَ بيانٍ لفساده أو استنكارٍ لفعله، أو ذمٍّ لصاحبه. وبذلك يتحسسُ المرء جمالَ الخير ويميلُ إليه، ويتحسسُ قبحَ الشر عقلا وقلبا فيأنفُ منه.
فكان مِنَ المهمات التي تتحتمُ على الأمة الإسلامية بأسرها أنْ تتربى على معاني العزة، وأنْ تحيي هذه الخَصلة في نفوسِ أبنائها، ولنْ يستطيعَ فعلَ ذلك إلا الغيورون على دينهم.
ومجالاتُ هذه التربية واسعةٌ شاملةٌ لجميع البيئات، ولذلك يتحتمُّ على الكلِّ تربيةُ أفرادهم على العزة، الأسرةِ والمدرسةِ، والعلماءِ والمفكرين عبرَ دروسهم ومشاركاتهم في الإعلام المسموع والمرئي.
ومن فضائل العزة أيضا:
أنها تربِط العبدَ بالله لأنَّ اللهَ هو الواهبُ الحقيقيُّ لها فيرتبطُ العبدُ بربه إيمانا ويقينا ودعاءً وتوكلا وخوفا ورجاء.
ومنها: أنَّ هذه العزةَ لا تُنال إلا بطاعة الله، وطاعةُ الله مأجورٌ عليها صاحبُها. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري: وأمّا قولُه تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعاً} فمعناه مَنْ كانَ يُريد أنْ يُعز فليكتسبِ العزة من الله فإنها له، ولا تنالُ إلا بطاعته، ومِن ثَمَّ أثبتها لرسوله وللمؤمنين فقال في الآية الأخرى: {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}.
ومن فضائل العزة: أنَّ المتصفَ بها بعدَ كونه مستحقا لها بتحقيقِ سببِها الرئيسِ وهو طاعة الله قد شرَّفه اللهُ عز وجل بالنسبة إليه، ومَنْ أحسنُ ممن انتسبَ لربِّ العزة والجلال.
ومنها: أنها تُحققُ للفرد المسلم قوتَه وشرفَه وكرامتَه وكبرياءَه، مِنْ غير ِتعدٍ وترفُّع على الخلق بغيرِ حق، فهي لا تجعلُه يتخبطُ خبط َعشواء، ويذهبُ يمنة ويسرةً في طلبها وتحقيقِها، بل تجعلُه متّزنا لأنَّ مصدرَها واحدٌ، وأسبابَ تحقيقها معروفةٌ محدودة.
ومن فضائلها: أنها تُحقق للأمة المجدَ والسؤدَدَ لتتبوأَ مكانتَها اللائقةَ بينَ الأمم إذا طُبقت بمعانيها الصحيحةِ، وابتعدت عن أسباب الذل والهوان. وهو ماحذَّر منه الرسولُ " صلى الله عليه وسلم" بقوله: «إذا تبايعتم بالعِينة، وأخذتم أذنابَ البقر، ورضيتم بالزرع وتركتمُ الجهادَ سلطَ اللهُ عليكم ذلا لنْ يَنزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم». وسببُ هذا الذلِّ، واللهُ أعلم، أنهم لمَّا تركوا الجهادَ في سبيل الله الذي فيه عزُّ الإسلام وإظهارُه على كل دين، عاملهمُ الله بنقيضه وهو إنزال الذِّلة بهم فصاروا يمشون خلفَ أذنابِ البقر، بعد أنْ كانوا يركبون على ظهور الخيل التي هي أعزُّ مكان. ففتنةُ الناس بالدنيا وما فيها مِنْ أموالٍ وحرثٍ وزرع إذا كانت مقدَّمةً على أوامر الله وتركِ نواهيه كانت الحقيقةُ المرةُ، وهي الذل.
ألا إنما التقوى هو العزُّ والكرم وحبُّك للدنيا هو الذلُّ والعدم
ومن فضائل العزة أيضا: أنها تحمي المسلمَ من الانحراف، وذلك حين يستعلي فيها المسلمُ بعزة نفسه على شهواته وملذاته المحرمة، فلا يفعلُها خوفا من الله، وترفُّعا عن مواطن الحمق والرذيلة والمهانة.
ومن فضائلها: أنها تحررُ المسلمَ من رقِّ الأهواء والركوع والخضوع للمخلوقين، وتجعلُه لا يسيرُ إلا وفق ما شرع اللهُ ورسولُه.
كما أنها تحررُ المسلمَ من ذلِّ الطمع والجشع الذي يجعلُه عبدا لدرهمه وداره ومركبه، فتجدُه غيرَ مقتنع بما قسمَ اللهُ له، حتى يذهبَ لأكلِ الحرام مِن دونِ أدنى مبالاة، تعس وانتكس...
ومن فضائلها أنها تحققُ للمسلم إيمانَه بالله تعالى حينما يُذلُّ نفسَه وجسدَه بين يديْ مولاه ويمرغُ وجهَه في الأرض لخالقه. ومقابلة ُعزةِ الله بذلِّ العبد مِنْ أشرفِ المواطن وأحسنِها لأنَّ الله خلقَ عبادَه من أجلِ أنْ يُعزَّهم بطاعته، ولا يكونُ ذلك إلا بالتذللِ له سبحانه.
كما أنَّ العزةَ تحققُ للمسلم كيانه وشخصيته في ظلِّ تعاليمِ الإسلام، وتنظيمِ الحياة وُفقَ ذلك في كافة المجالات.
وتحقق له ما يُوافقُ فطرتَه السليمةَ التي خلقه اللهُ عليها وما يحتاجُه في تلبية النقصِ والتقصير الحاصليْن من جرَّاء وقوعِ المرء في أوحال الدنيا ورذائلها.
ومن فضائل العزة أنها تحققُ للأمة الإسلامية مكانتَها بين الأمم فتجعلُها قائدة لا مَقودة وسيدة لا مسودة.
وتمكنُ مَنْ تمسك بها من الذود عن حمى الإسلام في كل مكان، فلا يُمسُّ جنابُه مادامت فيه تلك العزة.
كما تربي أيضا على قول الحق وإقامة العدل بالعلم، وإتباع العلم بالعمل.
وتجعلُ من أفرادها دعاةً إلى الخير على الحق مُشفقين على الخلق.
ومِن فضائلها أنها تُحققُ للجماعة المؤمنة الترابطَ بين أفرادها، فالأخوة الايمانيةُ الحقيقيةُ التي تذوبُ في ساحتها الشعاراتُ والمصالح، شعارُها التواضعُ واللينُ والمحبة والشفقة، والمناصرة والنصحُ من غير فضيحة، كما تُعين على نصرة المظلوم وردعِ كيد الظالم ومحاربةِ الغاشم.
وإذا كانتِ العزةُ من حيث هي قائمةً بين الإثبات والنفي، فإنه لابدَّ مِن إثباتِ العزة المحمودة في النفس، لأنَّ العزة المنفية تتعلقُ برذيل الأخلاق، مِن كِبْر وذُلٍّ وهوان وضعفٍ، فلو نفى المرءُ عن نفسه الكبرَ وجميع الأخلاق الرذيلة لم يكف ذلك في تحقيق المقصود بل لابدَّ من إثبات معنى القوة والكرم والشرف وغيرِها من كريم الصفات في النفس، وهي وسواها من مقومات العزة الحقيقية، والإسلامُ يحث على مكارم الأخلاق قال تعالى {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا...}
فليس غاية الأمر في تزكية النفوس عموما كفَّها عن مطالبها غير المباحة بل لابدَّ مِنْ إتمام مطالب التقوى، فالذي يوقِف داعيَ السوء والشرِّ مِن نفسه ويمنعُها عنه عاملًا على إتمام التقوى هو الزكي.
هذا وإنَّ المتأملَ في القرآن ِالكريم يُدركُ اهتمامَ القرآن ببناء شخصية الفرد المسلم بناءً قويا ولذلك نجد أنَّ الإسلامَ قد أحاط المرءَ منذ أنْ كان حَملا في بطن أمه بسياجٍ من العزة متين فلا يمارسُ مع أمه الذلَّ، أو أيَّ نوع من الإهانة كالضرب والشتم مثلا، لكيلا يصبحَ ذليلا في يومٍ ما، لأنه من المعلوم أنَّ مثلَ هذه العواملِ تؤثرُ على أعصابِ الأمِّ في هذه المدة من استقرارٍ واضطراب، وأمن وخوفٍ وسرور وحُزن، وتؤثرُ على حملها تبَعا لذلك.
وكذلك إذا أصبحَ الولدُ يافعا لا يُمارس معه أيُّ مظهر منْ مظاهر الذلِّ، بل على الأب أنْ يربيَه على الشجاعة والكرم والعبادات والأخلاق الفاضلة التي منْ شأنها أنْ تقودَه إلى العزة، ويمتنعَ عن ضربه أو شتمه أو الاستهزاء به أو تربيتِه على الجُبن والبُخل وتركِ الطاعات والأخلاق الذميمة التي مِن شأنها أنْ تقودَه إلى المذلة والهوان.
ولو نظرَ المرءُ نظرةَ تأمل إلى فترة العهد المكي وما صاحبَها من أحداث لوجد أنَّ القرآنَ كان يوجه إلى ترسيخ معانيَ العزة في نفسِ المسلم، وقد كان اهتمامُ القرآن وعنايتُه بهذا الجانب متنوعا على أربع هيئات؛ فمرةً يذكرُ لفظ العزة تصريحا، وأخرى يَذكر اللفظ الذي يؤول معناه إلى عزة، وثالثةً يذكرُ السببَ الذي مِن شأنه أنْ يكونَ جسرا مُوصلا إلى بوابة العزة، ورابعةً بذم أضدادها ومقابلاتها.
وعموما فقد وردتْ لفظةُ العزة ومشتقاتهُا في القرآن الكريم مائة وتسعَ عشرة مرة في ثمانٍ وأربعين سورة، كان نصيبُ الآيات المكية منها للفظ الصريح أكثرَ من الآيات المدنية، وذلك مِن أجل تأسيس معنى العزة في النفوس. والله أعلم.
وأما آياتُ العزة المدنية فقد كانت صريحة في طلب العزة وتهييج نفوس المؤمنين على اكتسابها، والترهيب من تركها أو طلبها من غيرِ مظانِّها، ولا أدلَّ على ذلك من آيتي سورة النساء وسورة المنافقون، فقد كانت في معرِض الحديث عن المنافقين وذمِّهم، بسبب تعزّزهم باليهود قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} (النساء: 139)، وردَّ ادعاءهمُ الباطلَ بأنهم أصحابُ شرف وعزة بقوله تعالى: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ...}، وجاءت آية سورة ِالمائدة تصبُّ في نفس الاتجاه {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (المائدة: 54) هذا وقد وردت لفظة العزة في القرآن الكريم اثنتين وتسعين مرة، كان نصيبُ المكي منها ثمانيَ وأربعينَ آية، وكان لهذا الاهتمام المكي بهذه اللفظة حكمة ٌبالغة من الله عز وجل، وهي أنَّ الله أراد أنْ تمتلئَ أسماعُ المؤمنين بهذه اللفظةِ، وترسخَ معانيها في أذهانهم، فيتربون على حبها في بداية الأمر، حتى يسيطرَ عليهمُ اليقينُ بعزة ربهم، ويستشعروا القوةَ في أنفسهم ويعتزوا بمن له الكبرياءُ وحده في السموات والأرض، ويتأبوْا عل الهوان حين يأتيهم من أيِّ مخلوق، ويفزعوا إلى الله ليُعزَّهم بعزته.
وأما عن دور الأسرة في تربية العزة فإننا نرى ولخطورة دورها أنَّ الله لمْ يخترْ لنبيه موسى عليه السلام أنْ يتربى إلا عندَ فرعون الطاغية، وذلك أنَّ ما سوى بيت فرعون وآل فرعونَ من بني إسرائيل بيوتٌ ذليلة ٌمضطهدة يُقتل فيها الوليدُ الذكر، وتُستحيا فيها الأنُثى حتى تكبرَ لتخدمَ في بيوت فرعون، وآل فرعون.
ويكمُنُ دورُ الأسرة في التربية على العزة بالالتزام بتعاليم الإسلام ظاهرا وباطنا، ومن ذلك:
-أولا: تربيةُ النشء على الإيمان بالله أولا، وأنه هو الذي خلقنا، فلا نتوجهُ لغيره، وأنه سبحانه الذي يستحقُّ منا العبادةَ والشكر، وتعويدُ النشء عند مُلماته البسيطةِ أو الصعبة على الالتجاء إلى الله سبحانه، وتربيتُه على الإيمان بملائكة الله ورسلِه وكتبه واليوم الآخر والقدَر خيرِه وشرِّه، فكلُّ هذا مِنْ شأنه أنْ يُربيَه على الاعتزاز بالله والارتباط به.
ثانيا: تربيتُه على العبادات الأساسية، وتنميةُ المخزون العباديِّ لديه، كالصلاة وإيصالِ الصدقة والذِكر وزيارةِ الأرحام، لأنَّ الطاعة تكون زادا للإنسان في تحصيل العزة كما قال {مَن كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} (فاطر: 10).
ثالثا: تربيتُه على مُدارسة سيرة النبيِّ " صلى الله عليه وسلم" العطرة وأصحابهِ الكرام والسلف الصالح، ومَلءُ قلوبهم بحبهم والاقتداءِ بهم، وتنميةُ الاعتزاز بهم؛ وذلك لأنَّ في دراسة السيرة النبوية العطرة تقويةً للإيمان وزرعًا لقيَم الدين في النفس، وتعويدًا على مكارم الأخلاق، وثباتًا على الحق، وتمسكا بالإسلام، وذلك من شأنه أنْ يُنشئ جيلا صالحا عزيزا.
رابعا: تربيتُه على خُلُق العفة عما في أيدي الناس، فالتعففُ عما في أيديهم يترتبُ عليه عدمُ إذلال نفسه تجاهَ الآخرين، أو أنه لا يُشعره بدونيته بينهم، بل بعزته وشموخه وكرامته، فلا يأخذُ وهو ذليلُ النفس، بل يأخذُ وهو مرفوعُ الرأس، ويُعطي وهو مرفوعُ الرأس.
والتعففُ عما حرَّم اللهُ يترتب عليه رضا الله وعدمُ سخطه عليه؛ لأنَّ التعففَ الذي هو بمعنى تركِ المعاصي كبيرِها وصغيرِها يزيدُه عزة ورفعة عندَ الله وعندَ الناس، والمعصية لا تزيدُه إلا ذُلا وهوانا عندَ الله وعند خَلقه، قال الحسنُ رحمه الله: وإنْ هملجتْ بهمُ البراذينُ، وطقطقتْ بهمُ النعال، إنَّ ذُلَّ المعصية لفي قلوبهم، أبى الله إلا أنْ يُذلَّ من عصاه.
ألا ترى أيها الأخُ القارئ كيف يَنفِر العقلاءُ ممن يَفعل المعصيةَ أمامهم، فكيف بالله عز وجل وهو مُطّلعٌ على الخلق ولا يغيبُ عنه شيءٌ من أفعالهم وأقوالهم، وهو المستحقُّ للخشية جلَّ جلالُه.
خامسا: امتثالُ الأبوين لمنهجية القدوة الصالحة في البيت، التي مِن شأنها تربيتُهم على الفضائل واكتساب الأخلاق الحميدة من أبويهم. ومنها العزة.
سادسا: التعاملُ السليمُ مع الأبناء في معالجة أخطائهم فالأسرةُ التي تُربي أبناءها في معالجة أخطائهم بالضرب والصياح وعدمِ مجالسة الكبار أو عدم الإجابة على أسئلتهم، فإنها بذلك تورثُ عند الأولاد فُقدانَ الثقة التي هي مصدرُ أمانهم في المستقبل، وتتسببُ في ضَعف الشخصية التي مِن شأنها أنْ تحققَ لهمُ الذلَّ في ذواتهم بدلا مِن العزة.
سابعا: تعويدُهم على مكارم الأخلاق وصفات الرجولة كالكرم والشجاعة والعزة وحسن التعامل والذوقِ الرفيع، فلا يقاطعُ متحدثا، ولا يسخرُ من أحد، ولا يرفعُ صوتَه على مَنْ أمامَه، ويعتذرُ عن الخطأ الذي يَصدر منه بسرعة، ولا يتجشّأ أمامَ أحد متعمدا، وغيرِها من الأفعال الأخرى.
وتأتي أهميةُ المدرسة بعد أهميةِ البيت في تربية العزة من حيثُ إنَّ الناشئَ يقضي ربعَ يومه تقريبا فيها ولمدة سنوات طويلةٍ من عمره، ولاشكَّ أنَّ دورَها رائدٌ في التربية مِن هذا الباب.. ولأنَّ المدرسة تعتمدُ في تدريسها على التلقين المُحاط بوسائلَ مساعِدة كوجود زملاءَ للنشء، وإمكانية إخراج طاقاته الكامنة في أكثرَ مِن نشاط وأكثرَ مِن وسيلة.
وأخيرا عزيزي القارئ إذا عرفت أنَّ اللهَ هو المُعِزّ، فاعلم أيضا أنَّ الناسَ لو اجتمعوا جميعا على أنْ يرفعوك درجة لا يستطيعون، وإذا رفعك الله عز وجل درجة أو أكثرَ فلا يستطيعُ أهلُ الأرض أنْ يُنزلوك. ومعلوم أنه: إذا عرفتَ أنه المعزٌّ لم تطلبِ العز إلا بطاعته.
قال بعضُ الصالحين: لو اجتمعَ الخلقُ على أنْ يُثبتوا لأحدٍ عزًا فوقَ ما يُثبته اليسيرُ من طاعته لما قدروا، لا تُعَزُّ إلا بطاعة الله... أَعِزَّ أمرَ الله يُعزَّك الله، العاملُ الوحيدُ الذي يرفعُك ويخفضك هو الطاعة والمعصية، كلما أطعت الله ازددت عزا، وكلما عصيته هُنت عليه.
أهم المراجع:
- كتب التفسير
- العزة في القرآن الكريم، وائل بن محمد بن علي جابر.
- الهزيمة النفسية عند المسلمين، د.عبدالله الخاطر.
- العزة، محمد الهبدان.
- العزة، عبد الرحمن بن فؤاد الجار الله.
هي ارتباط بالله وارتفاع بالنفس عن مواضع المهانة والتحرر من رق الأهواء