الطائفيون لا يبنون أوطاناً
الذي شاهدناه وعشنا تفاصيله في الغرب (اوربا)، ان الناس، كل الناس مهما كانت اديانهم ومذاهبهم وقومياتهم واحزابهم وعشائرهم وافكارهم ومعتقداتهم، يحبون اوطانهم ويقدسون هوية انتمائهم وولائهم لها، فقط لأنهم يحترمون عقولهم وعلاقاتهم والثوابت الوطنية والأنسانية لشخصيتهم، سواءً تعلمنا منهم أم لا، فتلك مشكلتنا واساس ذيليتنا في جسد المنظومة الدولية التي تتطلع وتتقدم الى الأمام، لنبقى موروثات على قارعة طريهم، ان نذهب الى كنيسة او منظمة انسانية او دوائر معونات اجتماعية طلباً للحماية من مظالم الناطقين بموروثاتنا، لم يسألونا، ان كنا مثلهم مسيحيين او يهوداً او مسلمين او اي معتقد آخر،، فقط وبعد ان يقدموا لنا الحماية والمساعدة والمآوى الآمن، يطلبون ان نحترم القوانين ومشاعر الناس والتعايش مع الواقع ومحاولة الأندماج مع المجتمع ومراعات الشعور العام وتقاليد نظافة المدينة والشارع والمؤسسة والبيت، بعد هذه الألتزامات يحضى الضيف (اللاجيء) بالأمن والأستقرار والحرية والرعاية الصحية والأجتماعية والتعليم والشكر ايضاً، بمثل تلك القيم والأعراف والتقاليد يندمجا الدولة والمجتمع في مهمة بناء واعادة تجديد الوطن الأم .
لم تصل تلك الأمم المتقدمة الى هذا المستوى من الرقي في دمج ما هو وطني انساني في روح المواطن صدفة، بل حدث هذا عبر مخاض معرفي ونهوض وعي واعادة تقييم تجارب وانتكاسات ثم يقضة ارادات وروح تحد وتضحية من اجل المستقبل، فيه الأنتماء والولاء للأرض والأنسان قاسم مشترك ودليل عمل تلتف حوله وتمارسه طوعاً جميع مكونات المجتمع .
اردنا من تلك المقدمة المتواضعة، الدخول الى واقعنا العربي الأسلامي كجزء مما يسمى (العالم الثالث)، ثم ناخذ معاناة عراقنا نموذجاً .
لا يمكن ان نتقدم خطوة، ان لم نتراجع اكثر، لنضع موروثاتنا ـــ غير المتحركة ـــ في مكانها المناسب من داخل الأفق المعرفي، خلفية نتعض منها في دفع قاطرة التقدم والأنجازات والمتغيرات التي حققها العقل البشري، والتي كانت الموروثات يوماً حلقة من سلسلتها،لا يمكن ان تتوقف عندها علجلة الخلق والأبداع، وعند التأكيد على احترام موروثنا، يجب ان لا نسلفن بها عقولنا .
المجتمعات الأوربية، اعترضت طريق نهضتها صعوبات كثيرة من قبل الكنيسة (الأيديولوجية الدينية) ومن قبل الفكر القومي الشوفيني التوسعي وما نتج عنه من حربين عالميتين مدمرتين وصراعات دموية، لكنها كانت تسير في طريق تقدمها اعتماداً على انجازاتها الذاتية، غير مسبوقة بقوى (دول) اكثر تقدماً منها لتكون عائق تفرض وصايتها على نهضتها (ثورتها) الفكرية والصناعية والأقتصادية .
ما يتعلق بمنطقتنا، والعراق منها بشكل خاص، مرت ولا زالت بظروف تختلف كثيراً، حالة اندمج فيها ثلاثي الدين والسلطة والمال، كل منها اتخذ الآخر جسراً لتمرير مقدسه وشموليته (مصالحة)، وهنا اصبح ذلك الثلاثي ممثلاً للأيديولوجيات الألغائية القمعية تاريخياً .
عبر اكثر من نصف قرن تقريباً، استطاع المؤدلج القومي، فكراً وتنظيماً ــ البعث ــ تدمير الدولة وابتلاع الوطن، مؤدياً وظيفته في خدمة المصالح والأطماع الخارجية (العمالة)، الآن وعبر عشرة اعوام تحت رحمة ايديولوجية رجل الدين (الوسيط)، اثبتت لنا التجارب والعبر والمعاناة، على ان الطائفيون غير مؤهلون اطلاقاً لأعادة بناء الوطن ان لم يزيدوه خراباً، واثبتوا انهم اكثر تبعية للمصالح والأطماع الخارجية (طوابير لأختراقاتها)، اكثر قسوة في تمزيق الوحدة الوطنية، وتقديساً لجهل الناس وتخلف الأمة، غير معنيين اكثر من ان تكون جيوبهم بخير، وكروش عوائلهم وحبربشيتهم بخير، والمنقول وغير المنقول من سحت ثرواتهم بالف خير .
الطائفيون العراقيون ومهما اختلفت انتماءاتهم، يشكلون وجهي عملة الطائفية، كل منهم يدعي ما هو عكس حقيقته، فهم الوطنيون والحريصون على اعادة تشكيل دولة العدل والقانون بمؤسساتها المدنية ودمقرطة المجتمع وتحديث العلم والثقافة واحترام استقلالية المؤسسات الأعلامية ومحاربة الفسد وتجفيف منابع الأرهاب !!! وعلى " هل الرنـه ... " لكنهم على الأرض يمارسون شحناً طائفياً على حساب وحدة الوطن، انهم وفي افضل حالاتهم يشكلون جزء من تاريخ ليس لنا يكتب لنا من خارجنا .
عشرة اعوام، ترك الطائفيون بصماتهم موتاً يومياً على الواقع العراقي، فساد وارهاب وفوضى شعارات وادعاءات ومحاولات لتمرير سكراب خلفياتهم عبر العشرات من الفضائيات، محاولات لأتمام عملية اختزال الوطن بالطائفة والدين بالمرجع بعد تصفية الحساب مع العقل العراقي وتشويه الوعي الجمعي وتغييب ردود افعال الرأي العام، انهم غير صادقون ولا يمكن ان يكونوا عكس ما هم عليه .
عشرة اعوام وليس خمسة عقود، كانت كافية لقلب اوراق الطائفية وكشف وجهي عملتها، المواطن العراقي، الذي خرج تواً من محرقة البعث، يواكح خوفه قبل ان يقلب الطاولة على لعب الطائفيون، التي انهكت الدولة والمجتمع بمقدس موروثاتهم ذات الجوهر الدنيوي .
لو نظرنا الى جنون الأستقطابات التي تسبق الآن انتخابات مجالس المحافظات، لوجدناها طبعة جديدة لسلوك قديم، وجوه خلعت عنها المفتعل من الخلافات، والتقت مصالحها معلنة عزمها على اعادة احتواء وتقاسم المحافظات شيعياً وسنياً، كلا الوجهين متفقان على ان تحتفظ عملة الطائفية على بريق موروثاتهما .
مجلس الحكم الموقت للتحاصص والتوافقات، وما نتج عنه من حكومات للمصالحة والمشاركة، كان في حقيقته عقداً صريحاً بين الأحتلال ومجندي المنطقة الخضراء يترك بموجبه للطائفيين الدين بكل تفصيلاته الطائفية والمذهبية وحصة متواضعة من فائض الثروات الوطنية الى جانب سلطة تأديبية يحتمون بها من ردود افعال الداخل على ان تترك السياسة وهم ادواتها للذي تكرم عليهم بما لم يحلموا بالحصول عليه، الطائفيون الذين لا يعبأون بحياة المواطن كونها فانية ولا يحترمون الوطن كونه محطة عبور للآخرة، وهم الأكثر شبقاً وتعلقاً بالحياة وشهوة في امتلاك خيرات الأرض، لم يجدوا حرجاً اخلاقياً او اجتماعياً في اجترار لعبة وضع الرأي العام امام الخيارات الصعبة بين اهون الشرين، فمن يلحق الأذى بالناس، لا يمكن له ان يبني لهم وطناً .
المصدر: http://mail.almothaqaf.com/index.php/qadaya/73251.html