السويد والتسامح الديني
ذا وقفت يوم الجمعة قرب مسجد فيتيا ظهراً، وامتلأت أذناك بصوت المؤذن، فقد تتصور أنك موجود في القاهرة أو بغداد أو الرباط، لكنك في الواقع واقف قرب مسجد في ضاحية من ضواحي استوكهولم في مملكة السويد، ففي سابقة تاريخية سمحت دولة السويد الاسكندنافية برفع الأذان جهراً لصلاة الجمعة من مئذنة لجامع إسلامي في ضواحي العاصمة استوكهولم، بعد جدل وحوار طويلين وأخذ ورد مستمرين .
وبالرغم من أهمية “الخبر” للعالمين العربي والإسلامي، لكنه لم يستثر الاهتمام الكافي من جانب المسؤولين في الدول العربية والإسلامية بمن فيهم الأوساط التي كانت صرختها عالية، بل وانفعالية حين تم نشر صور كاريكاتورية مسيئة للرسول قبل سنوات في الدنمارك من جانب صحيفة مغمورة أو في هولندا في وقت لاحق أو رداً على البابا بنيديكتوس السادس عشر أو غيرها .
لعلّ خبر مسجد فيتيا يستحق التوقف عنده من جانب الأوساط المهتمة بالحوار الحضاري والتفاعل الثقافي ومدّ الجسور بين مختلف الشعوب والأمم وعلى أساس المشترك الإنساني، وذلك لعدد من الدلالات التي تربط العرب والمسلمين بدولة السويد بشكل خاص، والغرب بشكل عام، لاسيما للعلاقات الإسلامية - المسيحية .
فالسويد تضم أعداداً كبيرة تصل إلى نحو نصف مليون من اللاجئين العرب والمسلمين، وتتعامل معهم باعتبارهم في الغالب الأعم مواطنين، اكتسبوا الجنسية السويدية، لهم حقوق وواجبات المواطن السويدي أو مقيمين بصورة دائمة يتمتعون بما يتمتع به المواطن السويدي والاسكندنافي، بل من دول ال Shingen باستثناء بعض الحقوق السياسية المحدودة (كالترشيح والانتخاب وغيرها) .
وثانياً، إن القبول من جانب السويد برفع الأذان هو شكل من أشكال الاعتراف بالآخر وبالتعددية الدينية والتنوّع الثقافي لا بدّ أن ينعكس إيجاباً على علاقة الجاليات العربية والمسلمة بسكان البلاد الأصليين، طالما أن هناك حماية قانونية لذلك، خصوصاً أن دولة مثل السويد تشعر أنها تكتسب بُعداً جديداً بمثل هذه الاضافات من خلال تلاقح الثقافات وتفاعل الحضارات وتقارب الأديان، وهو ما يسهم في تقليص دائرة التعصّب والتطرّف ويساعد في تخفيض ردود الفعل التي قد تؤدي إلى العنف والارهاب بسبب الشعور بالتهميش والإقصاء أو غير ذلك .
وثالثاً، إن السويد ترتبط بعلاقات ودية مع غالبية البلدان العربية والإسلامية، فهي دولة لم تستعمر بلادنا العربية أو الإسلامية في السابق والحاضر، ولذلك فإن تعزيز العلاقات معها أمرٌ مهم، تأييداً ودعماً ليس لهذه الخطوة الإيجابية فحسب، بل لمجمل العلاقات المتكافئة القائمة على أساس المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة من خلال توثيق العلاقات الاقتصادية والتجارية، والاستفادة من خبراتها في مجالات العلوم والتكنولوجيا والطب وبناء الهياكل الارتكازية والبنى التحتية وغيرها، وهي حقول تحتاج لها بلداننا العربية والإسلامية، بدلاً من الاعتماد على دول استعمارية عانت منها ومن إرثها شعوبنا العربية والإسلامية ولا تزال، بما فيها دعم “إسرائيل” والتنكر لحقوق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس .
رابعاً، إن خطوة من هذا النوع تساعد في توطيد العلاقة السياسية من خلال فتح مجالات جديدة للحوار بين الثقافات والحضارات المختلفة والمتنوعة في إطار الحضارة الكونية المشتركة والموحدة والمتعددة في آن، لا سيما بفتح نوافذ مهمة للعلاقة بين المثقفين العرب والمسلمين والمثقفين السويديين ومن الدول الاسكندنافية، فضلاً عن تبادل الزيارات، والاستفادة من الترجمات المتبادلة، والاطلاع على التجربة السويدية المتطورة في ميدان الصحة والتعليم، القائمة على التسامح والاعتراف بالآخر، وهو الأمر الذي نحتاج إليه، وينبغي أن يكون أمراً متبادلاً في علاقاتنا، كما أنه يساعد على بناء الجسور بين أبناء الوطن الواحد ويعزز لديهم الشعور بالمواطنة (سواء كانوا من أصل عربي أو إسلامي أو أصول اسكندنافية ومسيحية)، ومن جهة أخرى فإن منهج التسامح يساعد في تعزيز علاقة المهاجرين بالمجتمع الجديد السويدي من جهة، ومن جهة ثانية بمجتمعاتهم الأصلية، خصوصاً وهم من حملة الثقافتين العربية- الإسلامية والأوروبية الغربية، لا سيما الجيل الثاني .
جدير بالذكر أن جامع فيتيا اكتمل بناؤه العام ،2007 وحصل جدل حول السماح برفع الأذان، وكانت إدارة الجامع قد تقدمت بطلب إلى البلدية التي أحالته إلى دائرة الشرطة، التي قامت بمنح حق الأذان (يوم الجمعة لمدة 3 إلى 5 دقائق) بين الساعة 12 و13 ظهراً، حيث يبلغ عدد المصلين في هذا الجامع نحو 7000 مصل . وهكذا تم إلغاء الحظر الذي اعتمدته السلطات المحلية عند الترخيص ببناء الجامع، وقام التلفزيون السويدي بنقل الأذان مباشرة عبر شاشات قنواته المختلفة، فضلاً عن قنوات أخرى، وكانت “جمعية الثقافة الإسلامية” قد تقدّمت بطلب لرفع الأذان في العام ،2012 وتمت الموافقة عليه في شهر إبريل/ نيسان ،2013 أي بعد نحو عام، واعتبر الكثير من المسلمين أن ذلك حدث تاريخي مهم في حياتهم في السويد .
وبالرغم من احتجاج الحزب الديمقراطي السويدي، وهو حزب يميني معروف بعدائه للمهاجرين، ومحاولاته المستمرة لاستئناف القرار لدى المحاكم الإدارية، إلاّ أن الاحتكام إلى سيادة القانون في مجتمع تعددي وديمقراطي هو الذي قاد إلى هذه النتيجة الإيجابية التي بالإمكان أن تعمم على نحو 200 مسجد في السويد قسم منها فيها مآذن ولكن لا يوجد ترخيص بالأذان وقسم منها مبني بشكل مؤقت، فضلاً عن إمكانية إدراج أحد الأعياد الإسلامية (الفطر أو الأضحى) ضمن الأعياد التي تحتفل بها الجالية العربية- الإسلامية وفقاً لاعتراف رسمي من جانب الدولة، مثلما يحتفل المسلمون في هذه البلاد بعيد ميلاد السيد المسيح وغيره من الأعياد المسيحية .
وكنت قبل نحو عام التقيت السفيرة السويدية بريجيتا هولست العاني مديرة المعهد السويدي بالاسكندرية، خلال ندوة نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في تونس بالحمامات، وكانت الندوة تحت عنوان “الدين والدولة” شارك فيها عدد من الباحثين والمختصين من تيارات مختلفة، بمن فيهم عدد من الأجانب، ودارت حوارات ساخنة وغنية إزاء مستقبل علاقة الدين بالدولة بعد التغييرات التي حصلت في تونس ومصر وليبيا واليمن، بل وعموم المنطقة .
وكنت قد سألتها عن معنى وجود معهد سويدي بالاسكندرية، فقالت إنه ملتقى للخبراء والفاعلين السياسيين والمدنيين بين منطقتي البحر المتوسط والشرق الأوسط ولا سيما العالم العربي ودول أوروبا من ذوي الرؤية المشتركة، وذلك تحت عناوين “الحوار من أجل التغيير” .
وبعد صدور قرار إجازة الأذان في جامع فيتيا التقيتها مجدداً، في الاسكندرية وكانت مرتاحة لصدور مثل هذا القرار، معتبرة ذلك جسراً لتعزيز الثقة بين المهاجرين والمجتمع السويدي، من أجل مواطنة متساوية وحقوق متكافئة، واحترام الخصوصية الثقافية في إطار الهوّية السويدية .
لعلّ هذه الخطوة تأكيد على الاختلاف والائتلاف في الآن ذاته، واحترام متبادل وفهم الآخرين ووجهات نظرهم وعاداتهم وطقوسهم ومقدساتهم .
إن بناء مستقبل العلاقات السويدية - العربية والإسلامية، يتطلب البحث في المشترك الإنساني في إطار احترام الثقافات والتعددية والتنوّع، بما يؤدي إلى تقليص الفوارق بين الجنوب والشمال والاستفادة من الثورة العلمية- التكنولوجية التي تسهّل التواصل وتبادل الخبرات وتبني الجسور واختصار المسافات بما يعزز دور الشباب والمرأة ويساهم في تقديم صورة إعلامية جديدة للعلاقات الدولية .