صحيفة المدينة والتسامح الديني
في اليوم الذي أعلنت فيه تركيا قرارها بمنع ارتداء الحجاب لموظفات الدولة أو الشركات أو الجامعات ومنعت إطلاق اللحى كان قدر صدر عن الرئيس الأمريكي بيل كلينتون قراراً بالسماح لأي مسلمة بأن ترتدي الحجاب وكذلك بإطلاق اللحية للرجال وأداء العبادات وأن لا يتعرض إنسان في المجتمع الأمريكي للمضايقة بسبب دينه.
أهـو حقاً تسامح أمريكي حقيقي؟ ولماذا يتسامح الأمريكيون وتضيق صدور العسكر والعلمانيون الأصوليون في العلمانية من الحجاب واللحية وأداء العبادات؟ نحن لا نشكك في أن القرار الأمريكي رائع ويستحقون عليه الشكر، ولكننا يجب أن نتوقف عند هذا الأمر فهل هذا التسامح حقيقي؟ وهل أمريكا أو غيرها من دول الغرب بعيدة عن قرارات العسكر؟
سأترك الإجابة عن هذه الأسئلة لأعود بالقارئ الكريم إلى حقيقة التسامح الديني الذي لم يعرفه العالم مثله. التسامح الديني هو ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود حينما قدم المدينة المنورة وكتب بينه وبينهم عهداً منحهم فيه حق ممارسة شعائرهم الدينية وحرية التصرف في أموالهم، وطالبهم بأن يكونوا يداً على من يريد المدينة بسوء. والتسامح الديني هو استقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنصارى نجران واستضافتهم في مسجده صلى الله عليه وسلم وإكرامه والحوار معهم. ولقد شهد بعض العلماء الغربيين بهذا التسامح حيث من المشهور ما قاله جوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب بأن العالم لم يعرف فاتحاً أرحم من العرب وأكثر تسامحاً.
ومن عجيب أن هذا التسامح لم يقابله قط تسامح مثله فالصليبيون حينما هجموا على البلاد الإسـلامية مارسوا جميع أنواع القتل والوحشية فقد وصلت الدماء في بيت المقدس إلى الركب حينما دخلها الصليبيون. واليهود وما أدراك ما يهود لقد ارتكبوا ومازالوا يرتكبون المجازر لتثبيت وجودهم في فلسطين. ولم يكن الاستعمار الغربي أقل وحشية عن الغزو الصليبي فقد عرف عن القائد الفرنسي بيجو ما سمي بالأرض المحروقة وغير ذلك من الوسائل والإرهاب.
هل نجحت الدعاية التي أرادتها وسائل الإعلام بإظهار عسكر تركيا بأنهم أقل تسامحاً من الرئيس الأمريكي، وهل حقاً يغيب عن الغرب المؤيد للعسكر ما يفعله العسكر. فهم بعد أن قرر العسكر تقليص سنوات التعليم الديني وظهر أن تركيا في حاجة إلى مبالغ كبيرة لتوفير الصفوف والمدارس والمعلمين فوافق البنك الدولي -الذي تشرف عليه الدول الكبرى – على تقديم مساعدات مالية حجمها نحو بليون ونصف البليون دولار موزعة على مدى ثلاث سنوات.(الحياة ، 6/9/1997م) فهل ننخدع بهذه الحركات التي تظهر سماحة أمريكا وتعصب العسكر وتحجرهم؟
وفي الوقت الذي يصرح فيه الرئيس الأمريكي تلك التصريحات الرائعة بالسماح للنساء بالتحجب والرجال بإطلاق اللحية ومنع أي ممارسة تدل على التعصب الديني يحدث في الولايات المتحـدة ما يشير إلى ظهور موجة من التعصب ضد المسلمين. فقد كتب فهمي هويدي مقالة في مجلة المجلة(21-27سبتمبر 1997م) يشير إلى بعض ممارسات السلطات الحكومية الأمريكية ضد المسلمين وذكر بعض الشخصيات العلمية الإسلامية التي تعرضت للاعتقال والسجن. ومن هؤلاء الدكتور حسام أبو جبارا " الفلسطيني المحتجز في مدينة تامبا بفلوريدا،….والدكتور مازن النجار في المدينة نفسها. وذكر هويدي قصصاً أخرى تتناول صوراً من اضطهاد بعض المسلمين في أمريكا.
وكتب بول فندلي في هذه الصحيفة بعنوان (في أمريكـا.... مكارثية جديدة ضد العرب والمسلمين) (المدنية المنورة 21جمادى الأولى 1418هـ) وأشار إلى بعض الحوادث التي تدل على أن تصريحات الرئيس الأمريكي كلام جميل لكن الواقع لا يؤيد هذا الكلام. فهل يصرح الرؤساء في الغرب بينما أجهزة الحكومة تتصرف بطريقة مخالفة لهذه التصريحات؟
وأميل شخصياً لتصديق أن الواقع في الغرب هو عكس ما يصرح به بعض الزعماء والرؤساء ليكسبوا به الدعاية لأنظمتهم ولتحسين صورتهم. فقد كنت في زيارة للولايات المتحدة قبل سنتين تقريباً وحدثني أحد الإخوة المسلمين هناك بما تعرض به بعض المسلمين الأمريكيين من أصل أفريقي مـن اتهامات باطلة حتى إن أحدهم اتهم بتجارة المخدرات، وليس من الصعب على أجهزة المخابرات والمباحث من تلفيق تهم مثل هذه. وقد أصبحت مثل هذه التهم من الأمور التي يصدرها الغرب للشرطة في دول العالم الثالث.
لسنا من المفتونين بنظرية المؤامرة- كما زعم أحد الكتاب الذي يقدم بعض البرامج التلفزيونية- ولكن أمام هذا السيل من الحقائق فالأمر لم يعد مؤامرة تدبر بليل أو في الخفاء كما يقولون ولكنها تصرفات واضحة للعيان. فهل يستسلم المسلمون عليهم أن يتكاتفوا وأن يثيروا الإعـلام ضد أي تصرف يرون أن فيه تعصباً ضدهم. وحتى لا يكون الكلام بلا دليل فقد قدم السفير الأمـريكي السابق روبرت نيومان محاضرة في المؤسسة المتحدة للبحوث والدراسات في مدينة أنانديل Annandale القريبة من واشنطن العاصمة في سبتمبر 1995 وتقدم إليه شاب عربي - ربما مسلم- قائلاً أنا مـن الجيل الثالث في هذه البلاد ووصلت إلى رتبة عسكرية ثم توقفت ترقياتي بسبب الحفاظ على الأسرار العسكرية بينما يأتي الشخص من رومانيا أو من أي دولة أوروبية ويصل إلى أعلى المراتب ولا يخشى منه على الأسرار العسكرية. فأعجبتني إجابة السفير نيومان بالقول له استمر في المطـالبة وأوصل قضيتك إلى وسائل الإعلام؛ فإن نقطة الماء إذا استمرت في النزول تجعل الصخر فارغاً، أو كما نقول في المثل العربي (كثرة الطرق تليّن الحديد) .
المصدر: http://www.madinacenter.com/post.php?DataID=95&RPID=87&LID=8