التسامح وصِلاته الدينية
جعفر المظفر
حينما يجري الحديث عن التسامح وتتم مقارنة المجتمعات المسيحية مع المجتمعات الإسلامية غالبا ما تأتي المقارنة لصالح الأولى, وأنا هنا ليس هدفي مطلقا الدفاع عن الإسلام وإنما أنوي تصويب حقيقة ربما ضاعت في وسط الإنحيازات المسبقة التي جعلت البحث في مسائل هامة كمسألة التسامح تنتهي بشكل سياقي إلى نصرة الجانب الذي يدعيها حتى ولو تطلب ذلك إيجاد صلة بين ظواهر وبين أسباب لا علاقة لهذه الظواهر بها.
لا يهمني هنا أن أنتهي إلى الانحياز لهذا الجانب أو ذاك وإنما يهمني أن لا يتأسس هذا الانحياز على عواطف الانتماء الديني الموروث الذي يعقر قدرة البحوث العلمية على الجري إلا بإتجاه النهايات التي يرسمها لها.ولعل ما من سلوك أو ظاهرة تستخدم اليوم في حلبة الصراع بين أنصار الدينين مثل قضية التسامح, فالمسلمون يدعون بأن دينهم هو دين التسامح ولا يعدمون قدرة استخدام الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في سبيل تثبيت هذه الفرضية, أما المسيحيون فلن يصعب عليهم مطلقا القول أن نببيهم ودينهم قد قام أصلا على التسامح بينما قام الإسلام على الغزو والحروب وفرض وصايته بحد السيف على الآخرين. ولست ميالا مطلقا للتعارض مع الإشارات الأخيرة لأن المسلمين أنفسهم لا ينكرون مطلقا أنهم قاموا بنشر دعوتهم من خلال الفتوحات العسكرية وإنهم كانوا وصلوا إلى الأندلس بحد السيف.
ومع ذلك فإن هذه المقارنة ليست عادلة وغير متوازنة, ففي وسط الأجواء الإعلامية المنحازة وبمباركة من دوائر ذات مصلحة سياسية إستخدامية للأديان وفي وجود التيارات السلفية الإسلامية التكفيرية التي لم تألوا جهدا في ممارسة الجريمة ضد الأديان جميعها, ناهيك عن الواقع المتخلف الذي يعيشه المسلمون والذي لا يمكن تبرئة الغرب من المساهمة في تكريسه, فإن المقارنة لا بد وأن تأتي لصالح المجتمعات "المسيحية" الغربية التي لا أحد بوسعه أن ينكر أنها أفلحت في بناء نظام ديمقراطي علماني حر يحترم حقوق الإنسان في مقابل مجتمعات " مسلمة" جاهلة ومتخلفة وقمعية.
ليس هناك اعتراض على أن المجتمعات "المسيحية" الحالية هي بالفعل مجتمعات متسامحة وإن المجتمعات الإسلامية هي مجتمعات بعيدة عن التسامح, لكن فكرة المقارنة بهذا الشكل هي فكرة مخطوءة كونها تفترض أن روح التسامح في الأولى وتراجعها في الثانية ذا منشأ ديني, الواقع أن هذه القيمة الأخلاقية الحالية هي انعكاس للحالة الاقتصادية والاجتماعية وللتحديات التي تعيشها المجتمعات, داخليا وخارجيا, ولا يلغي ذلك وجود تأثير ديني جوهري بهذا الاتجاه, لكن هذا التأثير المنحصر في إطاراته الأخلاقية والثقافية لم يكن قادرا لوحده أن يخلق هذا التطور التسامحي.
ليس انتقاصا من المسيحية أن نقول إن التسامح في المجتمعات الأوربية ليس في حقيقته نتاجا خالصا للمسيحية, , وإنما هو في الحالتين, شأن ونتاج لحالات تتجاوز المسألة الروحية والأخلاقية الدينية إلى منظومة متفاعلة من قيم ومناهج وآليات اقتصادية واجتماعية لا يمكن أن تحسب على الأديان أو تحسب لها وإنما هي ناشئة من طبيعة المناهج الوضعية التي تنتمي إليها.
في الحالتين, الإسلامية والمسيحية, كانت السياسة والمناهج التطبيقية ذات الأسس الوضعية البحتة هي التي تقف وراء نكوص التسامح أو تطوره. أما القيم الأخلاقية للأديان فهي تأتي لتعزز هذه المناهج الوضعية, وحينما تغيب الأخيرة أو يتخلف فعلها الإنساني فإن الأديان لن يكن بمقدورها أن تقدم شيئا, لا بل أنها قد تؤدي إلى عكس ما تنادي به من قيم وتعاليم أخلاقية نظرية.
إن ثمة تواريخ لمختلف الأمم ذات الديانات المتنوعة تؤكد على عظمة الإنجازات الإنسانية لهذه الأمم, لكن هناك بالمقابل ثمة تواريخ تشير إلى العكس, ففي حياة الأمم المسيحية هناك عقود تاريخية تتوارى عنها الإنسانية خجلا, ولو ترك للمسيحية وحدها أن تقرر شكل العلاقات الاجتماعية للسود لما وجد المؤسسون الأمريكيون صعوبة تذكر في العثور على تعاليم وثقافات دينية تبرر استعباد الأبيض للأسود.
والحقيقة أن المجتمعات المسيحية لم تتسامح مع نفسها إلا حينما انتصرت على سلطة الكنيسة وأبعدت رجالها عن الهيمنة السياسية والفكرية. ليس معنى ذلك أن جوهر المسيحية لا يقوم على التسامح ولكن ذلك معناه أن بإمكان التعاليم الأخلاقية والروحية المجردة عن آليات ومناهج مادية وضعية أن تفعل العكس, وفي الأديان جميعها هناك قدرة على الاستخدام الانتقائي ولتجريد التشريع من مكانه وزمانه وتحويله إلى مقدس في خدمة رجال الدين لا الدين نفسه.
من كل ما تقدم يتبين بوضوح أن هدف المقال هنا لم يرتكزعلى غاية استجلاء ما إذا كان التسامح هو جزء جوهري من هذا الدين أو ذاك, أو على حساب هذا لذاك, وإنما لغرض التأكيد على أن التسامح في المجتمعات المسيحية الحالية ليس نتاجا لفكر الكنيسة وأخلاقيات الدين المجردة وإنما هو نتيجة لمناهج وضعية أسس لها الاقتصاد والتقدم العلمي أكثر مما تأسست بفعل الدين ذاته. لكن ذلك لم يشترط أبدا أن يكون هناك طلاق نهائي بين الدين والسياسة وإنما اشترط أن يكون هناك توفيق بينهما بإتجاه لا يعرقل التقدم ولا يضع وصاية عليه إلا للعقل والحاجة والأخلاق.