التيارات الحضارية

لدينا نظرية في التاريخ تقول أن الموجات الحضارية لطالما انتقلت من جوف الصحراء إلى منطقة الهلال الخصيب في الشمال والى وادي النيل في الغرب حسبما يذكر الدكتور جواد العلي في كتابه "تاريخ العرب القديم " وحسبما يذكر الأستاذ احمد يوسف داوود في كتابه "المفهوم التاريخي لتسمية العرب وموطنهم " ومجمل هذه الأبحاث تقول أن منطقة الجزيرة العربية كانت جنات عدن وان الأقوام الأولى هاجرت من هذه الجنان واتجهت نحو الشمال والغرب مدفوعة بالتصحر، ويبدو أن التاريخ أعاد نفسه مع ظهور النبي محمد في بلاد الحجاز، وانطلاق الغزو الإسلامي نحو الشمال، والغرب ومن ثم ما تلا ذلك من تبنِّي المراكز التاريخية في سوريا والعراق ومصر للدين القادم من جوف صحراء ملقَّحا بالموروث الثقافي الموجود في هذه الحواضر ومحيطها الفارسي والروماني .

في العصر الحديث عادت الجزيرة العربية، واكتنزت مدنها بالمال وبالتقنيات الاستهلاكية والإعلامية وبالخبراء الغربيين وبرجال الدين والمثقفين العرب، وكان لا بد لهذا الحشد من عناصر القوة أن يعبِّر عن ذاته وفي عملية إعادة للتاريخ انطلق نوع من الغزو الديني محمولا على جناحي المال والإعلام نحو الشمال في الهلال الخصيب ونحو الغرب في مصر وحاول الدين الجديد القادم من الصحراء الاستحواذ على هذه المناطق الجغرافية .

ربما تكون عبارة "الدين الجديد " مثيرة للتساؤل لكنه في الواقع دين يمثل التكفير والتبشير بحد السيف لجميع المخالفين والمختلفين عنه بحكم الطبيعة أهم مرتكزاته هو دين جديد على مناطق عريقة كالهلال الخصيب ومصر اعتادت على صياغة أديانها واديان من هم سواها وتملك من الذاكرة ما يكفي لاستيعاب كل الأفكار التي تأتيها من الخارج وإعادة إنتاجها .

إذا في العصر الإسلامي الممتد خلال الحقبتين الأموية والعباسية حصل التلاقح الحضاري مع الفرس وسائر الأقوام في آسيا الوسطى ومع الرومان ومن ثم مع اليونانيين ومن هذا التلاحق حصل ما يمكن أن نسمِّيه بالحبل الحضاري الذي أنجب ما يُتَّفق على انه الحضارة الإسلامية حينها كانت المراكز الحضارية التي تتجمع فيها الثروة والمعرفة وقوة السلطة هي بغداد ودمشق والقاهرة، وفي العصر الحالي ونتيجة الذهب الأسود أو اللعنة السوداء انتقلت عواصم القوة تلك إلى الصحراء العربية وحصلت حضانة من النظام العالمي لهذه المراكز بينما تم خوض صراع منهجي متسلسل من قبل هذا النظام ضد المراكز الحضارية المعروفة تاريخيا كبغداد ودمشق والقاهرة فعند قراءة العقود الماضية نجد أن هذه المراكز كانت تتعرض لعملية تقليم أظافر إذا ما حاولت لعب دورها التاريخي فالعراق تم توريطه في حرب عراقية إيرانية تحت إغراء الدعم والوعود بالدعم من قبل أساطين المال العربي والسياسة الغربية وفي مرحلة لاحقة تورَّط العراق وهناك من يقول انه وُرِّط في فخ الكويت ثم حوصر لعشر سنوات قبل أن يُنحر .

ومصر عبد الناصر عندما حاولت أن تتلمَّس دورها التاريخي انقضَّ عليها أساطين المال العربي والسياسة الغربية وحاصروها إعلاميا وماليا حتى وفاة عبد الناصر وانتهاء مشروع مصر القومي عندها لم تعد هناك حاجة لحصارها باعتبار أن السياسات التي اتُبِعَت لاحقا في مصر حاصر دورها التاريخي وقامت بالمهمة .

أما سوريا فإنها تعرضت خلال العقود الماضية لعملية حصار وزعزعة من الداخل باستمرار ليتجمع كل ذلك وينفجر في عملية مبرمجة لإسقاط الدولة السورية تم إعلانها في العام 2011  من ضمن ما يسمى بالربيع العربي من قبل أساطين المال العربي والسياسة الغربية .

في مقابل كل عمليات الحصار تلك كان هناك تظهير متعمد للمراكز الصحراوية ودورها في الأحداث المفصلية وبالعودة إلى ما يسمى بالثورة العربية الكبرى التي تم تسليم قيادتها للشريف حسين فيما كان قائدها الفعلي هو الضابط البريطاني لورانس نستطيع أن نجد شيئا ما مشابها لتسنُّم أمراء قطر المشهد الإعلامي وتضخيم دورهم المفتعل فيما اللاعب الحقيقي يكمن في مكان آخر .

وخلال عمليات التظهير تلك كانت تجري عملية محو مبرمج للتاريخ في المراكز المعروفة من خلال الاستهداف المقصود للمواقع الأثرية وخاصة استباحة وخاصة الحادثة الشهيرة المتعلقة باستهداف متحف بغداد عند احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة في 2003 وكذلك استباحة الكثير من المواقع الأثرية والمتاحف السورية خلال لنزاع الداخلي الخارجي المزدوج الذي تعانيه البلاد بدءا من العام 2011 .

في موازاة هذه الحركة المشبعة بالتجاذب بين الجزيرة العربية والهلال الخصيب والممتدة خلال كل تاريخ المنطقة كان هناك حركة أخرى تعبر هذا الهلال من شرقه إلى غربه وتثير حولها دوائر تمتد لتثير زوابع تغطي العالم .

فإبراهيم أبو الأديان والشخص المتفق عليه بينها جميعا خرج من جنوب العراق واتجه عير الهلال الخصيب وصولا إلى الجنوب في فلسطين، وقبل ذلك تذكر أسطورة جلجامش البابلية وهي الأسطورة التي خرجت من تحت عباءتها كافة المرويات القرآنية والتوراتية لما حصل في الزمن القديم، تذكر الأسطورة أن جلجامش غادر أوروك جنوب العراق واتجه عبر الهلال الخصيب لينتهي به المطاف في جبال الأرز، ثم هناك الأسطورة التي تنتظر عودة المهدي وهناك نصوص متقاربة تقول بأن المهدي سيتجه من العراق إلى دمشق وان تلك العودة ستكون نهاية حتمية لكل ما قبلها .

في المجمل إن هذه الحركات التي تم تداولها بشكل أسطوري كانت وهي الآن المحرك الفكري لكثير من الحركات والتحولات التاريخية الكبرى بما يمكِّن من الاستخلاص أن التيار الحضاري العابر للهلال الخصيب هو تيار حاسم في تاريخ المنطقة يُبنى عليه مراحل لاحقة حكما ويمكن القول أيضا أن النفوذ الإيراني حاليا هو تيار عابر للهلال الخصيب يمتد حتى غزة .

لم يحصل أن تصادم التياران: التيار القادم من الجزيرة العربية إلى الهلال الخصيب والتيار العابر خلال الهلال الخصيب لان حدوثهما كان يتم خلال مراحل زمنية متفاوتة إلا أنهما في هذه المرحلة يتصادمان والصدام على أشده في سوريا والعراق ولكن هناك حقيقة أخرى هي أن الهلال الخصيب يستوعب ما هو آتي من الصحراء ويقوم بتكييفه وهضمه وإعادة إنتاجه على ماهيته .

المصدر: http://almothaqaf.com/index.php/qadaya/74594.html

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك