فكرة التسامح
زهير كاظم عبود
تبدو الحاجة أحياناً الى تبني مواقف تتطابق مع المشاعر الإنسانية ، وهذه المشاعر التي تجسدها القيم والاعراف الخيرة التي بقيت في أعماق نفوس العراقيين ، والموروثة منذ أجيالهم الأولى وحرصوا على تداولها والتفاخر بها ، والتي لم تستطع سلطات الموت والطغاة أن تقتلعها من أرواحهم ، لم تزل تعبر عنها في السلوك الجمعي أو اليومي بين الأفراد سواء داخل العشيرة أو المجتمع ، أن اشاعة ثقافة التسامح بين العراقيين وتفعيل دور الحوار الوطني والتسامح يشكل مطلباً وحاجة وطنية ينبغي التمسك بها كعامل مساند لعملية إنقاذ المواطن العراقي من دوامة العنف والأرهاب والتصدع الحاصل في جدار الوطن والشروخ التي حصلت – ومهما كان أسبابها – بين القوى الأجتماعية والسياسية في العراق .
والتسامح يعني الجُودُ ، وفي الحديث: يقول الله عز وجل: أَسْمِحُوا لعبدي كإِسماحه إِلى عبادي؛ الإِسماح: لغة في السَّماحِ؛يقال: سَمَحَ وأَسْمَحَ إذا جاد وأَعطى عن كَرَمٍ وسَخاءٍ؛ وقيل: إِنما يقال في السَّخاء سَمَح، وأَما أَسْمَح فإِنما يقال في المتابعة والانقياد؛ ويقال: أَسْمَحَتْ نَفْسُه إذا انقادت، والصحيح الأَول؛ وسَمَح لي فلان أَي أَعطاني؛ وسَمَح لي بذلك يَسْمَحُ سَماحة. وأَسْمَح وسامَحَ: وافَقَني على المطلوب ، كما تعني التيسير. والتَّساهُل: التسامُح . واسْتَسْهَلَ الشيءَ ( لسان العرب – أبن منظور ص 2790) .
ومؤكد إن ثقافة التسامح وتعزيزها بحاجة إلى التبسيط والشمولية وإلى أرضية مناسبة تتَّسم بمساحة من الفضاء الأنساني الذي تستطيع التحرك من خلاله الأطراف دون قيود أو تحديد ، والأرضية التي تعمل عليها ثقافة التسامح ، تكون فاعليتها مع وجود حقِّ التعبير وحقِّ الاختلاف والتحلي بالقدرة على الأستماع للرأي الأخر ، لأن مساحة الحرية تعتبر مساحة مساندة ضمن هذا الفضاء الأنساني المطلوب في ثقافة التسامح والمسامحة .
كما أن وجود مجتمع مدني يكون شريكًا فاعلاً مع الدولة التي لا بدَّ لها أن تعمل وفقًا لسيادة القانون وبالمساواة بين المواطنين، من دون تمييز بسبب الجنس أو الدين أو القومية أو الخلفية الاجتماعية أو الاتجاه السياسي أو أيِّ سبب آخر ، يساهم معها بشكل فاعل في إشاعة هذه الثقافة ، والدعوة للتمسك بهذا المنهج الذي لابد إن ينتج أثره في إنقاذ البلاد من التدهور الذي وضع عجلات مسيرته في هذا الزمن عليه .
من شروط نجاح التجربة الديمقراطية في العراق مرهون بما يتوفر من قناعة القائمين على مشروع التطبيق الديمقراطي في البدء بتطبيق ثقافة التسامح والقبول والتعايش السلمي مع من تختلف معهم ، وأيجاد صيغ من خلال القواسم المشتركة لتحمل المسؤولية بشكل مشترك .
وأذ تتشكل فكرة التسامح على أساس الأشتراك الجمعي في طي صفحة من الصفحات التي تخللتها حالات الأقصاء وتكميم الأفواه والظلم والتهميش بما لايصل الى درجة الجرائم الجنائية التي يتوجب أن يطالها القانون ، إذ يعتقد البعض أن فكرة التسامح ستكون سدا إمام الأجراءات القانونية بحق من ارتكب جناية ينبغي محاسبته عليها ، حيث سيكون القضاء هو الفاصل في ما ارتكبوه من افعال ، وفكرة التسامح تنبع ايضاً من أرادة الفرقاء الذين يرتضون بالتنازل عن بعض ماتراه جهة منهم على أنها حق ، قيمة التسامح تكمن في فلسفة حقوق الإنسان وشرعتها وتستمد أيضاً ركائز لها في في الفكر الأنساني ، فالتنازل لايصب لمصلحة الغير المقابل ، أنما يصب لمصلحة الجميع .
وحين يجد كل طرف إن الحق إلى جانبه ، وأنه يمتلك المشروعية ، فأن الأمر يدفع بأتجاه حصول تصادم طبيعي في الاعتقاد ، ينتهي الأمر إلى إظهار مغلوبين وغالبين، مهزومين ومنتصرين وخاسرين ورابحين ، وتكون النتيجة أنهم حلوا مشكلتهم تلك بكثير من التعصب وبقليل من التسامح ! فيتم الأنسيق غالباً إلى تطاحن وتعارض يعتمد الطائفية أو التناحر القومي المتعصب أو الى حرب من أشرس الحروب ، أسوة بكل الحروب الداخلية التي خسر بها الجميع والتي سجلها التاريخ البشري بكل حزن وأسى ، لم تشف شعوب منها و من جراحها حتى الآن ، ولهذا فأن اللجوء الى الحوار وإلغاء فكرة الأنتقام والثأر وأناطتها بالقانون ، يعتمد على أستعداد الأطراف التي تريد بناء مستقبلها على أساس تغليب المصلحة العامة على النزعات الشخصية والمشاعر الدفينة البعيدة عن التعقل والتروي في نتائجها .
أن خلق حالة من الثقة وطرح الأحكام المسبقة في قضايا الحوار يقود الى تسهيل التطبيق السليم لعملية التسامح ونشرها ضمن المجتمع ، فعملية الحوار هي من ضمن عوامل المصالحة الوطنية والوفاق الوطني ، وهي عمود من أعمدة التسامح كما ذكرنا .
أن الأيمان بثقافة التسامح والتوصل الى المصالحة الوطنية ، تشكل تلبية لنداءات الضمير العراقي والحاجة الماسة والملحة لهذا المنهج غير البعيد عن الممارسة الجمعية في العراق كما تفرضه الفطرة الإنسانية في الحياة العامة ، ويتداول اهل العراق العديد من الأمثلة والأشعار التي تشيد بالتسامح وترتقي به الى مصاف القيم التي يتفاخر بها الرجال ، مثلما قيل في مباديء القوانين أن الصلح سيد الأحكام ، وفي الآيات الكريمة ما يعزز التسامح والعفو عند المقدرة ، والأبتعاد عن العنف و نبذ روح الانتقام ، هذه الثقافة تشكل ترسيخاً قوياً لمعالم الوحدة الوطنية التي ينبغي بناؤها على أساس من الثقة وبعيداً عن الهواجس وحسابات الخسارة والربح ، هذه الوحدة الوطنية هاجسها أنقاذ العراق من التدهور المريع الذي يتدحرج اليه يوميا في حياة ووضع شائكين لايليقان بالعراق ، مع بروز نذر وأخاديد تشوه تاريخه الجميل ، وتقلق مستقبل أجياله ، وبالتالي تترك شقوق وخنادق بين أطيافه وفصائله التي تشكل جميعها العراق الحقيقي .
فأذا كان التسامح من بين معانيه الكرم والجود ، وبما عرف عن العراقيين من كرم وجود صار الأمر ضرورة أظهارهما عملياً ، والتسامح يعني أن تعتقد جميع الأطراف أنها معنية بموقف من شأنه أن يوصل الناس الى بر الأمان ويعيد الأمن والبهاء والحياة الأعتيادية الى العراق ، كما يتطلب الأمر أيضاً الدعوة الى ألغاء النظرة التشاؤمية التي بدأت تنتشر بين الناس وأحلال البدائل المضيئة في حياة الناس ، ومن النظرات التشاؤمية التي بدأ يطرحها قسم من الناس المحبطين ، تقول إن حكم الطاغية الدكتاتور بالرغم من سلطته الباغية وقمعه وطغيانه الا إنه كان يوفر للجميع ، ويفرض سيطرته وقوته على الشارع ، وتتمنى الناس البسطاء إن تعود سلطة الدكتاتور على أن لاتبقى الأوضاع على ما عليه اليوم .
فكرة التسامح تنبع من الضمائر الحريصة على العراق ، وهي تتعارض قطعاً مع الحسابات المسبقة ، أو النيات غير الصافية ، وأزاء المحنة الكبيرة التي يمر بها العراق ، والتي هي سبب من اسباب ماخلفته الدكتاتورية وحقنته ، وهي تفوح اليوم بروائح ليس من بينها ما تتطابق مع قيم اهل العراق ، أمست الحاجة ماسة الى أبراز فكرة التسامح وطرح الأفكار الأخرى التي تتعارض مع عبور العراق الى ضفة الأمان والتخلص من الوجود الأجنبي .