التسامح والمسؤولية الفكرية
عقيل عيدان
يعالج الفيلسوف كارل بوبر (1902- 1994) موضوع التسامح المتبادل مستعيناً بأفلاطون وفولتير مشدداً على أن التسامح يقضي على الفكرة التي يتمسك بها معظم الناس وهي الوصول إلى الانتصار في الحوار أو المساجلة. فالتخاطب أو الحوار هدفه تسجيل انتصار مشترك عن طريق التوصل إلى الحقيقة التي تنتمي للفريقين وليس لفريق دون آخر. وذلك لا يتم إلاّ عبر التسامح المتبادل.
وغالباً ما نرى مفاوضات تفشل وحواراً يقطع بسبب تسامح فئة وتشدد فئة أخرى. ومن الواضح أنه لهذا الواقع علاقة بميزان القوى حيث يفرض القوي رأيه على الضعيف، وما لم يدرك القوي أن التوازن هو المطلوب وأنه لا بد من تبادل التسامح فلن يكتب لأي حوار أن ينجح.
وفي تقديري أن تمسك صمويل هانتنغتون بنظريته حول صدام الحضارات لم يتأت إلاّ بعد أن تأكد من افتقار الفئات الدينية لميزة تبادل التسامح. فاللاتسامح الذي يبني عليه هانتنغتون استنتاجاته يعود إلى الرأي القائل أنه من بين الأشكال كافة التي يتخذها اللاتسامح، من المرجح أن شكله الديني (أي اللاتسامح الديني)، هو الشكل الذي تسبب في حدوث القدر الأكبر من الأذى.
فكما أن اللاتسامح هو توأم التشبث بالرأي، فالتسامح هو توأم النقد الذاتي. لذا فالمطلوب في الحوار، من جميع الفرقاء أن يتحلوا بخلقية النقد الذاتي والاعتراف بالخطأ عوضاً عن العمل على تغطيته. وفي الوقت ذاته عليهم التحلي بخلقية التسامح لأن كل ابن آدم خطّاء. وبين الاعتراف بالخطأ والتسامح تجاهه تكمن الرغبة الصادقة للتعاون على حل القضايا الناتجة عن الخطأ. ومع كل عملية في هذه المعادلة: (خطأ وتسامح وحل)، نقترب من الحقيقة التي ننشدها جميعاً لخدمة الإنسانية.
يقول الكاتب بيتر باير في كتابه (الدين والعولمة) بأن العولمة لا مجال فيها لدين مؤثر كونياً لأن كل دين يعتبر نفسه المحتكر للحقيقة والتكلم باسم الله كما أوحي إلى من يعتبره رسوله. لذلك، فالحوار كي ينجح يجب أن يتجاوز أمور الدين.
وتأكيداً لكلام باير، وعلى سبيل المثال لا الحصر، صدر في عام 2000 عن الفاتيكان مستند يرفض اعتبار الأديان متساوية، ويضع الكاثوليكية في مستوى متميز، مما أثار حفيظة زعماء بقية الأديان بمن فيهم المذاهب المسيحية الأخرى من أرثوذكسية وبروتستانتية.
ويعتبر عدد من العاملين في حقل التقريب بين الأديان أن هذا الإعلان الفاتيكاني سيؤثر على جهود التقارب بين مختلف المذاهب المسيحية. هذا ما جاء في ردة فعل رئيس كنيسة كانتربري زعيم الكنيسة الأنجليكانية التي تعد قرابة 70 مليونا.
أما ردة الفعل العنيفة فقد أتت من أستاذ علم اللاهوت الكوني في جامعة توبينغن، ورئيس مؤسسة الأخلاقيات العالمية (ويليثوس) هانس كونغ (ولد 1928) الذي فضَّل العمل على الدعوة للتقريب بين الأديان عوضاً من أن يبقى مرتبطاً مرتبطاً بالكنيسة الكاثوليكية. وصرّح إثر سماعه ما أعلنه الفاتيكان بأنه عمل يدل على التأخر وجنون العظمة، ووصف الكاردينال الذي كتب الوثيقة بأنه منافق يعلن الرغبة في الحوار ويبطن التسلطية.
ودون أي شك، إن في البيان الصادر عن الفاتيكان دلالة واضحة أن الحوار بين الأديان عملية طويلة المدى لأن نفوس جميع الأطراف تحتاج وقتاً لفهم وقبول الآخر بعد التشبع تاريخياً وحاضراً ديناً ودنيا بالاختلاف عن الآخر.
في مسرحية (ناثان الحكيم)، يجعل الناقد والكاتب المسرحي الألماني غوتهولد أفرايم ليسنغ (1729- 1781) القائد المسلم الشهير صلاح الدين الأيوبي يسأل الحكيم اليهودي ناثان: ((أي عقيدة، أي قانون أنار عقلك أكثر من غيره؟)). فيجيب ناثان: ((أيها السلطان، إنني يهودي!)).
فيتابع صلاح الدين السؤال: ((وأنا مسلم، والمسيحي بيننا. ما هذه الأديان الثلاثة التي لا يمكن إلاّ لواحد منها أن يكون صحيحاً؟!)).
أجاب ناثان بالمثل الشهير الذي قال فيه:
ألاَ يستند جميعها إلى تاريخ مكتوب أو منقول؟
ألاَ يجب أن يُقبل التاريخ على أساس الأمانة والإيمان وحدهما، أليس كذلك؟
والآن أي أمانة وإيمان لا يضعه المرء موضع الشك أكثر من غيره؟
أمانته وإيمانه هو؟
أولئك الذين نحن من صلبهم طبعاً؟
أولئك الذين أعطونا منذ الطفولة تجارب محبتهم طبعاً؟
أولئك الذين لم يخيبوناً أبداً حين كان تخييبنا أنفع لنا؟
كيف أستطيع أن أصدق آبائي أقل مما تصدق آباءك، أو العكس؟
هل أستطيع أن أطلب منك أن ترمي أجدادك بالكذب كي لا تعارض أجدادي، أو العكس؟
والشيء نفسه ينطبق على المسيحيين، أليس كذلك؟