من التسامح إلى الاعتراف
عامر عبد زيد
ظهر مفهوم التسامح منذ أمد في الفكر العربي، مما جعله ينتمي إلى الإشكالية المحورية التي ارتبطت بالطور الثاني وقد تمركزت مباحثها حول دراسة أسباب الهزيمة: هزيمة حزيران 1967 , وهزيمة الدولة الوطنية في بعض الأقطار العربية لإنجاز أسباب التقدّم والتنمية وتحرير الإنسان وعقلنه الفكر، والارتقاء بالثقافة لتكون مرآة يظهر عليها المنجز الحضاري والمعرفي والحقوقي والتقني، وتميهداً له في الآن ذاته، وقد نجم عن ذلك تفكير نقدي في "التراث" هذا المفهوم الإشكالي الذي اخترق بقوة الخطاب العربي منذ أواخر الستينيات إلى حدود زمننا هذا وطرحة العلاقة بين التراث والحداثة فظهر الحديث عن المفاهيم العقلانية والقيم الفكرية العلمية والتاريخية النقدية أو الإنسانية الخلقية التي تضمنتها مؤلفات المفكرين، والأدباء، والفلاسفة، والعلماء العرب، أو ارتبطت بسيرهم، وفي هذا السياق برزت المشاريع الفكرية النظرية المتعلّقة بقراءة التراث العربي والبحث في إمكانات جديدة. محكوم بالنظر في الثنائيات ومنها: التراث/الحداثة. الأصالة/المعاصرة. السلفية/التقدمية. العقلانية/الدغمائية (أو اللاعقلانية). العقل/الخيال. العلم/الأسطورة. الحداثة/القدامة. التسامح/التطرّف. قصيدة النثر/ القصيدة العمودية....ولعله كان لأحداث 11 سبتمبر 2001 وللحرب سنة 2003 -ولتأزم أوضاع القضيّة الفلسطينية ولتصاعد عمليات العنف والإرهاب والاستشهاد في شتى أنحاء العالم تعبيرا عن حقوق ضائعة، واحتجاجا عن أوضاع قائمة- الأثر البارز في مسارات الفكر العربي المعاصر من جهة طبع أطروحاته واهتزاز مواقفه وتحولها إلى حد بدا معه أنه يحيا وضعا قلقا، وإشكاليا تجاه الوعي بالذات والموقف من الآخر أو ضبط أطر التواصل وآليات العمل وما يرافق ذلك من بناء للتصورات والرؤى وتحديد آفاق القول والعمل.( )
هنا تأتي الايدولوجيا التي تتفاعل مع التغير على سبيل التوظيف والتجيش والاحتراب او على سبيل التعايش والتسامح ؟
وهناك نمطان من الثقافة ؛ الأولى:مرفوضة ، والأخرى: مقبولة ، إما المرفوضة فهي :
1-الأيديولوجية الشمولية : لقد أخذ هذا النمط من الأيديولوجيات بالزوال ، ونحن نعيش عصر زوال الأيديولوجيات (أعني به العصر الذي طغت فيه المذاهب الشمولية أو النظريات الكبرى ، ومشاريع الطوبة التي وعدت بإقامة فردوس أرضي يستعيد أو يمارس فيه الإنسان حريته ويبلغ كفايته , ويحقق سعادته) ( )لقد تزعزعت اليقينيات المطلقة والثوابت الراسخة والقبليات ، وأصبحنا الآن على عتبة عصر جديد ، لمصلحة نظرة جديدة أقل إطلاقا وثباتا .أما الوجوه السلبية لهذا النمط من الأيديولوجية فهي:
1- إن هذا النمط يطغي فيه الوجه السلبي على الإيجابي ، بمعنى إنها قد تفلح في أن تزين للمضطهدين أن في مقدورهم تحرير أنفسهم وتبديل أحوالهم ،لما هو أحسن .و بهذا تتمكن من تعبئة الجموع المؤدلجة في إسقاط الاستبداد ، وهذا أقصى ما تستطيعه يكمن في الاستيلاء على السلطة إنها يوتوبية تحقق الاندفاع والتهيج وقد تحقق التغيير وتكسر السائد المهيمن المسوغ للسيطرة ، إلا أنها أيضاً تترك آثاراً مدمرة اقتصادياً وإنسانياً بما تخلفه من ضحايا سواء كانوا من المؤمنين بها أو من غير المؤمنين .لكن ماذا بعد ذلك ؟
فهي لا تستطيع بناء النظام البديل الذي يتجاوز نواقص القديم ، لكن هذا الأمر بحاجة إلى رؤية عقلانية واسعة لا أيديولوجية طوباوية مشبعة بالعداء الذي يستبدل الاستبداد والعنف بآخر جديد ، لعل هذا هو السبب في أن أغلب الثورات تفشل في الربط بين اليوتوبية الدافعة للثورة والمشروع الأيديولوجي السياسي لأن الأخير بحاجة إلى رؤية عقلانية ولعل هذا أيضاً ما أجج كثيراً من الثورات وجعلها تلتهم أبناءها .
2- إن هذه الأيديولوجيات لم تزل القهر ولم تحقق الحرية ، بل إنها أوغلت في بناء آليات القهر ومعسكرات التعذيب والمقابر الجماعية وآليات التضليل والتزييف على مختلف الصعد والأشكال .
3- إنها لم تنتج نظاماً تعددياً مثلما رفعت من شعارات ، بل إنها عملت على توحيد اللغة وقولبة السلوك وتدجين العقول مما جعل مصير أغلب الثورات معروفا و هو إقصاء الخصوم إلى معسكرات الاعتقال أو إلى المقابر أو التهجير إلى الخارج .ومرد هذا إنها لم تتجاوز النسق الذي ترسب في الأنا الجمعية ،هذا النسق غير المفكر به القائم على ذهنيه التفرد والذي يمتد عميقاً في الذهنية الجمعية .وإنها أيضاً لم تنتج واقعاً بديلا حرا غير مؤدلج ، يتسم بالمرونة والانفتاح والابتكار وهذا يتطلب خلق مؤسسات جماعية يمكن الاحتكام لها لا إلى الذهنية الفردية للفرد أو الطائفة أو الحزب ، بل إنها على الضد من ذلك تماماً تمركزت مما جعلها تسقط في العماء الأيديولوجي الذي يتحول فيه الفرد حاكما يمارس دوراً بطولياً تخيلياً يستعيد أنساقا هاجعة في الأنا الجمعية تعود إلى أسباب" سوسيو ـ سيكولوجية" تمس هذه الأنا في طبيعة تكوينها التاريخي تعود إلى قوة ماضيها الذي يلتهم حاضرها . عبر مقولة الشخصية المركزية الرمزية في وجدان الجماعة السياسية لأنها مشغولة إلى حد يومنا هذا بالبحث عن القائد / المعلم / المنقذ من الضلال .
4- إنها لم تعدم خلق أيديولوجيات بديلة ترفع النضال ضدها دينية / قومية / مذهبية .. الخ ؛ فبوجود وأناس مهزومين مقهورين لا يمكن أن يتوقف المجتمع عن خلق أيديولوجية تدميرية جديدة ، لإنه المجتمع المرشح للعنف بأشكاله وأدواته، والمتقبل لكل الأفكار والإيديولوجيات التي تخاطب جمهور المحرومين والمقموعين. فالفقر لا يقود إلى الاستقرار، والبطالة والعطالة لا تؤديان إلى الأمن، بل إلى بروز حالات التمرد والعنف لإنهما الأرضية الاقتصادية - الاجتماعية.
5- إن الأيديولوجية من خلال تمترسها واحتكارها للمعنى والسلطة خلقت آخرين في الداخل والخارج هم أيضاً لهم المطالب نفسها ؛أي: السلطة وبذات المنطلق تعتمد وسائل القهر والعنف والمواطن والوطن أكبر الضحايا فيها .
2- اما الأيديولوجية المقبولة فهي :
إن الأيديولوجية حالة لا يمكن عزلها وإزالتها فلابد من البناء على الإيجابي منها واحتواء السلبي منها .أيديولوجيا تقوم على اللاعنف والتسامح والتعدد والتداول السلمي للسلطة على أساس إن هذا (البلد يتكون من فسيفساء عرقية ودينية ومذهبية استطاعت أن تتوحد وتتعايش مئات السنين . هناك دعوات ومحاولات لتفجير المخزون التاريخي للانقسام والفرقة ، واستدعاء النزعات العصبية من الماضي السحيق من أجل تحطيم وحدة الجماعة في العراق)( ) من أجل خلق تجربة جديدة تستجيب لحاجات العراق لابد من إشاعة مفهوم التسامح ، والعمل على ترسيخ روح التعايش بوصفهما الطريقين اللذين سوف يحققان النفاذ من هذا الخانق .
من التسامح الى الاعتراف:
أن المستقبل في العراق يعتمد على فكرة الاحترام بين الأعراق الثقافية المكونة لهذا البلد فهي تدفعنا إلى الأخذ بفكرة التوفيق بين الثقافات التي عاشها العراق من قبل ، مثال التعددية الثقافية القديمة في العراق قبل الإسلام من جهة والأخذ بالرؤية العالمية التي سادت العراق في العهد العباسي من جهة أخرى و من اجل خلق مرجعيات ثقافية قابلة للنقد والمحاورة بوصفها خبرات ماضية لا يفترض تقديسها بل لابد من إدراك نسبيتها وتاريخيتها أي كونها وليدة فضاء معرفي قابل إلى الحوار بوصفه يمثل أفاقا تلقي تاريخية للنص بحاجة إلى الحوار معها بشكل يحقق انصهار الأفاق بين الماضي والحاضر الذي هو وليد مشاكله المعاصرة والذي يحاول إن يجد لها حلا فعليه إن يعيد استثمار النصوص السابقة القابلة للصرف والاستثمار بوصفها رأسمالا ثقافيا مهما قابلة للتأثير في إحداث مغايرة وجده مما يجعل تلك القراءات قابلة للحوار النقدي والاستثمار المعرفي والاجتماعي وما يترك هذا من متغيرات جديدة في مستوى الفهم مما يجعل الفرد ينفتح على كل المدار بشكل متسامح بوصفها أرثا عاما مشتركا قابلا للحوار والاستثمار في خلق قراءات جديدة تستجيب للمنطق المعاصر .
فالتسامح لغة / مشتق من السماحة, أي: الجود . ويقال: سمح وسامح ,أي: وافقني على المطلوب وأسمحت الدابة : انقادت . والمسامحة المساهلة . وسمح : جاد وأعطى على كرم وسخاء والتسامح التساهل ، أما المعنى الحديث Toleration فقد ظهر في القرن 17 ـ 18م لتفادي تداعيات الحروب والصراعات بين المذاهب والأديان والاتجاهات الفكرية والفلسفية المختلفة التي شهدتها أوروبا ابان القرون الوسطى ، من أجل التوصل إلى صيغ مناسبة تضمن حقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير بشكل متساو لجميع أفراد الشعب ، ويراد بالتسامح اصطلاحاً : موقف إيجابي متفهم من العقائد والأفكار ، يسمح بتعايش الرؤى والاتجاهات المختلفة بعيداً عن الاحتراب والإقصاء ، على أساس شرعية الآخر المختلف دينياً وسياسياً وحرية التعبير عن آرائه وعقيدته . وكان المفهوم في بداية تشكله يتضمن قيماً أخلاقية اختيارية( ).
تبدو أولى مفارقات التسامح فى كونه يولد دائماً فى رحم التعصب، ويتم استحضاره غالباً فى حقب العنف والإرهاب، وكأنه لابد من تعميده بالدم أولاً حتى تكتب له الحياة !
فالمتسامح ، وفقاً لهذه الدلالة ، شخص يتنازل عن حقه تكرماً ومنة على الآخرين الا أن المفهوم الحديث له معان جديدة تعني ان التسامح (يعني الاعتراف بالآخر والتعايش معه على أساس حرية العقيدة وحرية التعبير لا تكرماً ولا منة ، وإنما حق باعتباره تعدد الطرق إلى الحقيقة)( ). فالتسامح لا يعني أن نتخلى عن معتقداتنا ، وإنما التسامح أن نمتنع عن غصب الآخرين لاعتناق آرائنا ، أو قهرهم للتخلي عن آرائهم ، أو الاستهزاء بوجهة نظرهم والقدح بهم. وأن نهجوهم حقا أو باطلا . ويوجب التسامح احترام آرائهم ، وضمان حريتهم في التعبير ، والاعتقاد ، والإجماع . وفي التسامح إقرار بأن الحقيقة ليست حكراً لطرف من دون سائر الأطراف ، وإنها نسبية ، إنه مع اجتماع الآراء المتباينة يظهر الحق وينجلي ، ويزهق الباطل وينطمس ، ويستنير الجميع( ) والتسامح Toleration أيضاً موقف يتجلى في الاستعداد لتقبل وجهات النظر المختلفة فيما يتعلق باختلافات السلوك والرأي من دون الموافقة عليها . ويرتبط التسامح بسياسات الحرية في ميدان الرقابة الاجتماعية حيث يسمح بالتنوع الفكري والعقائدي على أنه يختلف عن التشجيع للتباين والتنوع(6).
إن هذا الكلام معناه الإيمان بالاختلاف بوصف "الآخر "له الحق الكامل في أن يكون مختلفاً من دون أن يقصى أو ينمط ؛ولا شك إن مفهوم التسامح- وبعد الطرح الحديث والدولة الحديثة- خارج خارطة دولة الملل والنحل التي كانت سائدة والقائمة على مركزية وعد الآخرين أتباع داخل هذه الدولة في ظل الخطاب الرعوي القائم على أخلاقيات الطاعة والتكليف فإن هذا المفهوم في صيغة الحداثوية الجديدة يعني الاعتراف بالآخر دون أن يتحول هذا إلى مظهر من مظاهر النفي والنفي المتبادل وبعيداً عن التنميط والدمج والإخضاع ،في ظل أخلاقيات الحرية والتفرد القائم على حق الانتخاب والتعدد الذي يمثل عصراً جديداً مختلفاً عن العصر القديم بالمفاهيم والتصورات والوسائل والغايات.اذ يكون التسامح خلالها متحرراً من الماضي خلال العمل على نسيانه،والتحرر من سجنه حتى يتسنى لنا العيش المشترك ،وهذا يفترض بنا إرساء المحبة "ومن أحب شيئا أحب آثاره".
فالعنف سلوك إيذائي، قوامه إنكار الآخر كقيمة متماثلة للأنا أو للنَّحن، كقيمة تستحق الحياة والاحترام، ومن مرتكزه استبعاد الآخر عن حلبة التغالب، إما يخفضه إلى تابع، وإما بنفيه خارج الساحة "إخراجه من اللعبة" وإما بتصفيته معنوياً أو جسدياً.( )
فإن رهان الاختلاف ليس دينياً بل سياسياً واجتماعياً وفكرياً واجتماعياً عند البعض ويراه الآخرون في طرح إشكالية التسامح (يكون تارة شكلياً ، وتارة أخرى يكون مضمونيا ، ويكون شكلياً حينما لا يتوافر على تلك القبلية الفلسفية .. فالبلد الذي يقرر لنفسه ديناً رسمياً ، لا يعترف للأقليات الدينية إلا بحقوق محدودة ، لا ترقى إطلاقاً إلى مستوى حقوق معتنقي الديانة الرسمية في ذلك المجتمع .. هذا التسامح حقوقي وسياسي واجتماعي شكلي تماماً ، يقوم على أساس الإلغاء الفلسفي أو الديني للآخرين) أما التسامح ألمضموني فلا يتبلور على شكل حقوق محددة ، إلا إذا لم يحمل حدود الدستور ورجال السياسة والسلطة فيه تصوراً بأن كل الحقائق الدينية والسياسية محصورة فيهم . في مثل هذا المجتمع فقط يمكن أن يكتسب التسامح ألمضموني معناه)( ) .
وبهذه الأحوال يحدد التسامح مجالا مفتوحا ؟ صياغة الهوية – مما يعني الإيمان بالهوية المنفتحة اننا بهذا نهتم في صياغة هوية دينمية قابله للتحول والاضافة تهتم كثيرا بفكرة إرث الثقافة القديم ممزوجة في الثقافة الاسلامية التنويرية العالمية التي تبنت حركة التنوير، ولتجاوز ما حدث بهذا نتجاوز الانشقاق الثقافي والاجتماعي الذي حدث في بلدان عربية وغربية ودول العالم الثالث, وهذا يتحقق عبر صهر المناسبات الدينية في قالب وطني وتحول رموزها الى رموز وطنية من مختلف الطوائف مما يسهم في خلق تعدد ثقافي ومن هنا نرى أنه من الواجب التحرك على وفق مفهوم التعدد الثقافي بعيدا عن الانشقاقات العرقية الطائفية التي هي وليدة رهان تاريخي اصبح من الماضي ، فلابد من صهر تلك التواريخ في صياغة تاريخ بعيد عن التنميط الإيديولوجي لكن من دون إغفال الخصائص والتعدد. إذ نحن إزاء نمطين من أنماط الهوية :
الأول : تصور الهوية الثقافية بوصفها خصوصية ماهوية مغلقة . مثل هذا التصور يوقف التاريخ ليصبح صورة هزيلة لما يجب أن يكون عليه .
وهنا نحن إمام مفهوم الدوغمائية كمصطلح :أنها عبارة عن تشكيلة معرفية مغلقة قليلا أو كثيرا ومشكلة من العقائد واللاعقائد ( أو القناعات واللاقناعات ) الخاصة بالواقع .وهذه نجدها في المنظومات الدينية وما تقوم عليه من خلاف تاريخي مذهبي أو فقهي يتم إحياؤها اليوم لتكون الارضيه التي تقوم عليها الأحزاب الدينية باعتمادها تأكيداً لشرعية الذات لا شرعية الخصم حتى يتحول الخلاف الآني السياسي وكأنه خلاف تاريخي عميق ، أي: من اجل مصلحة آنية سياسية يتم شرخ المجتمع بشكل عميق باعتماد الدين أو القومية ويتم تعميق الأمر عبر استعادت مواقف وشخصيات تاريخية من اجل التو ظيف السياسي الذي يوغل بالقتل والدماء , والباحثون في الدوغمائية يرصدون أهم ملامحها :
1- التشديد التكتيكي على أهمية الخلافات الموجودة بين نظام الإيمان والعقائد ونظام اللاايمان واللاعقائد.
2- التأكيد باستمرار على عدم صحة المحاجة التي تخلط بينهما .
3- إنكار ثم احتقار الوقائع التي تظهر وتناقض هذه العقائد والايمانات.
4- المقدرة على قبول تعايش التناقضات داخل نظام الإيمان والعقائد من دون الإحساس بوجود أية مشكلة .
أن هذا النظرة المغلقة تحولت بمقتضاها الخلافات بين الأحزاب من خلاف على النفوذ إلى خلاف مذهبي وطائفي وكان أهل الحزب هم أهل الإيمان الصحيح والآخرون هم الكفار . (بهذه التقاليد التي يزرعها في أعماقه جمع من المسمّين الرسميّين من كلّ الأصناف الكهنوتيّة، بحيث تصبح هذه التقاليد ضرباً من العادات الذهنيّة و الأخلاقيّة الأقوى في معظم الأحيان من عقله السليم الطبيعي)( ).
"من هنا جاءت الحاجة الى إعادة الصياغة والبناء والتركيب للحياة والمجتمعات العربية والعمل العربي المشترك على أسس جديدة باستثمار الطاقات المعطلة والانخراط في إعمال الخلق للمفاهيم والقيم والنظم او للغات والمجالات والأسواق، التي تثمر معرفة وثروة او قدرة وقوة، بها نحسّن السمعة ونستعيد الكرامة المهدورة"
الثاني : إدراك الهوية الثقافية بوصفها هوية مفتوحة؛ أي: شيء ما إنتاجه مستمر ، بمعنى يتم نتاجه بشكل متواصل في عملية دائمة لم تكتمل بعد فالهوية الثقافية بهذا المعنى التاريخي هي موضوع صيرورة شأنها شأن الوجود being ينتمي للمستقبل بقدر ما ينتمي إلى الماضي( ).
من الواضح إن هذا النمط من الهوية غير المكتملة المنفتحة صوب المستقبل ،مع انفتاحها على آفاق الماضي حيث انصهار الآفاق في الحاضر هذا الانصهار الاستجابة الحية لتحديات الحاضر والانفتاح على المستقبل هذه التجربة من أجل تحققها لابد من احترام حقوق الأفراد فإن (المعرفة فردية ، القانون فردي ، الحق فردي وهذا ليس اعتداء على حقوق الجماعة لأن الجماعات لها أن تعبر عن نفسها ، ولكن لا يجوز أن تلغي أفرادها وإذا ألغت أفرادها ألغت مصادر التنوع والحيوية في حياتها ، ومن هنا تصبح الديمقراطية مناخاً وفضاءً للاعتراف بالآخر ، لأنها تحرر الفرد من إلزامات الجماعة ، وإلزامات الجماعة في نمو دائم ، لأن الجماعة دائماً مضطرة أن تتمايز عن الجماعات الأخر ، لذلك ألغت الفرد وتجاوزته.لان للفرد دورا كبيرا في تطور الهوية وتماسك البناء الاجتماعي والسياسي الذي لا يتحقق إلا في نطاق ضرورة الاختلاف, والتعدد الذي يعد الضمانة من أجل تأسيس سلم أهلي وهذا يتحقق بفعل النقد الذي يقوم على نقد أوهام الذات وأخطائها ومراجعة الذات وكشف مزالقها بعيداً عن الدوغمائيات التي تقسم المجتمع على خير وشر, مؤمن وكافر، وطني وخائن.
لأن الحرية التي يجب أن تفهمها وتوافق عليها هي تلك الحرية المرهونة بممارسة النقد الذي يحرر العقل من مسبقاته وأوهامه التي يتمارى فيها من دون كلل وتعيد إنتاجها بتعصب أكبر على أتباعنا . هذا السلوك لا يجعلنا قادرين على تجاوز الضعف إلى القوة والذل إلى العز والتخلف إلى التقدم . ما لم نكتشف عوائقنا وأوهامنا ونغيرها ونفهمها و من قيادتها بعيداً عن الأوهام وآليات الإقصاء والقهر عبر الانفتاح والحوار والمشاركة في صياغة الذات بشكل يحررها من إكراهات الأمس وأدرانه من أجل خلق ذات موحدة غنية بالتنوع وحرية النقد بلا قمع ولا مسكوت عنه ، بهذا نخلق واقعا جديدا متسامحا قائما على قبول المختلف في ظل واقع جديد يقوم على آليات التسامح والتعايش، والحوار بين المكونات حوار عميق على المستوى الاجتماعي والسياسي والفكري فيه تدرك مغاليق الأمور لا أن تعمق الاختلافات السلبية وتحيلها إلى إشكال مغلقة عصية على الحل ،الحل الذي يزيل الآثار الاقتصادية والاجتماعية وهو ما ينطبق أمره على أي مشروع سياسي آخر يحتاج كي ينتقل( من القوة إلى الفعل، بلغة أرسطو، أو من الفكرة إلى الواقع، بلغة ماركس، إلى توافر درجة ما من التناسب والتوافق بين الشروط الموضوعية والشروط الذاتية. وعلى ذلك فإن في جوف كل مجتمع عنفاً أو شكلاً من العنف: أما جارياً أو مؤجلاً، طالما كان ثمة، في القاع الاجتماعي الاقتصادي، ما يهيئ له المناخ والأسباب)( ).
وهذا يفترض بنا إن نراعي الأمور الاتية من اجل تحويل التسامح إلى فعل مؤسساتي :
1-إرساء ذهنية الحوار: في ثقافة الحوار "التسامح" إن الحديث عن الحوار يعني الحديث عن الآخر الذي يمثل طرفا يمكن أن يشكل قطبا في الجدل الفكري إذ لا يمكن أن يتم التعامل معه على انه مجرد صدى للذات عندما يتم إجباره على تلقي الأفكار دون اعتراض أو انفعال بل إن الحوار هو تفاعل تكاملي تجد فيه الذات طريقة لمستويات عدة يزيل الحواجز النفسية بن الأطراف المتضادة ,ويوقف مسلسل التكفير والتفسيق العشوائي. وهو أسلم الطرق للوصول إلى أقرب نقاط الحق إذ أنه يكشف نقاط الاختلاف والتوافق ويوفر أرضية التسامح لبناء جسور حول مختلف القضايا المتفق عليها ويشذب المغالطات الفكرية التي تحيط بالأطراف المتنازعة.ففي الحديث: (أعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله).(اضربوا بعض الرأي ببعض يتولد منه الصواب وامخضوا الرأي مخض السقاء ينتج سديد الآراء). تجسير التعاون بين القضايا المتفق عليها كافة والتواصل لمزيد من اللقاءات والحوارات والمنتديات لبحث القضايا المتنازع عليها. ووضع ضوابط ثابتة للعلاقة بين الأطراف تنهي حالة العداء القائم.( ). عبر الحوار كي نخرج من دوامة العنف والإقصاء، والحوار يضع حد للنزعات الفيزيولوجية والدوافع النفسية التي من الممكن أن تتحول إلى ردود أفعال عنيفة. الحوار كلام ومحاولة تفهم وطريق إلى الحقيقة ورياضة عقلية للفكر، وأرضية تؤلف بينك وبين من أنت بصدد التحاور معه.
إذ علينا ان نتعامل مع الأخر بوصفه صيرورة وليس صوره ماهوية ثابتة قائمة على التعارض الدائم الذي يقودنا الى نفيه وبالتالي يعمق الكراهية البديل التعامل مع الاخر من خلال كونه صيرورة متغيرة ، أي: ( تفاعلات وجهود مستمرة ، لاتكون نتيجتها النهائية مشابهة لها بالضرورة ، حينئذ لن يعود من المستحيل أن نودهم ونحسن اليهم)( )
2- المؤسساتية: إن الانتقال من حالة (الأنا) إلى حالة (الكل) في العمل الحضاري وتكريس العمل المؤسسي سوف يسهم في تخفيض خطر (الأنا الانتمائية) أو التوجه الأوحد وبالتالي هيمنة الفكر الأوحد في الساحة.التي من اهم ملامحها الموروثة هي الذاتية والفردية واللامؤسساتية وقبول بالرجل العظيم ضمن خطاب أبوي.
فالمؤسسات هي الأحزاب السياسية وجماعات المصالح والجمعيات النفعية والخدماتية والمؤسسات المتخصصة في مجالات عمل متعددة.والحالة المؤسساتية تساهم في: تجذير الحالة القانونية بمعنى تعريف الجميع بخصوصياته التي ينطلق من خلالها إلى التفاعل مع الحياة.
يقول دوف ومامكنت: (إن أداء النظام وفاعلية مؤسساته تعتبر من العوامل الأساسية التي تحد من أعمال العنف السياسي التي مكن أن تنجم عن عملية التعبئة الاجتماعية - أي التعبئة الناتجة عن التحول إلى المجتمع المدني).
ويؤكد الباحثان بيتر وشنايدر في دراسة في عشر دول متقدمة خلال مدتين زمنيتين (1984-1985) و(1959- 1968) إلى أن التغير الاجتماعي السريع يؤدي إلى العنف. ولكن في الدول التي لديها مؤسسات سياسية قادرة على التكيف، وموارد اقتصادية ملائمة، يقلل العنف الناجم عن التغيرات الاجتماعية).
أما فيرباند فيعتقد بوجود علاقة خط منحن معتدلة (Liner Relationship Moderate Curve) بين العنف السياسي والتعبئة الاجتماعية. فالعنف السياسي يتزايد خلال المراحل الأولى من عملية التعبئة الاجتماعية، ولكن بعد مرحلة معينة من التعبئة تكون قد تطورت خلالها مؤسسات وعلاقات حديثة تستوعب آثار عملية التغيير وتداعياتها، يتجه معدل العنف السياسي إلى الانخفاض، بينما يستمر معدل التعبئة الاجتماعية في الارتفاع)( ) لقد فشلت حضارتنا في خلق المؤسسة الموضوعية وبقي الشخصي.يمكن الاستمرار في هذه السلسلة طويلاً، لكن حسبنا الاكتفاء ببعد آخر، هو تأبيد الحاكم فرداً او حزباً.يموت الزعيم فيخلفه نجله، او أرملته.وتنتهي زعامة الرئيس للمرة الخامسة فيعدل الدستور لتسديسها وتسبيعها وتثمينها.تداول السلطة، في الدولة الحديثة، هو اساس ثباتها. وتخشى حضارتنا هذا التداول، فالمجتمع ما يزال يرفل في دفء تنظيمات القرابة الأولية، العائلة والقبيلة، ثم الطائفة والجماعة الدينية. و تحتفظ مقولات القرابة بالثبات، غير عابئة بدينامكيات المجتمع الحديث( ).
3- تكريس الديمقراطي: فقد ثبت أنه خلال الخمسين عاماً الماضية كانت نسبة احتمال استخدام القوة والتهديد بين دولتين ديمقراطيتين لا تزيد عن 10%، وكلما زاد غنى دولتين وزادت فاعليتهما الاقتصادية، قلة أرجحية دخولهما في صراع خطير، فالسلام بين الديمقراطيات ليس مجرد نتيجة لسمات اقتصادية وجيو- سياسية لهذه الدول بل نتيجة للديمقراطية نفسها. إذ أن قيام ديمقراطية ما بالطغيان على ديمقراطية أخرى معناه انتهاك الأعراف الديمقراطية نفسها ؛ولهذا السبب فإن الحدود بين الولايات المتحدة وكندا مثلاً بقيت مأمونة لمدة طويلة على الرغم من اختلال ميزان القوى بين البلدين( ).
وكما يقول " علي حرب " أن التجربة الفكرية الفذة لا يمكن تكرارها أو تعميمها وإنما الممكن استلهامها والتفاعل معها بالمقابل هناك هاجس لاهوتي : يقوم على التحرر من هذا الاستلاب بالعودة إلى الأصول لأحيائها والتماهي معها .والهاجس العلماني حيث تبدو الحقيقة في المنظور العلماني والتقدمي بمثابة فردوس مفقود تمثله قيم العقل والاستنارة والحرية والعدالة التي ينبغي تحقيقها للتحرر من هذا الاستلاب .وفي نظر علي حرب في كلا الوجهين تعامل الحقيقة بعقل غيبي ما ورائي بمنطق ثبوتي أحادي أما بالارتداد إلى الماضي أو باللحاق بالتقدم نحو المستقيل الذي لا تنفك نتراجع عنه فالمستلب لا يستعيد هويته ولا يبلغ حقيقته ( ).
فان الديمقراطية تحيل إلى الحوارية التي تظهر عندما يشعر الإنسان انه رهين خياراته الداخلية وهي التي تدفعه إلى كشف الأدوات المناسبة لإيجاد الحلول لها . وهذه هي أخلاقيات الحوار التي تؤمن بان الأخر جزء من الذات وان الذات جزء من التاريخ والواقع والجماهير وبالتالي خير الكلام الذي كان العقل مرشده والحكمة والأخلاق غايته لكن بالمقابل نجد أن ذهنية الإقصاء القائمة على الأحادية و الشمولية تمارس مهامها ضمن فعالية عصابية قائمة على ذلك وسيلة في تشكيل الهوية القائمة على ثنائية ألانا / الأخر في سلسلة طويلة : الأيمان / الكفر ، الأصالة / الانحراف .. يتحول الأخر إلى هامش مقابل مركزية ألذات . أنها ذهنية تتجذر في البيت والمدرسة وتتفرع في المجتمع والحزب وتنغرس بالتسلط والإقصاء في ظل غياب المؤسسات الديمقراطية على مستوى التراث والحاضر .
4- الإيمان بالتعددية: إن ما نريد قوله انه لا منجى من هذا إلا بإقرار ذهنية الحوار ودور المؤسسات الدستورية التي تستطيع أن تحيد الفردية وتأتـي بها بعد إجماع الأمة ، بهذا يتحول التخاصم إلى تنافس مبرر للتمثيل النسبي المقرون بصندوق الانتخاب لا الأبدي المصحوب بسرد سلطوي يسطر ويعمق من سلطة الفرد على حساب الجماعة وهو جزء من اللاشعور الجمعي الذي تشكل عبر تاريخ هذه ألامه.
كل شخص يتمنى من أعماق قلبه أن يرى أمته ومجتمعه وطائفته متوحدة متماسكة بعيدة عن الصراعات والنزاعات، ولكن هذه الأمنية يشوبها سوء فهم التعددية. فالبعض يعتقد أن الوحدة إنما تتحقق باتفاق الآراء وتطابق المصالح ووحدة القيادة وهي صورة مثالية لا يمكن على المدى القريب تحقيقها. ذلك أن الاختلاف بين البشر في أفكارهم وآرائهم ومواقفهم وعاداتهم أمر طبيعي تقتضيه ظروف نشأة البشر حتى أن القرآن الكريم يؤكد على حتمية وجود الاختلاف والتفاوت بين أبناء أدم إذ يقول عز وجل: (ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير)( )
ففي التراث كانت حرية الاختلاف غائبة مقابل حضور ذهنية التمركز حول الذات الراسخة في الممارسات الآتية : في علم الكلام حيث يقول حسن حنفي : أصبح الأيمان باللفظ أي بالنطق بالشهادتين وأصبحت الأمة امة الألفاظ حتى بلا تصديق باطني حتى ولو أضمرت الكفر فإخراج الفعل من مكونات الأيمان عند الناس يقابله إدخال الفعل بلا حدود من الحاكم المتمثل لله . ومن سلطة الحاكم المستمدة من سلطة الله . ويقول حسن حنفي : من هذا التصور المركزي للعالم جاءت فكرة الزعيم الأوحد ، المنقذ الأعظم والرئيس المخلص الملهم يأمر فيطاع . فقد تحولت سلطوية التصور إلى تسلط النظم والإعلاء من شأن القمة على القاعدة فاهم شخص في الدولة هو الرئيس واهم فرد في الجيش هو القائد وفي هذا يقول الفارابي: سواء قلت الملك أو الرئيس أو الإمام أو الله فأنني أقول شيئا واحدا .
وقد افتح علم الكلام آليات تبرير المعطيات : كان عمل العقل في تراثنا الفلسفي عملا تبريريا خالصا ،أي : انه يأخذ المعطيات وينظرها ويحيلها إلى معطيات مفهومية يمكن البرهنة عليها . لم يقف العقل إمام المعطيات محايدا أو ناقدا إياها أو معارضا لها أو متسائلا عن صحتها كانت مهمة التوفيق بين الأضداد ،ومن ناحية أخرى جاءت الأدبيات السلطانية. وقد تحولت إلى أداة للهيمنة من اجل خدمة السلطان وهذا يظهر في الصراع بين النصوص المنسوبة إلى الكتاب مع نصوص المتكلمين والفقهاء ، فهؤلاء يتصارعون فيما بينهم في كسب شرعية التعبير عن السلطة وخطابها الرسمي .( )
6-القبول بالنقد للذات والغير :"من اجل فهم جديد للفكر الديني" يدرك المثقف الذي يسعى للمغايرة طبيعة المشهدية التي تتمظهر في السطوح والمرتبطة بالرهانات المتغيرة أولا: نقذ الذات: "يقول السيد المسيح: إن أحدكم ليرى القشة في عين أخيه ولا يرى الخشية في عينه"
إن القراءات الأصولية لا تعرف سوى مدح الذات وذم الأخر وإسقاط الصور النمطية عليه (لا يفرق بين العقيدة وبين الفكر الديني، بين النص المقدس وتعدد المعنى، بل يقيم مطابقة مطلقة بين ما يقوله هو وبين النص المقدس ملغياً المسافة بين النص والتأويل وهو ما قامت عليه المذاهب والفرق الدينية في كل زمان. فيرفض المتطرف كل التجربة التاريخية، وما أدت إليه من تجديد مستمر للصلة بين نص آمر وواقع متغير)( )
إن كشف الأسباب العميقة يتم باستبعاد ثقافة المؤامرة، وربط كل ذلك بالآخر، الغرب، أو الكافر، أو الاستعمار. إن القرآن يحث على المشي في الأرض للاعتبار، وقراءة التاريخ والأخذ بالسنن والأسباب، وممارسة النقد الذاتي الجريء، والقطع مع عمليات تطهير الذات وتنزيهها ورسم صورة وهمية عنها، بناء على ثقافة تاريخية مزيفة في جزء كبير منها.ويستدعي هذا ضرورة إعادة قراءة الموروث برؤية مختلفة ومنهج جديد يتقاطعان مع السائد في الجو الأكاديمي والثقافي في مسعى هادف إلى خلق مثاقفة بين الواقع وحاجته إلى التحديث بعلاقة مع الأخر عبر أطروحاته القائمة على المغايرة في مجال الثقافة وبين الموروث القديم الذي يمثل أرضا بكراً لم تقرأ بطريقة الاختلاف.فالأفكار ليست مجرد صورً ومرايا، بقدر ما هي استراتيجيات معرفية لفهم العالم والتعاطي معه. بهذا المعنى. كل فكرة هي عبارة عن قراءة، لتفسير واقع أو تأويل حدث، أو صرف لفظ، أو شرح ظاهرة، أو تحليل تجربة، أو فك شفرة، أو تفكيك بنية، أو صوغ مشكلة، أو معالجة قضية، أو تحويل علاقة أو ترتيب صلة)( )
ومن أهم ملامح الاختلاف انه يمثل عتبة جديدة تعبر عن انفصال بين الحداثة التي اتسمت بتمركزها حول مقولات مثل الحقيقة والهوية والموضوعية والتقدم أو الانعتاق الكوني والأطر الأحادية والسر ديات الكبرى أو الأسس النهائية للتفسير. بالمقابل فان ما بعد الحداثة تتصف بكونها بعيدة عن الحتمية والقطعية.
تكشف هذه الأبعاد الثلاثة: الواقع، واللغة والمغايرة المنشودة، والتي لا يمكن إن تتحقق إلا بإزالة الإطلاق وتقديس الأفكار: لان صياغة الذات ابعد من إن تحتويها فكرة أو مؤسسة أو عقيدة، أنها أرحب وأوسع من ذلك. ويوفر هذا لنا فرصة إن نكون منتجين ومغيرين فاعلين لا فقط مستهلكين لأفكار الأخر- سواء كان ذلك من التراث أو الغرب. وهذا ما أشارا ليه" بورديو" مؤكدا انً العناصر الثقافية المكونة للسلطة حيث قال ) :ان السلطة الرمزية، من حيث هي قدرة على تكوين المعطى عن طريق العبارات اللفظية، ومن حيث هي قدرة على الإبانة والإقناع، وإقرار رؤية العالم أو تحويله، ومن ثم قدرة على التأثير فيه)( ). فلابد من إعادة توظيف هذه العلوم ضمن نظام منهجي توحيدي ، وأنموذج بعيد عن الوضعية ، كاشف عن الغايات الإلهية في الوجود والحركة ، لتأخذ هذه العلوم امتدادها الكوني. وهذا يعني الأمور الآتية :
الاسترجاع النقدي لذلك التراث وقراءته قراءة معرفية وتمحيص نماذجه المعرفية على هدى الأصول وهي: الكتاب الكريم منشأ للتصور وعقيدة ، والأحكام وتطبيقاته النبوية ( التي شكلت هدى ولحمة السنة ). باعتبارها المصدر المبين على سبيل الإلزام . تحقيق التواصل والاتصال بذلك التراث وتجاوز فترات الانقطاع بعد استيعابها .التمييز بين الثابت والمتحول فيه .ليتبين ما ينبغي استصحابه عبر الزمان والمكان مما هو ليس بخاص ولا موضعي من ذلك التراث وإخراج الخاص والموضعي منه وتجاوزه يعد استيعابه واستخلاص العبر واخذ الدروس منه ( )
انه يعني إعادة بناء المعارف الإسلامية والعمل على تجاوز رهان التراث عبر إعادة الفحص بالعودة إلى الثوابت في الأصول ، مما يساعده على( إقرار التعددية والتسامح ، بمعنى عدو الغلو في الدين الواحد وسلوك سبيل اليسر،سبيل " التي هي أحسن" من جهة ، واحترام حق الأقليات الدينية في ممارسة عقائدها وشعائر دينها دون تضيق أو ضغط... الخ من جهة أخرى هي حاجة تفرض نفسها بحكم تعدد الممارسات الدينية داخل الدين الواحد وتعدد الأديان داخل المجتمع الواحد ، هذا التعدد الذي هو ظاهرة إنسانية حضارية لا يمكن تجاوزها ولا القفز عليها .
وعليه فالتسامح هنا يعني التخفيف إلى أقصى حد ممكن من الهيمنة ، المقصودة أو غير المقصودة ،التي يمارسها مذهب الأغلبية داخل الدين الواحد ، ودين الأكثرية داخل المجتمع الواحد.) ( ) هذا التصور على مستوى الدين لماذا لا يكون على مستوى السياسية والثقافة ،أي: التعامل مع الأخر بوصفه شريكا في الوطن ، لماذا العمل على إقصائه؟ أو جعله يتماها مع الذات المهيمنة ، بمعنى قبول الأخر بحسب أثره وفعاليته شرطيته أن تكون هناك ثوابت تجعل من العملية السياسية والفكرية ممكنه وقادرة على إحداث اثأر أيجابه أي أن يكون لكل طرف الفكر الذي يرغب به ويختاره شرطيته أن لا يتسم بالشمولية أي يطالب الآخرين بالقوة الخضوع له بل انه يمكن له أن يحقق ما يريد بحسب أثاره في إقناع الأمة بوصفها هي التي تملك سلطة القرار لان الإقصاء لا يولد ألا الإقصاء والتهميش لطاقة الأمة ومستقبلها في ظل هذا الانفتاح العالمي الذي يتطلب منا أن نعيد تأهيل طاقاتنا في كل المجالات حتى نحتل المكانة التي نستحق في الحقل العالمي.
إذ ما أسسنا إلى التسامح، وحق الاختلاف بعيدا عن الظلم وهذا يعني أن نقول لا للتطرف ، والغلو في الدين ،لا للتطهير العرقي ،لا للفكر الأحادي الذي يريد فرض واقع اقتصادي وفكري ،لا للهيمنة الأجنبية على المصالح الوطنية مهما كانت المسوغات وقبول المشاركة الحقيقية بين أبناء الأمة ، وان ما يحدث ألان هو الامتحان الذي يصهر الطاقات من اجل المستقبل المزدهر المتفوق.