البحث الطريقي كعلم جديد للفهم الديني

تنقسم البحوث المتعلقة بفهم الخطاب الديني أو النص إلى ثلاثة أقسام، كالتالي:

1ـ البحث الإستنباطي للفهم، وهو ما يزاوله العلماء، باعتباره نوعاً من المعرفة المتعلقة بالموضوع الخارجي. فالإستنباط هنا هو بالمعنى الفقهي لا المنطقي، أي إنه إستخراج المعنى من النص الديني، كالذي يمارسه رجال العلوم الإسلامية. ويمكن أن ندرج ضمنه القواعد والنظريات الأصولية التي تطبّق على عمليات الفهم كما يمارسها علم اصول الفقه وغيره من العلوم الدينية.

2ـ البحث التاريخي للفهم، وهو معني بتطورات الفهم عبر السنين وما يعتري هذا الفهم من حالات الرقي والجمود عبر التاريخ، فتجري متابعة حالاته الثابتة والمتغيرة. ففيما يرتبط بالفهم المتغير يمكن أن تدرس الحالات المتعلقة بالقضايا الوصفية أو التقريرية الإخبارية، كتلك التي تستنبط من النص حول العلوم الطبيعية. كما يمكن أن تدرس الحالات المتعلقة بقضايا القيم والأحكام، ومقارنة كل ذلك قديماً وحديثاً؛ طبقاً للحاظ التأثير المتولد عن تطورات الواقع وتحولاته[1].

3ـ البحث الطريقي للفهم، وهو معني بمعرفة مناهج الفهم والقواعد التي يعتمد عليها والقوانين التي تتحكم فيه. كما يندرج ضمن البحث الطريقي كل ما يستجد من قواعد للفهم، وكذا طرائق التقييم والترجيح بين مناهج الفهم وأنساقه. ويدخل هذا القسم في صميم علم الطريقة، وهو نظير ما يجري بحثه في (فلسفة العلم). وبهذا الإعتبار يكون فلسفة للفهم. لكن إطلاق سمة المنهج والطريقة عليه أولى من إطلاق لفظ الفلسفة.

وللمنهج معنيان، اذ يُقصد به المعنى الإجرائي، كما قد يُقصد به المعنى الإبستيمي او المعرفي. ويعني الأول القيام بالخطوات والضوابط اللازمة للبحث. فمثلاً في البحث التجريبي على المجرب أن يأخذ بعين الاعتبار كل الخطوات التي تكفل للعملية التجريبية ان تكون مناسبة، دون ان ينقصها شيء من الشروط المعدة للبحث، كتحضير عينات من المادة المراد إجراء البحث عليها وتعريضها لظروف اختبارية مختلفة، والإستفادة من الأبحاث السابقة في هذا المجال، وتسجيل الملاحظات الخاصة بخطوات البحث وجمعها ثم تحليلها واستخلاص ما يمكن من نتائج. والأمر كذلك في البحث الفكري، فلكي يحاول المفكر أن يقدم نظرية ما او يشكل تصوراً دقيقاً حول قضية معينة؛ عليه أن يقوم بجملة من الإجراءات المنهجية كشرط للدقة في النتائج التي يمكن أن يتوصل إليها، من قبيل الإطلاع المسبق على النظريات والتصورات التي سبقت بحثه في القضية ذاتها، وكذا مقارنة هذه الافكار ببعضها أو القيام بنقدها ضمن نفَس موضوعي، وكذا أن لا يحمل صورة نهائية مسبقة حول القضية ليسقطها على البحث، وكل ذلك يعد من الإجراءات المنهجية للوصول الى نتائج نهائية دقيقة. لكن ذلك لا علاقة له بالبحث المنهجي بما يعبر عن نظرية في المعرفة الإبستيمية، ففي جميع الأحوال أن الباحث سيعوّل على منهج او أكثر من المناهج المعرفية؛ سواء التزم بدقة الإجراء المنهجي أم لم يلتزم. فقد يعتمد على المنهج التجريبي في قبال العقلي أو العكس، فهو وسيلة غرضها الكشف عن الحقائق عبر عدد من القواعد والمبادئ القبلية التي تعمل على تحديد سير العملية المعرفية، وكل ذلك لا علاقة له بالإجراء المنهجي الآنف الذكر. والذي يعنينا هو المعنى الإبستيمي للمنهج لا الإجرائي.

ومن مميزات البحث الطريقي (المنهجي) هو أنه يتضمن ما سبقه من بحث - البحث التاريخي - دون عكس. بمعنى أن البحث التاريخي للفهم لا يزاول التحقيق في قضايا المناهج والقواعد المعرفية وأساليب وضعها، وكذا القوانين التي تتحكم في الفهم، وما إلى ذلك مما يعود الى الجانب المنطقي، بل يتناول كل ما له صلة بالتطورات التاريخية، سواء من حيث الوصف أو التحليل. وهو بهذا يعمل كمراقب خارجي دون أن يعنى بصياغة منطق الفهم، أو الكشف عن القواعد والقوانين ووضع المنهج الخاص بالترجيحات المتعلقة بالأنساق المعرفية للفهم. في حين أن تضمن البحث الطريقي للبحث التاريخي صميمي لاغنى عنه، إلى الدرجة التي يصح فيها القول بأن البحث الطريقي من غير البحث التاريخي هو بحث أجوف لا معنى له.

ويلاحظ أن البحث الثاني (التاريخي) قائم على البحث الأول الإستنباطي، فإذا كان هذا البحث عبارة عن معرفة، فإن البحث الثاني هو علم متعلق بهذه المعرفة. والفارق بينهما هو أن البحث الأول عبارة عن علم قائم على موضوع خارجي، هو النص، في حين أن البحث الثاني قائم على الأمر المعرفي للبحث الأول، ولا علاقة له بالنص كنص. ويصدق الأمر أيضاً مع البحث الثالث، فإنه قائم على موضوع الفهم، وليس له علاقة مباشرة مع النص. وفي جميع الأحوال أن غياب أي من البحوث المعرفية الثلاثة السابقة سوف لا يفضي إلى غياب النص كموضوع خارجي، والعكس ليس صحيحاً، أي أن غياب النص يفضي إلى غياب هذه البحوث جميعاً.

ورغم أن الفهم يمثل معرفة المعرفة، لأن النص هو معرفة، والفهم القائم عليه يشكل علماً لهذه المعرفة، خلافاً لما عليه علم الواقع الخارجي، لأن الواقع لا يعد معرفة مثل النص، لكن ذلك لا يلغي حالة قيام بعض المعارف على البعض الآخر، إذ يكون بعضها موضوعاً ذاتياً للبعض الآخر، حتى ينتهي الأمر إلى الموضوع الخارجي المتمثل بالنص. فإذا كان موضوع الفهم هو النص، كإن يفهم هذا النص أو ذاك، فإن العلم الذي يتناول الفهم لا علاقة له بالنص مباشرة، بل يتعلق بالفهم ذاته.

وعندما يكون هذا العلم منهجياً، بمعنى أنه يهتم بالمناهج، نعبّر عنه بأنه علم لمنهج الفهم، وهو ما نسميه علم الطريقة. وهو العلم الذي يدرس مناهج الفهم ويوضح العلاقة فيما بينها وبين تأسيساتها القبلية، ومن ثم بين هذه التأسيسات وبين الفهم.

فالتأسيسات القبلية للنظر هي قبليات معرفية يُعتمد عليها في الفهم سلفاً. كما يُعتمد عليها في كل معرفة تتعلق بإدراك الواقع الخارجي العام، وكذا كل علم تقني خاص بالعلوم الطبيعية والانسانية. وبعبارة أُخرى أن كلاً من الإدراك والعلم والفهم قائم على تلك التأسيسات، أو ما نطلق عليها (القبليات المعرفية). فبدون هذه الأخيرة لا تقوم لتلك المعارف والعلوم قائمة. فالقبليات هي ما تتيح لنا الفهم والتفكير حتى وإن لم نتعقلها، فنفكّر بها وإن لم نفكّر فيها.

ونقصد بالقبليات المعرفية ما هو أعم من مفهوم (المعارف القبلية)، ذلك أن المفهوم الأخير يراد به عادة كل معرفة عقلية سابقة للحس والتجربة، أما ما نقصده من المصطلح الآخر فهو كل معرفة تسبق قراءة النص، سواء كانت معرفة حسية أو عقلية أو غيرها. بمعنى أن القضايا البعدية في المسائل الحسية تصبح بدورها من القبليات المعرفية لقراءة النص وفهمه. فمن حيث الحس - مثلاً - نعلم أنه ليس للأشياء المادية إرادة، وهي قضية بعدية وليست قبلية. لكنها تقع موقع القبليات المعرفية في فهم الكثير من النصوص الدينية، كقوله تعالى: (فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه)[2]، إذ طبقاً لمعرفتنا القبلية المتمثلة بمعرفتنا الحسية؛ لا يمكن أن نفسر إرادة الجدار بالمعنى الحقيقي للإرادة.

ويمكن حصول العكس، وهو ان البعديات في الفهم الديني وقراءة النص قد تصبح من القبليات في المعرفة المتعلقة بالأمور الخارجية، ومن ذلك ما يصرح به النص من وجود الملائكة أو الجن وما إليه، فهو من القبليات الدينية مقارنة مع ما عليه الواقع الموضوعي والوجود الخارجي، بإعتبار أن معرفته ليست مستمدة من التجربة والحس، كما أنها ليست عقلية ولا وجدانية.

وإذا جاز لنا تقسيم الفهم - وكذا مطلق الفكر - الى بنية أساسية وأُخرى سطحية؛ فإن البحث الطريقي يقع موقع البنية الأساسية للفهم، في حين يندرج البحث الاستنباطي ضمن البنية السطحية له. حيث في جميع الأحوال أن البحث الإستنباطي قائم - من الناحية المنطقية - على البحث الطريقي دون عكس. وتوضيح هذه المسألة يعتمد على ما للقبليات من دور في بناء الفهم وتأسيسه، وهي التي تشكل صلب الموضوع الذي يعالجه علم الطريقة بالبحث والتحقيق.

وهذا يعني أن جميع البحوث المناطة بموقف الإسلام من القضايا الإجتماعية والسياسية والإقتصادية والعلمية وما إليها؛ هي بحوث ترتبط بالبنية السطحية (أو البناء الفوقي للفهم)، ومن ذلك ما يتعلق بكيفية نظام الحكم السياسي وفقاً للإسلام، ودور الأخير في تحديد صور المؤسسات الإقتصادية والإدارية، وكذا ما يرتبط بالحريات الفردية والإجتماعية وحقوق الإنسان والمرأة، والموقف من الفِرق المذهبية والمجتمعات غير المسلمة وحالات السلم والصراع، ومثل ذلك الموقف من الديمقراطية وعلاقة الإسلام بالعلم والنهضة، وكذا تحديد كيفية الإجتهاد والإستنباط وصور التكليف والفروض الدينية التي أشبعها الفقهاء بالبحث والدرس، وغير ذلك من المجالات الحياتية. فجميع هذه البحوث لها علاقة بالبنية السطحية، ولها أهمية ضئيلة مقارنة بما عليه البحوث المتعلقة بالبنية الأساسية (أو البناء التحتي للفهم)، بإعتبار ان الأولى متوقفة على الأخيرة دون عكس. بل أن الأولى كثيراً ما تصادر الموقف الذي عليه البنية الأساسية - ضمناً - دون وعي، ولو أن البحث جرى في الأخيرة لكان قد إختلف الموقف المتعلق بالبحث في الأولى أو البنية السطحية للفهم.

لذا كثيراً ما يصاب الحوار المذهبي بحوار الصم والطرشان تبعاً لقيام المتحاورين على عرض وجهة نظرهما وفقاً للبنية السطحية، مع تضمن ذلك موقفاً مسبّقاً غير ملتفت إليه يخص البنية الأساسية أو البناء التحتي للفهم. فجوهر الصراع – هنا – يجري وفقاً للبنية الأخيرة من غير وعي ولا شعور، وهو ما يؤدي إلى الصراع الأول الخاص بالبنية السطحية للفهم. وبالتالي يتصف كلا المتحاورين بعدم فهم ما لدى الآخر. ولا ينفع أن يكون الحوار معتمداً على بنيتين مختلفتين؛ فينطلق أحد المتحاورين وفق البنية الأساسية، فيما ينطلق الآخر وفق البنية السطحية. إذ في هذه الحالة أن من ينتمي إلى البحث في البنية الأساسية يفهم ما لدى الآخر، في حين لا يفهم الآخر ما لدى الأول، فيكون الحوار غير متوازن، وكأنه حوار بين يقظ وسكران.

لكن مع الأخذ بعين الإعتبار أن البنية السطحية لها طبقات مختلفة، فقد تكون سطحية تماماً، أو أنها وسطى، فهي سطحية بالنسبة للأساسية منها، لكنها تحتية مقارنة بما فوقها. ويمكن أن نعبّر عن ذلك بوجود ثلاث بنى مختلفة، سطحية ووسطى وأساسية. وتتصف الوسطى بأن لها صفة مزدوجة مقارنة بما فوقها وتحتها. فمثلاً أن التعرف المباشر على فتوى في قضية ما، أو تفسير آية معينة، أو موقف الإسلام من مسألة محددة.. كل ذلك يجعل المعرفة تنتمي إلى البنية السطحية الصرفة للفهم. في حين أن تعليق هذه المعرفة على أبحاث أخرى، كاللغة والدلالة وعلم الحديث والرجال وغيرها.. كل ذلك سيجعل من الفهم منتمياً إلى بنية ثانية وسطى هي بمثابة التحتية للأولى، لكنها تظل سطحية أو وسطى مقارنة بالثالثة التي تبحث بما هو تحت هذه المباحث من قبليات الفهم ودوائره المنهجية. لهذا فالعلم الدقيق هو ذلك الذي يتدرج من البنية الأساسية إلى السطحية مروراً بالبنية الوسطى. ونحن نميل إلى جعل كل ما يتوقف على البنية الأساسية دون وعي بأنه يدخل ضمن البنية السطحية للفهم.

فالبنية الأساسية هي شرط إمكان المعرفة وإن لم يعِها الباحث أو يفكر فيها. فلا تتأتّى معرفة هذا الشرط من دون «حفر» للوصول إلى أقصى منابع توليد الفكر. ولا نقصد بذلك حصر العملية بزمن معين كالتي تتناولها اركيولوجية ميشيل فوكو، بل يكفينا التفكير في النظام المعرفي ولو لم يُحدد بعصر ما دون غيره؛ لتداخل العصور أحياناً، ولأن الزمن المعرفي لا يتطابق بالضرورة مع الزمن التاريخي للعصور، سواء على صعيد المجتمعات أو حتى على صعيد الأفراد أنفسهم. فكم من عالِم عاش قديماً وهو يفكر على شاكلة ما يفكر به أبناء عصرنا الحديث.. وكم من فرد – أو مجتمع – معاصر لا يعي التفكير إلا على نمط ما تفكر به المجتمعات الخالية!

من جهة أُخرى، عندما يكون الفهم الديني فهماً كلياً شمولياً فانه يدخل ضمن إطار الفهم الطريقي. أما عندما يكون هذا الفهم جزئياً فسيندرج ضمن إطار القواعد الصغرى الجزئية؛ كالتي يعالجها الفهم الأصولي ضمن الدائرة البيانية. وتوضيح ذلك كالتالي:

تارة يقام الفهم بحسب الفهم الطريقي الذي له قواعده وقوانينه الخاصة ضمن ما اطلقنا عليه علم الطريقة، وأُخرى يقام بحسب القواعد الصغرى الجزئية؛ كتلك التي يؤطرها الفهم الأصولي ضمن الدائرة البيانية، والتي تتشكل بحسب ما عليه الفهم الاول (الطريقي). فلكل دائرة معرفية قواعدها الخاصة للفهم، وهي على نوعين: صغرى وكبرى. وتمثل هذه الأخيرة اصولاً مولدة للفهم والتوليد المعرفي، وهي التي تشكل موضع دراسة علم الطريقة.

فالدائرة البيانية - مثلاً - قائمة على القاعدة الكبرى المعبّر عنها بالفهم العرفي للنص، ومن خلال هذه القاعدة يتشكل فهم النص كوحدات تامة وكافية للفهم دون حاجة لعناصر أُخرى عارضة، كالعقل والواقع وما اليهما. وهي على خلاف غيرها من الدوائر المعرفية، كتلك التي ترى وحدات النص غير كافية للتعبير عن الفهم المطلوب؛ ما لم يؤخذ بنظر الاعتبار فهم الواقع، سيما الواقع المرتبط بها. والوظيفة الملقاة على عاتق علم الطريقة هي دراسة هذه الدوائر بما تتضمنه من قبليات، أو بما تحمله من قواعد كبرى أو أصول مولدة قبلية، لذا فهو علم شامل وكلي، إذ تختلف القوانين والقواعد التي يبحثها عن تلك التي تتناولها الدوائر المعرفية بالفهم والتحليل.

فمثلاً تتحدد قواعد الفهم الأصولي للدائرة البيانية بتلك التي يتناولها علم الأصول وغيره من العلوم البيانية، كقاعدة العموم والخصوص والنسخ وحجية الظهور وما إليها. وهي قواعد قبلية يعتمد عليها الفهم البياني، إذ يراد من قاعدة العموم والخصوص - مثلاً - الجمع بين نصين متعارضين أحدهما يقبل تخصيص الآخر دون تنافي. ومع أن هذا ما يسلّم به علم الأصول من الناحية القبلية، لكن يلاحظ ان هناك خيارات قبلية أُخرى ممكنة، إذ يمكن أن يقال بأن العلاقة بين النصين المتعارضين القابلين للجمع عبر التخصيص هي علاقة ناسخ بمنسوخ، أو يقال بأن أحد النصين يدور في فلك هو غير فلك الآخر، كما قد يحتمل حلول الوضع والتغيير في أحد النصين أو كليهما... الخ. فجميع هذه الخيارات مطروحة في علم الأصول، وإن كان ترجيح هذا العلم هو لصالح التخصيص دون غيره ضمن عملية ما يمهده من الممارسة الإستنباطية التي يتولاها علم الفقه. وقد يكون للإعتبارات النفعية (البراجماتية) دور رئيس في مثل هذا الترجيح. وكشاهد على ذلك، أنه لو تردد الأمر بين النسخ والتخصيص فإن العلماء يحملونه على التخصيص، بإعتبار أن النسخ رفع للحكم والتخصيص دفع له لا رفع، والدفع أهون من الرفع[3].

هذا فيما يتعلق بالوظيفة الأصولية للفهم، أما الوظيفة التي يمارسها الفهم الطريقي فبعيدة عن التمهيد لعملية الإستنباط. اذ ينبني التمهيد لهذه العملية طبقاً للقواعد الصغرى الخاصة بالفهم البياني، في حين أن ما يقوم به الفهم الطريقي هو البحث في القواعد الكبرى التي تتأسس عليها القواعد السابقة، كذلك البحث في أساليب الترجيح المتعلقة بالدوائر المعرفية وأنساق الفهم الدينية؛ بغية الوصول الى قيمة ما تمارسه هذه الدوائر والأنساق من فهم. فهدف البحث الطريقي يدور حول ما إذا كان يمكن للنص المجرد - من الناحية الكلية - تحديد المعنى المطلوب بمعزل عن عناصر أُخرى أم لا؟ وما إذا كانت قاعدة العموم والخصوص - مثلاً - يمكن الإعتماد عليها دائماً، أم أنها مقيدة بقضايا الأحكام وما إليها دون العقائد؟ وماذا بشأن الاحتمالات الأُخرى المنافية لها كما عرضناها آنفاً؟

وعلى العموم أنه إذا كانت قبليات الفهم الأصولي تتحدد بقواعد مثل قاعدة العموم والخصوص؛ فإن قبليات الفهم الطريقي تتحدد بقواعد أوسع وأشمل تتوقف عليها القواعد الأولى. بمعنى أن الفهم متوقف على القواعد الصغرى، ومنه تتشكل العلوم الدينية وغيرها من العلوم التي تستهدف الفهم الديني، لكن هذه القواعد تتوقف بدورها على القواعد الكبرى، وهي ما تشكل مادة البحث الطريقي، كما هو الحال - مثلاً - في قاعدة الفهم العرفي للنص الذي تتأسس عليه قواعد علم الأصول وغيره من العلوم البيانية.

لذلك فقد سبق أن اعتبرنا البحث الطريقي لا يتضمن علم الأصول رغم كونه من العلوم المنهجية أو المنطقية، وذلك لإعتماده على النص كمصدر معرفي للإستنباط، في حين يتموضع النص لدى علم الطريقة بموضع الفهم لا الإستنباط. فوظيفة الأخير – الإستنباط – تصادر جملة من القواعد والأصول لإعتمادها على بعض الدوائر المعرفية. وهذه المصادرة وما تتضمنه من قواعد وأصول مولدة هي ما يبحثها علم الطريقة.

ويلاحظ أن لعلم الطريقة مستويات ثلاثة من البحث كالتالي:

الأول: التحليل، حيث يُرصد فيه نتاج العلماء من الفهم وتحليله من خلال ارجاعه الى القبليات والأصول المولدة وطرائق الفهم المختلفة. فإذا كان البحث الإستنباطي يتبنى عن وعي أو عن غير وعي طريقة محددة للفهم، وهو بهذا غير معني بدراسة طرائق الفهم، فإن علم الطريقة يعمل على دراسة هذه الطرائق بتحليل نتاج العلماء كما وردتنا.

الثاني: ضبط المعايير الخاصة بالترجيح بين المناهج والنظريات، إذ تقتضي مهمة علم الطريقة البحث عن الضوابط والمعايير اللازم اتخاذها في الترجيح بين مناهج الفهم ونظرياته المتعارضة.

الثالث: السعي نحو تأسيس معايير منضبطة لإنتاج نظريات وأنساق ذات كفاءة عالية للفهم.

ويتبين مما سبق بأن علم الطريقة ليس علماً يتوقف عند حد الوصف والتفسير لما هو كائن من نظريات الفهم وأنساقه، بل الأهم من ذلك أنه علم معياري يهتم بما ينبغي تأسيسه من ضوابط ومعايير للترجيح بين النظريات والأنساق أو إنتاجها. وهو ما نعمل على إنجازه[4].

لكن عندما يوضع علم الطريقة كموضوع للبحث والنقاش من حيث أهليته كعلم جديد، وكذا مشروعية ما يتبناه، ومن ذلك مشروعية المعايير التي يصادق عليها، والموضوعات التي يضطلع بالإهتمام بها كمقدمات لبحث (الفهم) .. فكل ذلك يجعل من البحث بحثاً فلسفياً يمكن أن نطلق عليه (فلسفة علم الطريقة). وأهمية هذه الفلسفة أنها تعمل على رفد علم الطريقة بالأفكار المناسبة التي ينبغي أخذها بعين الإعتبار ضمن دائرة الإهتمام التي يشتغل عليها هذا العلم، فضلاً عن تصحيح مباني الأخير أو إصلاحها، مما يخضع جميعاً للبحث والنقاش النظري المجرد. فكل علم فيه ما هو أساس مفترض، كما فيه ما هو خاضع للخيار وقابل للنقاش والأخذ والرد. وعلم الطريقة بمعاييره وقواعده وموضوعاته يخضع لهذا الإعتبار من التمييز.

وقد يقال أن هذه المسألة تطرح أشكالية تخص المعايير المعتمدة، فإذا كان علم الطريقة قائماً على جملة من المعايير، فإن فلسفته ستقوم هي الأخرى على معايير لهذه المعايير، ولو أننا بقينا نستمر على هذه الشاكلة لكنّا نحتاج إلى سلسلة غير متناهية من المعايير. وذات الشيء يمكن قوله بصدد فلسفة الأشياء، إذ تحتاج إلى فلسفة قبلها هي فلسفة الفلسفة، وهذه أيضاً بحاجة إلى فلسفة أخرى قبلها وهكذا بلا نهاية. لكن الصحيح هو أنه لا بد من التوقف عند حد معين قابل للتبرير، ولو أننا تجاوزنا هذا الحد لسقط العلم كله. وبالتالي فعندما نقول أن هناك معايير لا غنى من الإعتماد عليها هو لأنها غير قابلة للرد والإرجاع بإعتبارها مسلمات أصلية مبررة للعلم المخصوص، فلو أننا أرجعناها جميعاً إلى غيرها لبطل هذا العلم. ومن ثم يمكن إستبدال الإشكالية على نحو صحيح كالتالي: هل أن هذه المعايير - أو بعضها على الأقل – مقنعة؟ فقد تكون مقنعة لإعتبارات معينة؛ ككونها تفتح آفاقاً من البحث الجديد، أو كونها مفيدة للإعتماد عليها في الكشف عن قيم الأنساق المعرفية ومناهج الفهم... إلخ. لكن لو لم تكن - المعايير - مقنعة أو صحيحة بالجملة؛ ففي هذه الحالة يصبح العلم المخصوص كاذباً أو بلا لزوم.

وعلينا أن نعترف بأن كل علم وكل مفهوم لا بد من أن يمر ببداية غامضة، ثم بعد ذلك تتضح دلالته شيئاً فشيئاً. فحتى المفاهيم المتعلقة بالعلوم الطبيعية لا تخلو من هذه الحقيقة. وعلى ما يقوله (آلان شالمرز) فإن «تاريخ مفهوم ما، سواء كان مفهوم العنصر الكيميائي أو الذرة أو اللاشعور أو غيرها، يبدأ بالإنبثاق في شكل غامض ثم ينتقل إلى مرحلة الإيضاح التدريجي عندما تأخذ النظرية التي يدخل جزءاً فيها، في اكتساب الدقة وتصير أكثر تماسكاً»[5]. ومثلما ترد شواهد على هذا المعنى من العلم الطبيعي ذاته، فإنه ترد أيضاً شواهد عليه من الفلسفة التي تناولت هذا العلم، أو من غيره من العلوم والفنون، ومن ذلك أن فيلسوف العلم ذائع الصيت (توماس كون) قد أقر بأنه استعمل مصطلح بارادجم «نموذج إرشادي» بمعنى ملتبس عند تأليفه لكتاب (بنية الثورات العلمية)، ففي غضون سبعة أعوام منذ صدور الطبعة الأولى للكتاب أصبح هذا الفيلسوف – كما يقول - أكثر فهماً واستيعاباً لعدد من قضايا الكتاب وعلى رأسها ما يتعلق بالمصطلح المشار إليه، وذلك بفضل ردود النقّاد وبذل المزيد من جهده الخاص[6]. وينطبق المعنى السابق على علم الطريقة، حيث سعة الإيضاح والدقة التي نسجلها اليوم هي ليست كتلك التي وردت بداية استخدامنا للمفهوم عند تأليف هذا الكتاب (سنة 1994)[7]، ويمكن أن نُرجع ذلك إلى ما أطلقنا عليه (فلسفة علم الطريقة). وذات المعنى ينطبق على النظام الواقعي الذي نتبناه كمنهج للفهم.

 


[1] انظر بهذا الصدد الفصل الرابع من كتابنا جدلية الخطاب والواقع، طبعة دار أفريقيا الشرق.

[2] الكهف/77.

[3] انظر مثلاً: حسن بن زين الدين العاملي: معالم الدين وملاذ المجتهدين، إخراج وتحقيق وتعليق عبد الحسين محمد علي بقال، منشورات مكتبة الداوري في قم، ص308ـ310.

[4] انظر بهذا الصدد كتابنا: منطق فهم النص.

[5] آلان شالمرز: نظريات العلم، ترجمة الحسين سبحان وفؤاد الصفا، دار تويقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الاولى، 1991م، عن مكتبة المصطفى الإلكترونية www.al-mostafa.com، ص85.

[6] توماس كون: بنية الثورات العلمية، ترجمة شوقي جلال، سلسلة عالم المعرفة (168)، 1413هـ ـ1992م، ص243. ونظريات العلم، ص96.

[7] انظر التفاصيل المتعلقة بعلم الطريقة في كتاب: منطق فهم النص.

المصدر: http://almothaqaf.com/index.php/derasat/75444.html

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك