رسالة في التسامح
مهدي النجار
من المعروف أن المسيحية نشأت في أحضان الإمبراطورية الرومانية، وقد شهد تاريخ هذه النشأة تصورات مغالية وأفكار متطرفة في تعصبها تدعو إلى اضطهاد الأديان الأخرى غير المسيحية والى استعمال القوة والقمع معها (خاصة في عهد القديس اوغسطين)، وبُرر ذلك بان إرغام الآخرين على اعتناق المسيحية يؤدي على الأقل إلى تعاليمهم، واستندت هذه الدعوى إلى نصوص من الانجيل، وخصوصاً إلى العبارة الواردة في إنجيل لوقا (اصحاح14 عبارة23 ) القائلة: "أرغموهم على الدخول compelle intrare " وتزايدت إجراءات وقوانين الاضطهاد بدخول القرون الوسطى، فقد اصدر الإمبراطور فريدش الثاني قراراً يقضي بإحراق المتهمين بالهرطقة من المسيحيين، وضد المسلمين واليهود. وقد أيد قرارات فريدش الثاني كل من البابا جريجوريوس التاسع (سنة1231 ) وانوسنت الرابع (سنة1252 ) وتولى تطبيق هذه الإجراءات "ديوان التفتيش inquisition " ابتداءً من أواخر القرن الثاني عشر.
ولكن منذ منتصف القرن الخامس عشر بدأت تظهر بوادر التسامح to lerantia واخذ يرتفع صوتها ويشتد ساعدها بقيام الإصلاح الديني على يد مارتن لوتر (1483 – 1546 م) وكانت دعوته موجهة ضد البابا والكنيسة فقد قال لوتر: "ينبغي التغلب على الملحدين بواسطة الكتابة، لا بواسطة النار" أما قيام الفرق داخل المسيحية فهو في نظره أمر طبيعي. يقول في هذا: "لابد من قيام فرق (انشقاقات) ويجب أن تدخل كلمة الله ساحة القتال وتناضل…ولتجتمع النفوس مع بعضها ولتلتقي…حيث يوجد نزاع ومعركة، فلابد أن يسقط البعض وان يُجرح البعض الآخر" وهنا تجدر الإشارة إلى تعاظم اضطهاد الكنيسة الانجليكانية للمذاهب الأخرى ونشر روح التعصب من خلال مؤلفات كتابها، خاصة كتاب : "قول في السياسة الكنسية" لمؤلفه باركر (أسقف اكسفورد) ويصرح باركر بأنه قصد بهذا الكتاب لا أن يقنع "المخالفين" بفضائل العقيدة الانجليكانية، وانما تنبيه السلطات المدنية والروحية إلى الخطر الناجم عن وجود "المخالفين" لأنهم بحسب ادعائه " أسوء واخطر أعداء" لكل شكل من أشكال السلطة. لقد كان كتابه بمثابة إعلان حرب على كل من يخالفون الكنيسة الانجليكانية في العقيدة. وكان باركر يعتقد إن المَلكية تقوم على قرار من الله، ولهذا كان يقول إن القائمين بالأمر في الكنيسة والدولة اقدر على القوانين والسياسات من غيرهم. وعلى أساس هذا المبدأ – أي سلطة الملك المطلقة وخطورة المخالفين على النظام – دعت الأغلبية في البرلمان إلى الأخذ بمبدأ اضطهاد الآخرين وخصوصاً الكاثوليك. وقال توماس ادواردز وهو من أشدهم خصومة للتسامح: "إن الكتاب المقدس وشهادة رجال الإصلاح الديني – وهم بمثابة آباء جدد للكنيسة – يوافقون على العقاب البدني للهراطقة وعلماء الدين الزائفين" وخلاصة رأيه إن " التسامح هو اكبر خطة وضعها الشيطان" .
إزاء هذا التعصب الشديد ضد "المخالفين" انبرى بعض الكتاب للدفاع عنهم والدعوة إلى التسامح معهم، منهم الكاتب وليم بن في كتابه " معقولية التسامح سنة 1687 الذي يؤكد فيه: "إن روح الإنسان ليست في متناول سيف الحاكم" ولهذا لا يجوز مطلقاً استخدام الإكراه في شئون الإيمان لان القوة لا يمكن أن تضع نفسها محل تلك الأمور التي تتصل بعقل الإنسان.قد يفلح الإكراه في إيجاد نوع من التوافق الظاهري في ممارسة العبادات والنشاطات الدينية، لكنه يخلق منافقين – حسب تعبير وليم بن – في أمور الدين. والى جانب انجلتره كانت الدعوة إلى التسامح في هولنده وفرنسا في نفس الفترة مرفوعة اللواء قوية النداء، ففي سنة 1681 اصدر بيير بيل كتاباً بعنوان: "نقد عام لتاريخ الكلفانية" يقول فيه: " إن من الواضح إن الدين الحق، ايَّاً ما كان، لا يحق له أن يدعي أي امتياز يخولّ له العنف مع الديانات الأخرى، ولا يحق له أن يدعي إن الأفعال التي يرتكبها هو بريئة لكنها تكون جرائم إذا ارتكبها الاخرون، انه عدوان أكيد على حقوق الله أن يريد الإنسان إكراه الضمير".
نعود الآن إلى رسالة جون لوك في التسامح التي تعد بمثابة انقلاب جوهري مع أفكاره السابقة ضد التسامح، ويقال إن السبب في تغيير فكره باتجاه التسامح هو انه لما ترك انجلتره سنة 1645 وأقام بضعة اشهر في مدينة "كلف" الألمانية وكان يسودها تسامح ديني مدهش اثر تأثيرًا بالغاً في نفس لوك. وقد عبر عن هذا المعنى في رسالة إلى أحد أصدقاءه يُخبره فيها انه شاهد الناس يمارسون عبادتهم بحرية ويحتمل بعضهم البعض. يقول في الرسالة: "إن كل واحد منهم يسمح للآخر في هدوء أن يختار طريقه إلى السماء، ولم ألاحظ أي عداوة بينهم في أمور الدين…انهم يرونَّ آراء مختلفة دون أن يعتلج في نفوسهم أي بغض سري أو حقد". وبعد ذلك باثني عشر عاماً نجد لوك يسجل ملاحظات عن التسامح في مذكرة بنفس العنوان ( أي التسامح) بتاريخ 1679 يسجل حججاً سيستعين بها حين يكتب " رسالة في التسامح". فيقول مثلاً: " ليس لأي إنسان السلطة في أن يفرض على إنسان آخر ما يجب عليه أن يؤمن به أو أن يفعله لأجل نجاة روحه هو، لان هذه المسالة شان خاص ولا يعني أي إنسان آخر.إن الله لم يمنح مثل هذه السلطة لأي إنسان، ولا لأية جماعة، ولا يمكن أي إنسان أن يعطيها لإنسان آخر فوقه إطلاقاً ". لقد استمر لوك يكتم انه مؤلف "رسالة في التسامح" حتى قبيل وفاته بوقت قصير حين صرح بهذا الامر في حاشية وصيته قبل وفاته بشهر واحد (توفي سنة1689 ) وقد طبعت الرسالة في مدينة" خودا" الهولندية سنة 1689 (أي في حياة لوك) مترجمة عن النص اللاتيني إلى اللغة الإنجليزية ولقيت هذه الترجمة رواجا هائلاً فنفدت في شهور قليلة فأعاد الناشر طبعها سنة 1690 وقد أفادنا المترجم الموسوعي الدكتور عبد الرحمن بدوي (مترجم الرسالة عن النص اللاتيني إلى العربية/1987 ) في صياغة الأفكار الرئيسية في الرسالة على النحو التالي:
1-لابد من التمييز بين مهمة الحكومة المدنية، وبين مهمة السلطة الدينية، واعتبار الحدود بينهما ثابتة لا تقبل أي تغيير.
2-رعاية نجاة روح كل إنسان هي أمرٌ موكول إليه هو وحده، ولا يمكن أن يعهد بها إلى أي سلطة مدنية أو دينية.
3-لكل إنسان السلطة العليا المطلقة في الحكم لنفسه في أمور الدين.
4-حرية الضمير حق طبيعي لكل إنسان.
5-التجاء رجال الدين إلى السلطة المدنية في أمور الدين إنما يكشف عن أطماعهم هم في السيطرة الدنيوية. وهم بهذا يؤازرون من نوازع الطغيان عند الحاكم. والمشاهد على مدى التاريخ إن تحالف الحاكم مع رجال الدين كان دائماً لصالح طغيان الحاكم فهو الأقدر على التأثير فيهم، وليسوا هم قادرين على تقويمه وردّه إلى السبيل القويم إن جنح إلى الظلم والاستبداد.
6-لا ينبغي للحاكم أن يتسامح مع الآراء التي تتنافى مع المجتمع الإنساني أو مع تلك القواعد الأخلاقية الضرورية للمحافظة على المجتمع المدني.
7-يستثني لوك من التسامح تلك الفِرق أو المذاهب الدينية التي تدين بالولاء لأمير أجنبي، لكن لا لاسباب دينية، بل لاسباب سياسية.
8-يجب ألا تُتهم المذاهب المخالفة للمذهب السائد في الدولة بأنها بؤر لتفريخ الفتن وألوان العصيان. إن هذه التهمة لن تكون لها أي مبرر إذا ما قام التسامح، فان السبب في وجود دواعي الفتنة عند المخالفين هو ما يعانونه من اضطهاد من جانب المذهب السائد. ولهذا فانه متى ما زال الاضطهاد واستقرّ التسامح معهم، زالت أسباب النوازع إلى الفتنة والعصيان.
9- ومن أسباب التآمر والفتن استبداد الحاكم ومحاباته لاتباعه ولبني دينه، لهذا يرى لوك أن من حق الأفراد أن يستخدموا القوة في الدفاع عن أنفسهم ضد السلطة الظالمة.
إننا في المجتمع العراقي رزحنا طويلاً ( وما زلنا) تحت طائلة تاريخ مرير ومروع، تتجذر في داخلنا ثقافة التعصب والإكراه. ما أحوجنا الآن في لحظاتنا العصيبة هذه أن ننتزع أنفسنا من هذا التاريخ المفزع ونندرج في ثقافة التسامح، نستوعبها ونتشبع بها ونستشرف آفاقها، نأخذ بدعوتها الحارة إلى حرية الضمير بوصفها حقاً طبيعياً لكل إنسان، إن حاجتنا ماسة إلى تحقيق هذه الدعوة بالفعل، لا بمجرد القول وبهذا التحقيق فقط يمكننا أن ندمر قواعد العنف والقهر وان نغادر تاريخ الآلام والقسوة والفواجع إلى الأبد، وبذا نصحح مسار تاريخنا وندخل أسوة بشعوب العالم المتحضر تاريخ المسرات والعقل والازدهار والسلام الاجتماعي.