الآخر في القرآن الكريم والسنّة الشريفة
إن المعرفة الحقيقية بالنسبة للمسلم هي التي تبدأ من القرآن الكريم والسنّة النبوية المطهرة لذلك بحثت في هذه المسألة فوجدت أن القرآن الكريم قد أولاها عناية خاصة، فقد قسمت سورة البقرة البشـر إلى ثلاثة أصناف: المؤمنين، والكافرين، والمنافقين. وبعد ذلك تحدث القرآن عن نماذج من هذه الأصناف وصفاتهم
والآخر في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا كفار قريش، واليهود، والنصارى، والمنافقون. وقد قدمت الآيات الكريم صـوراً واضحة لكل فئة من هؤلاء، وأوضحت كيفية التعامل معهـم ، فبالإضافة إلى توضيح صورة الآخـر عقديا فقد اهتم أيضا بالجوانب الأخرى، فها هي صورة العربي الجاهلـي وموقفه من المرأة {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم، يتـوارى من القوم من سوء ما بشر به، أيمسكه على هون أم يدسـه في التراب، ألا ساء ما يحكمون}([1]). وأوضح القرآن الكريم انحرافات قـوم لوط وانحرافات قوم شعيب، وقد روى البخـاري عن السيدة عائشة رضي الله عنها صور النكاح في الجاهلية مقارنة إياها بالصورة التي ارتضاها الإسلام. ([2]) وورد في السيرة النبوية الشريفة وصف جعفر بن أبي طالب للإسلام وكان من هذا الوصف بعض الأمور الاجتماعية.([3])
ويسبق معرفة الآخر معرفة الذات أو النفس، ليؤكد أمرين، أولهما: تثبيت الهوية الخاصة بالمؤمنـين بتوضيح صفاتهم، وأخلاقهم، وعـلاقاتهم بالكون والحياة، فقد وردت كلمة الإيمان بمشتقـاتها المختـلفة، آمن، آمنوا، يؤمنون، مؤمنون، مؤمنين، مؤمنات .. أكثر من سبعمائة مرة، ولو أضفنا الصفات الأخـرى المرادفة مثل: الصادقين والقانتين، والمتصدقين، والخاشعين، لكان أكثر من ذلك.فمن الآيات التي توضح خصائص المؤمنين قول الله تعالى في وصفهم في مقدمة سورة البقـرة : {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخـرة هم يوقنون،أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} ([4])ومن ذلك قول الله عز وجل{ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ، والله رؤوف العباد} ([5])وقد وردت أحاديث كثيرة توضح صورة المسلم ومنها قوله صلى الله عليه وسلم ( المسـلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه)([6])وقوله صلى الله عليه وسلم ( المسلم من سلم المسلمون مـن لسـانه ويده )([7])وقوله صلى الله عليه وسلم في وصف المؤمنين (مثل المؤمنين في توادهـم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منهم عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى.)([8])
ثانيا: معرفة الآخر بصفاته، فقد وردت لفظة الكفر أيضا بمشتقاتها المختلفة ، كفر، كفروا، كافرون، كافرين، يكفرون حوالي خمسمائة مرة، وكذلك الأمر بالنسبة لصفات الكافرين والمشركين مثل الكذب، والظلم والفساد، والخداع، والجحود. ومن ذلك وصف الكافرين في سورة البقرة {إنّ الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون،ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم}([9]) وقد جاءت أوصاف المنافقين في مقدمة سورة البقرة في ثلاث عشرة آية ومنها قولـه تعالى { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنـين ، يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلاّ أنفسهم وما يشعرون ، في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون}([10])ومن أوصاف الكفّار في القرآن الكريم قـوله الله تعالى { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام ، وإذا تولى سعي في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ، وإذا قيـل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد}([11]) وبالنسبة للمنافقين فقد جـاءت سورة باسمهم (المنافقون) وجاءت سورة أخرى تفضحهم بأعمالهم وهي سورة (التوبة) حـتى إنها سميت سورة الفاضحة لكثرة ما ورد فيها من صفات المنافقين. ومن الأحاديث الشريفة التي توضح صفات المنافقين قولـه صلى الله عليه وسلم (آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب وإذا وعد اخلف وإذا أؤتمن خان)([12])
وهكذا فالحدود الفاصلة بين "نحن" و "الآخر" واضحة جداً لدى المسلم، وقد يتساءل المرء : ما سر هذا الأمر، وما أسبابه؟ إن أسباب هذا الوضوح هو أننا أمة الدعوة، وأمة الشهادة، والأمة الوسط ؟ ونحن مكلفون بالدعوة إلى هذا الدين {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعن}([13]).
ويرى محمد عمارة أن " الحديث عن "الذات" و "الآخر" ثقافياً لابد أن يقود إلى تحديد المعالم المميزة للنموذج الثقافي الإسـلامي عن النموذج الغربي "([14])ويؤكد عمارة بأن " الإسلام هو المكون لذاتيتنا الثقافية والمحدد لمعالم نموذجنا الثقافي وتميزنا عن "الآخـر" الغربي قائم فقط حيث يكون التميز والاقـتران الأمر الذي يجعل علاقة نموذجنا الثقافي -الذات الثقافية- بالآخر هي علاقة التميز والتفاعل."([15])
والآخر ليس هو فقط النصراني أو اليهودي أو المنافق بل الآخر أيضاً أناس من أبناء جلدتنا يتكلـمون بألسنتنا ويتسمون بأسمـائنا ولكنهم اختاروا نهجاً يجعلهم أقر ب إلى الآخر ، فهم ليسوا في الصف الإسلامي وإن زعموا أنهم حريصون على مصالح الأمة. وهؤلاء ليسوا المقصودين تماماً بهذا البحث ، ولكني سأعرج عليهـم لأصف بعض مواقفهم وأقدم نماذج من فكرهم .
وعندما خرج المسلمون من الجزيرة العربية منطلقين من طيبة الطيبة، كانوا أولا يعرفون دينهم معرفة حقيقية، ويعرفون ما يدعون إليه، كما كانوا يعرفون الأمم الأخرى، دخل أحد رسل جيـش سعد ابن أبي وقاص رضي الله على القائد الفارسي، وأراد أن يجلس معه على سريره، فحاول الحرس منعه، فقال لهم: (كنا نظنكم أولي أحلام تتساوون فيما بينكم، فإذ بكم يستعبد بعضكم بعضـا) ثم أضاف تلك المقولة البليغة: (إن قوما هذا حالهم فمصيرهم إلى زوال)([16]) وكان المسلمون يعرفون الروم ونظام حياتهم، فلذلك نجحوا تماما في دعوتهم.
واستمرت معرفتنا بالآخر قوية وواسعة ودقيقة. فبدأت الترجمة كما يصنفها حسن حنفي على عدة مراحل ودرجات منها ؛ الأولى الاهتمام بالنصوص وترجمتها حرفياً أي الاهتمام باللفظ ، ثم كانت المرحلة الثانية التي اهتمت بالمعنى ، ثم المرحلة الثالثة التي اهتمـت بالشرح والإضافة والنقد.([17])واستمرت معرفتنا بالأخر حتى عندما التقى المسلمون بالنصارى في الحروب الصليبية قدم لنا أسامة بن منقذ وصفاً دقيقاً لطباع الإفرنج، فهو يصف شجاعتهم وقوتهم وجلدهم، ولكنه يتعجـب من ضعف غيرتهم أو عدمها على الأعراض، ويتحدث عن هذه النقطة بتفاصيل دقيقة مثيرة للاهتمام([18]).
وفي الوقت الذي توقفنا أو تراجعنا عن معرفة أنفسنا، وكذلك عن معرفة الآخر، انتبه الغرب إلى هذا الأمر، فبدأ نشاطه العلمي بدراسة الحضارة الإسلامية ومنجزاتها في شتى المجالات، وتأكد لديهم ضرورة معرفة الذات فعادوا إلى جذورهم اليونانية اللاتينية وكذلك اهتموا بتراثهم النصراني اليهودي، فلا يمكن للأديب الغربي أو المفكر الغربي أن يزعم أنه أديب أو مفكر لو لم يكن على دراية بهذا التراث. ويرى الدكتور حسن حنفي أن مصادر الفكر الغربي أربعة مصدران معلنان ومصدران غير معلنان ، فالمصدران المعلنان هما المصدر اليوناني- الروماني والمصدر اليهودي - المسيحي ، أما المصدران غير المعلنين فهما المصدر الشرقي القديم الذي يتضمن المصدر الإسلامي والرابع هو البيئة الأوروبيـة، ويرى أن " أحد أسبـاب مؤامرة الصمت على المصادر غير المعلنة هي العنصرية الدفينة في الوعي الأوروبي التي جعلته لا يعترف إلاّ بذاته وينكر وجود كلَّ غَيْرٍ له ، فهو مركز العالم احتل صدارته وله مركز الريادة فيه." ([19])
نعم كثفت أوربا جهودها في مجالين: معرفة الذات، ومعرفة الآخر، فبالإضافة إلى الجهود الضخمة في الترجمة والنقل عن اللغة العربية واللغات الإسلامية الأخرى بدأوا في إرسال الرحالة المستشكفين إلى عالمنا الإسلامي، تزيـا بعضهم بأزياء البلاد التي زارها، وأعلن بعضهم إسلامه ليعمقوا في مـعرفتنا ([20]). وساند هذا الجهد نشاط الاستشراق، ومن تتح له الفرصة لدراسة ترجمات المستشرقين يذهله ما بذله القوم من جهود مضنية في دراستنا.
وتميز عمل القوم بالنظام الشديد الصارم، وهو ما تميزنا به يوم أن كنا متفوقين، فعقدوا المؤتمرات السنوية للجمعية الدولية للمستشرقين، وقد بدأ أول مؤتمر عام 1873 وما زالت هذه المؤتمرات تعقد حتى اليوم حيث سيعقد المؤتمر الخامس والثلاثون العام القادم في بودابست بالمجر(* ). كما أنهم إذا نبغ فيهم مستشرق أصبح قبلة لهم وقد حدث هذا عندما كان سلفستر دو ساسي Silvestre de Sacy يرأس مدرسة اللغات الشرقية الحية في باريس.
وليست المؤتمرات هي النشاط الوحيد، فإنهم أسسوا مئات الأقسام العلمية للدراسات العربية والإسـلامية، وأنشأوا مراكز البحوث والمعاهد وعقدوا وما زالوا مئات الندوات والمؤتمرات، ونشروا ألوف أو عشرات الألوف من الكتب والدوريات، ولم يكتفوا بجهودهم وحدهم في معرفتنا، بل استقدموا أبناء الأمة الإسلامية للدراسة عندهم وبخاصة طلاب الدراسات العليا، فأصبـحت رسائل المـاجستير والدكتوراه تنقل إليهم أدق التفاصيل في حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأدبيـة والثقافية، وكذلك بعض الندوات والمؤتمرات التي تعقد في بعض البلاد العربية الإسلامية بتمويل من بعض المؤسسات العلمية الغربية حيث يحضرها بعض المراقبين من الغربيين.
واهتمام الغربيين بالذات ما زال قائماً فبالرغم مما يجمع الـدول الأوروبية من صلات في المعتقد والتـاريخ واللغات فإن هذه الـدول حريصة على هويتها القومية . وقد ذكرت الصحف أن شاباً عربياً أراد أن يضع صحناً هوائياً فوق منزله في ألمانيا فرفضـت السلطات المحلية بحجة " حماية الإنتاج الـوطني، والحفاظ على خصوصية الثقافة الألمانية." وأشار عاصم حمدان إلى أن الفرنسيين أصروا علـى استثناء القضايا الثقافية من معاهدة ( الجات) حرصاً منهم على مقاومة المد الإعلامي الأمريكي المتمثل في المسلسلات التي تنتجها هوليوود وتمثـل ثقافة مختلفة عن ثقافة المجتمـع الأوروبي. ([21]) .
ويأتي إصرار فرنسا على استثناء الإنتاج السينمائي والتلفزيوني من مباحثات (الجات) هو أن الجـانب الأمريكي هو الجانب المتفوق حالياً في التبـادل السينمائي بين أوروبا وأمريكا ، ويصر المخرج الفرنسي روجيه بلانشـو على أن مشكلة أوروبا الثقـافية والفنية التي لم ينظر إليها رجال السياسة ولم يخطط لها أحد، وقال:" في حرب الصور التي بدأت اليوم حكم القوي على الضعيف هو المنتصر."([22])
وقد نشرت جريدة التايمز تقريراً صحفياً يشير إلى أن دور عرض السينما البريطانية تلقت دعماً نقـدياً من الاتحاد الأوروبي لقيامها بعرض الأفلام المنتجة في أوروبا وذلك لمواجهة الأفلام الأمريكية، فقد تسلمت ثمانية دور سينما في بريطانيا عام 1993 (13,500 جنيه استرليني) - حوالي سبعين ألف ريال- لعرضها علـى الأقل خمسين في المئة من الأفلام الأوروبية، وأشارت الصحيفة إلى أن هذه المساعدات النقدية هي جزء من برنامج أكبر وأشمل لتطوير صناعة السينما والوسائل المرئية-المسموعة ودعمها.([23])
وقد تناولت الصحف القرارات التي أصدرتها الحكومة الفرنسية قبل عامين لحماية اللغة الفرنسـية وذلك بفرض عقوبات على كل من يستخدم أي لغة أجنبية في المعاملات الحكومية أو غير الحكوميـة أو في الإعلانات ، كما جعلت اللغة الفرنسية هي لغة المؤتمرات والندوات العلمية التي تعقد في فرنسا. وقد اتخذت فرنسا هذه الإجراءات لمقاومة الهجمة الشديدة من اللغة الإنجليزية بصفة خاصة. |