المدينة الفاضلة والأديان السماوية

إن الصراعات والصدامات التى أحتدمت فى المجتمع المصرى وتغذيها المشاعر الدينية لإقرار دستور قائم على الفكر الدينى، الذى يسلب حقوق مختلف الطبقات والفئات المجتمعية وينزع عنهم هويتهم المصرية هو دستور لا يصلح لعصرنا الحديث ولا لدولة ذات حضارة مثل مصر، إن الأعتقاد بأن الأديان الغرض منها تأسيس مدينة فاضلة تحكمها شرائع دينية هى مجرد تخيلات تستعيد التاريخ العتيق لتخلق منه واقع يتخلف عن العصر والإنسانية جمعاء، إذن نحن فى حاجة إلى دستور بشرى يحترم حرية وكرامة الفرد وتتعامل معه كأنسان له حقوق وعليه واجبات فى دولة إنسانية وليس فى دولة سماوية، فالمدينة الفاضلة لأفلاطون والفارابى لا وجود لها ولم يبشر بها أى إله سواء كان سماوى أو أرضى، فاليوتوبيا أو المجتمع الفاضل لم يستطيع رجال الأديان أو الحكام الذين حكموا بأسم الدين تطبيقها أو العمل بها لأنها مجرد أفكار خيالية، فالأمثلة التاريخية الماثلة أمامنا تمتلئ بسفك الدماء وأنتشار الفتن والصراعات الدينية الدموية وموت هؤلاء الحكام قتلاً والتمثيل بجثثهم ، والخطأ الذى لم يدركه هؤلاء أن حكم المجتمعات بأسم شرائع الأديان هو أكبر خطأ وقعوا فيه، لأن شرائع الأديان هى مجموعة من القواعد الأخلاقية لتبصير المؤمنين بخطورة الجرم والخطيئة المقدمين على إرتكابه، وعليهم الأمتناع والتحفظ فى سلوكياتهم اليومية حتى لا يقعوا فى تلك الشرور التى تعطى الأديان مجرد صورة رمزية للكيفية التى يمكن المجازاة والعقاب عليها.

لم يذكر أى إله أنه سيطبق على الأرض وعلى الشعوب شرائع وحكام وسلاطين لإقامة المجتمعات الفاضلة،لأن تلك الكتب المقدسة لأصحابها تحتوى على مجرد أفكار مثالية تذكرهم بالمدينة الفاضلة السماوية " الجنة أو الملكوت" التى سيتمتع بدخولها كل من يمتلك تلك الأخلاق الدينية وستقيه من الوقوع فى الخطايا والشرور، فالآلهة مهما كان أسمها وصفاتها لم تطلب من أتباعها إجبارياً السلوك بشرائع ووصايا إجبارية، بل هى وصايا أخلاقية تدعو المؤمن للسلوك الحسن وعدم ظلم الآخر أو الأعتداء عليه أو على حقوقه وحرياته، وهى وصايا لا إجبار فيها وسيتم العقاب عليها فى الآخرة التى يؤمن بها المؤمنين، لكننا فى الوقت نفسه لا يمكن أن نقول أن الآلهة تطلب من المؤمنين إجبارياً مطاردة المخالفين فى الدين وإرهابهم وسفك دماءهم لأنهم رفضوا الإيمان بذلك الإله أو ذاك الدين، وإلا أعتبرنا تلك الآلهة آلهة عدوانية يسعدها سفك الدماء ولا تؤمن بالعدل أو لا تعطى حرية الأختيار للإنسان فى فعل الخير أو الشر حتى تحاسبه عليه فى الآخرة.

من لا يؤمن بأى إله هذه حريته ويتحمل مسئولية تلك الحرية تماماً مثل الذى يؤمن بإله ما هذه أيضاً حريته يمارسها كما يشاء، لأن عدم إيمان بعض البشر عقابه حسب المؤمنين هو فى الآخرة ومن المستحيل أن تعطى تلك الآلهة الغيبية سلطانها للبشر ليحاكموا بعضهم البعض كما يشاءوا وحسب إنفعالاتهم ومشاعرهم التى تحتمل الصواب والخطأ الأكيد، لأن العقل والمنطق يقول أن تلك الآلهة من المستحيل أن تجبر إنسان على السلوك حسب وصاياها وإلا أصبحت آلهة ظالمة دكتاتورية لا تعرف العدل وحرية الأختيار وحقوق البشر الطبيعية كأفراد فى مجتمعات لها أحتياجات تتطور مع تطور الحياة الإنسانية، فالإنسان الفرعونى والبابلى والبربرى والجاهلى كانت له أحتياجات تختلف عن أحتياجات إنسان العصور الوسطى ووقتمنا الحاضر حيث تطورت الحياة وتعقدت ولم تعد حياتنا اليومية تعتمد على زراعة الأرض وأكل التمر والزبيب وشرب النبيذ مثل مجتمع الفراعنة أو رعاية الأغنام وشرب القهوة وحليب الناقة مثل المجتمع البدوى، لقد كانت مجتمعات بدائية الفكر والمعتقد لكثرة القصص والأساطير التى كانوا يتناقلونها.

إن مستقبل مصر وأولادها وغيرها من الشعوب ليس موضع رهان فى حلبة سباق عقائدية تنفى الآخر وتكفره وتستحل دمه، إذا كانت توجد آلهة حقاً فإنه يكون من الجنون تصديق أنهم أنزلوا مثل تلك الشرائع والعقائد منذ نشأة اليهودية ثم المسيحية والإسلام، تلك العقائد التى تنشر الرعب فى نفوس الشعوب المجاورة وإعلان الحرب عليهم بحجة غبية أسمها سيادة الشعوب المختارة من تلك الآلهة على بقية الشعوب الأخرى الأشرار، وهى حجة إستعمارية عنصرية نازية لإستحلال دماء المخالفين وأستعبادهم والأستيلاء على أرضهم وأموالهم وبناتهم وزوجاتهم، وهذا هو الواقع المرير الذى رأيناه بأعيننا فى أفعال وكتب المؤمنين بتلك الأديان التى يقولون عليها سماوية، لأن شعوب تلك الأزمنة كانت عاجزة العلم والمعرفة عن الوصول والصعود إلى تلك السماء التى لا يوجد بها شئ، لذلك أعتبرها أديان فضائية لا وجود فيها لآلهة وإنما لخيالات بشر تكونت عبر تراكم الأساطير الإنسانية.

المستحيل هو الإيمان بإله يقوم أتباعه ليل نهار برفع سلاح التكفير والتحريض والإرهاب وصب اللعنات على الآخر ويطلبوا من إلههم بخراب بيوت المخالفين لهم لأنهم كفار به، فى الوقت الذى يبدو أنه إلهاً عاقلاً ولم يستجيب إلى هؤلاء المرضى بالسلطة وكراسى الحكم لأنها لعنات وتكفيرات لا منطق لها عند الآلهة التى لا وجود لها ولا عند البشر الذين يستخدمون العقل قبل النطق بكلام الضعفاء الذى يصيب أنفسهم فقط بالبغضاء للآخرين مصدقين ومعتقدين أن هناك إله سيستمع إليهم وأنه يطلب منهم حقاً تلك المشاعر والأفعال التى تتناقض مع منزلة إله غفور رحيم قادر على كل شئ حسب أعتقادهم ثم يناقضون أنفسهم ويصدقون أنه يطلب منهم الدفاع عنه بإشهار السلاح وقتل وسفك دماء كل من يعارضهم ويعارض معتقداتهم.

إن ما يجرى من أستفتاء على دستور يثير الأنقسامات المتوالية والمتزايدة وسيقود مصر وشعبها إلى طريق الخسارة سواء كانت النتيجة نعم أو لا، إن الرجوع إلى الحق فضيلة يعنى الأعتراف بضرورة وجود دستور يعكس المطالب الإنسانية اليومية للتسعين مليون مصرى، وهو أمر يحتاج إلى مفكرين وخبراء وعلماء يقدمون خبرتهم لوضع دستور مثل هذا وليس كما حدث فى الجمعية التأسيسية التى لا تمثل إلا مجموعة محدودة من المصريين لا خبرة لديهم ولا علم فى وضع دستور يليق بدولة تعيش فى عصرنا الحديث، دستور يوحد الشعوب ويرسى قيم المواطنة والمساواة بين الجميع لينتصر العقل على المشاعر السلبية فى هذا الجو المشحون بالعداء والتى يتصاعد لهيبها وتثير الفتنة والكراهية فى المجتمع.

إن الحوار سيكون المطلب الحقيقى فى المرحلة القادمة ويستدعى وجوده وجود أفراد حكماء يتصفون بالحياد وإعلاء مصلحة مصر وشعبها فوق المصالح الشخصية والحزبية والسياسية، فهل ما زال يوجد بمصر حكماء يقودونها إلى بر السلامة لتظل مصر لجميع المصريين؟

المصدر: http://almothaqaf.com/index.php/qadaya/72999.html

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك