أسطورة الإسلام السياسي بين التشبيح الثوري ووهم النصر الإلهي
الرغم من أن الإنسان حقق علی صعيد العلوم والتقنيات، التي فتحت أمامه أبواب المستحيل في غير مجال وميدان، كما في الجينة والذرة أو في الفضاء والمجرة أو في الإتصال العابر لحواجز المكان وحدود الزمان، تشهد البشرية علی عجزها عن معالجة أوهامها التاريخية ومعضلات الإستبداد والعنف النابع من الأصولية والتطرف الديني والوعي الأحادي. صحيح بأنه لا انفكاك للعقل عن الوهم وأنه لا شيء يعود كما كان عليه، بحرفيته أو بحذافيره، إلا علی النحو الأردأ والأخطر أو الأرهب، لکن الإنخراط في ممارسة فكرية نقدية هو مصدر إغناء وتوسيع للمفاهيم ومفتاح نسج علاقات جديدة مع العقل والتنوير.
إنها الطوبی التي تجعل أصحاب التشبيحات الثورية يقفزون فوق الواقع البشري بما ينطوي علیها من التعقيدات والإلتباسات والمفارقات. الأصوليون الدينيون يحلمون بالفردوس الموعود ويمارسون في الوقت نفسه أعمال مضادة للقانون والدستور والحقوق والقيم الجامعة ويمارسون في غير مكان الوصايا علی شؤون القضايا المجتمعية ويتدخلون حيث أمكنهم ذلك. أما تهويمهم الإلهي ووصاياتهم النبوية فيتجسد في إعتقادهم بأنه إذا تمكنوا من أخذ زمام الحكم في غير مكان فسوف يعود للمسلمين مجدهم وتستعاد مبادرتهم التاريخية لإقامة دولتهم أو خلافتهم وعندها سوف تنقذ البشرية ويكون رفع الظلم وإحقاق الحق، أي تحقيق ما عجز عنه "الأنبياء والرسل" عن تحقيقه وهم كانوا استثناء. ولا عجب أن تكون الحصيلة المزيد من الأزمات والمحن والكوارث ، مادام قادة فكر الإسلام السياسي يفكرون ويعملون علی هذا النحو. وإن عدم قدرتهم في معرفة إستغلال تراثهم وتعلقهم به تعلقاً أعمی ينتهي بهم في إستعادة الماضي بشكل هزلي كاريكاتوري لكي يمارسوا علاقتهم به فقراً ومسخاً وتشويهاً.
إن الخضوع لمنطق الفتوی الأعمی والتخلي عن الطاقة الفكرية والقدرة علی الخلق والإبتكار أو علی التجديد والتغيير، التي هي ميزة مهمة من مميزات الإنسان، يفسر لنا أسباب تراجع العلم والتعليم في بلدان الشرق الأوسط والباعث لنشر الوباء بعد إجتياح الثقافة الدينية بشاشاتها ومعارفها الميتة ونماذجها المتحجرة لمؤسسات التعليمية في المدرسة والجامعة.
من لا يتعامل مع الدين كوازع معنوي أو سلطة رمزية أو مهنة خلقية لا غير، هدفه تفعيل تلك العلبة السوداء التي تعشعش في عقله، بعقدها ومتحجراتها وتهويماتها وخرافاتها وتصنیفاتها العنصرية لإجبار الدولة علی العمل في قضايا التشريع والتنظيم بوصاية المؤسسة الدينية. لكن الدولة العادلة والفعالة يجب أن تعمل بقوانين وخطط وسياسات قادرة في أن تكون حصيلة المجتمع بمختلف قطاعاته وفاعلياته ومشروعياته. فالمهام التي أعطيت للدين تُرجمت في العالم العربي والإسلامي أفخاخاً ومآزق، إذا لم نقل بأنها قامت بشحن النفوس وتعبئتها بمشاعر العداء والكره.
لقد علمنا الثورات الجديدة، التي لا تزال تسعی في إزالة آثار ما خلفته الثورات السابقة من المساوێء والمفاسد والكوارث، بأنه من الممكن أن يتحرر المجتمع من خلال الثورة السلمية والمدنية من ديكتاتورية الشعارات والمقولات وعبادة الأشخاص والأبطال، لأن تقديس الثورة لا يعني سوی قتل أهدافها وعبادة الأشخاص تفسدهم. أما الإنسداد فإنه يولد الإنفجار والشعارات المقدسة والأيديولجيات الحديدية تعمل علی تقويض الحريات وإستعباد العقول.
نحن رأینا تغيرات طرأت في مشهد العالم وخريطته، وهذه بدورها جلبت تغيرات في جغرافية العقل وشبكات الفهم وصيغ العقلنة وقواعد المداولة. فهل من المعقول أن تبقی الترسانة الفكرية القديمة المستهلكة والصدئة والمتجسدة في أفكار وبرامج الأحزاب الإسلامية، التي أكتشف في الدين فيتاميناً تحول الی داء فتاك وسلاح قاتل، كما هي من غير تفكيك ثقافتها وأنماط تفكيرها؟
إن تشبيحاتهم الثورية الهامشية المتخلفة والرجعية وسياساتهم الإلهية الإنتقامية ليست إلا أحابيل جهنمية تتردد بين أساطير الأولين وأقانيم المحدثين، بين الشعوذة الفكرية والتفكير الحي، بين فتاوی الشريعة وكهنة الإستنارة، بين الأشباح الأنتروبولوجية وأطياف الأيديولوجية، تشهد علی جهلهم وعجزهم. أصحاب إدعاءات التأله والعصمة والرشد ينسون بأنهم ينمون الی أصناف البشر المصاب بالجهل والنسيان والنقص والخطأ والحمق والجنون. ماالنفع من رمي التهم علی الغرب وتحميلهم مسؤولية المصائب والفشل والتحصن وراء متاريس العقائد والقناعات والهويات الثقافية والمنظومات الفکرية، إذا لم نعتبرها مجرد معلومات أو معارف أو وجهات نظر تشكل مقترحات للحوار والمباحثة من أجل الوصول الی الأمر الجامع أو الشيء المشترك؟
وختاماً نقول: لا تنجح محاولات التقريب والحوار، طالما هناك مفردات مثل "الشرك والكفر" أو "البدعة والضلالة" تشكل صُلب العقيدة والعدسة، التي من خلالها يری الواحد الی الآخر المختلف، لكي يدينه وينزّه نفسه.